افتتاحيّة | زمن الفاشيّة الأمريكية

31/01/2025
Whatsapp Image 2025 01 31 At 20.38.47

مشاهد زحف أهل غزة نحو شمالها والبسمة تعلو وجوههم رغم الدمار، معطوفًة على مشاهد المقاومين الفلسطينيين وهم يخرجون بعد خمسة عشر شهرًا من الإبادة بسلاحهم من بين الركام مرافقين أسرى العدوّ وسط أهازيج أبناء القطاع الصامد. ومثلها مشاهد أبناء جنوب لبنان وهم يحرّرون بأجسادهم وأرواحهم قراهم من دبّابات الاحتلال. وكذلك فرحة الأسرى الفلسطينيين المحرّرين وعناقهم لأفراد عائلاتهم التي غُيّبوا عنها لعقود… كلّها مشاهد عزّ وتحدٍ وانتصار على إرادة العدوّ الصهيوني، ومن ورائه المركز الامبريالي الأمريكي والغربي قاطبة، بإخضاع أحرار فلسطين ولبنان إثر أكبر وأبشع حرب همجيّة يشنّها هذا الكيان السرطاني منذ زرعه في قلب المشرق العربي.

استبسال المقاومين في مختلف الجبهات، وصمود حاضناتهم الشعبية، ورفضهم بكلّ إباء الانكسار والاستسلام لمطالب العدوّ وإجهاضهم أهدافه، تُمثّل بكلّ المعايير انتصارًا لا يُنقص شيئًا من فداحة الخسائر البشرية التي لا تُعوَّض، ولا من حجم الدمار غير المسبوق، ولا من بشاعة وهول الإبادة الجماعية التي شهدناها طيلة الفترة الماضية.

الإقرار بهذه الاستنتاجات لا يغنينا عن التفكير بعقلانية في ما هو آت. للأسف، على عكس ما يعتقده البعض المتفائل، يبدو أنّنا مازلنا بعيدين عن نهاية الكابوس الذي يتابعه هذا العالم العاجز، بل المتواطؤ، منذ انطلاق المواجهة الأخيرة. بل نحن على الأرجح إزاء فصل جديد أكثر قسوة ووحشية في ظلّ ما يتكشّف كلّ يوم أكثر من مواقف للمعتوه العنصري دونالد ترامب وأركان إدارته الفاشية. فهذا المجرم الذي يحكم الدولة الامبريالية الأعتى في العالم لا يكتفي بالدعم الأمريكي اللامشروط للعدوّ الصهيوني. بل إنّه بات يلعب دورًا رياديًا في حسم المعركة لصالح المحميّة الصهيونية.

ويكفي أن نستعرض بعض المواقف والقرارات التي اتخذها ترامب منذ أن وقع تنصيبه قبل عشرة أيّام: رفع الحظر – المنافق – الذي كان مفروضا من إدارة بايدن عن بعض الأسلحة الموجّهة للجيش “الاسرائيلي”؛ إصدار أمر تنفيذي ضدّ المؤسسات الجامعية الأمريكية التي سمحت بمظاهرات طلابية محتجة على الإبادة والتهديد بطرد الطلبة المتعاطفين مع المقاومة؛ حديثه الفجّ عن ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر (وقد نُقل عن مسؤولين صهاينة التقوا مبعوثه إلى المنطقة أنّ الأمر لا يتعلّق بكلام دعائي)؛ رفع العقوبات عن بعض المستوطنين الصهاينة الأكثر اجرامًا ضدّ مواطني الضفة الغربية، التي سبق أن فرضتها عليهم إدارة بايدن، التي لا تقلّ إجرامًا وعنصرية عن ترامب، لكنّها تفوقه نفاقًا وحرصًا على “الهيمنة الناعمة” للمركز الامبريالي.

يُعدُّ كلّ ما سبق، إضافة إلى معطيات متعلّقة بالوضع السياسي الداخلي بالكيان الصهيوني (مثل تأكيد الوزير سموتريش أنّ نتنياهو وعده بمواصلة الحرب مقابل بقائه بالحكومة)، مؤشّرات جدّية على أنّ العدوّ ينوي استئناف الحرب على غزة حالما يستعيد ما بقي له فيها من أسرى. وتبريره جاهز طبعًا: لن يقبل ببقاء فصائل المقاومة – وعلى رأسها حركة ’حماس’ – مسيطرة على القطاع. كما أنّه من غير المستبعَد أن يستفيد من التطورات الأخيرة لاستئناف حربه ضدّ المقاومة اللبنانية، فضلا عن تصعيد هجماته ضدّ ’أنصار الله’ في اليمن وضدّ النظام الإيراني. هذا بالتوازي مع عزمه المُعلَن استكمال ضمّ الضفة الغربية وتوسيع الاستيطان فيها.

قبل ستة شهور، كان يمكن اعتبار هذا السيناريو ضربًا من الخيال المتشائم، لكن وصول ترامب، معطوفًا على الانجازات التي تحقّقت للعدوّ مؤخرًّا، يجعله واقعيًا، بل وواردًا جدًا.

من الواضح أنّ إدارة ترامب الجديدة لا تقلّ صهيونية ولا غطرسة عن السابقة. فهاهو منذ أيامه الأولى بدأ بطرد المهاجرين من الولايات المتحدة، وفي تهديد بلدان مجاورة له كالمكسيك وكندا وكولومبيا بالحرب التجارية، وحتى بالعسكرية كما حصل مع بنما؛ كما أوقف “المساعدات الأمريكية” لقطاع الصحة في عديد البلدان الأفريقية (وهي في الأصل من أسباب تبعيّتها)، وسحب بلاده من المنظمة العالمية للصحة. كما انسحب مرّة أخرى من “اتفاقية باريس للمناخ” الهادفة إلى التقليل من انبعاثات الغازات الدفيئة والخ. هذا دون الحديث عن العداء المتصاعد تجاه الصين…

لاشكّ في أنّ هذا اليميني العنصري لا يمثّل شخصه فحسب بل هو يعبّر عن مصالح قطاعات نافذة داخل الطبقات البرجوازية الامبريالية في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. ولا يُمكن التعامل مع وصوله إلى السلطة كما لو كان مجرّد عثرة طريق أو منعطف خاطئ في المسار الليبرالي “للديمقراطية الأمريكية العريقة” كما يواظب على وصفها الإعلام السائد. بل هو يمثّل “الرأسمالية (الأمريكية) في حالتها الرجعيّة” كما أوضح المفكّر والقائد الشيوعي ليون تروتسكي في شرحه للفاشيّة قبل عقود.

صحيح أنّها ليست المرّة الأولى التي يصل فيها هذا الفاشي المعتوه إلى “البيت الأبيض”، كما يحاول بعض المعلّقين طمأنتنا. لكن، بالنسبة لمنطقتنا العربية الوضع مختلف. فهو يعود في ظلّ تغيّر نوعي في المشهد الاستراتيجي، يتّسم بانتكاسة قويّة لما يُعرف بـ”محور المقاومة”، معطوفًا على انكشاف مدى الانحطاط والتبعيّة الذي وصلته بقية الأنظمة العربية (تحديدا تلك المحيطة بفلسطين المحتلة وفي الخليج العربي). ولذلك لا يخفي ترامب نيّته مساعدة نتنياهو في “إعادة ترتيب الشرق الأوسط” باتجاه حسم الصراع لصالح الكيان الصهيوني وتصفية القضية الفلسطينية وتوسعة حظيرة الأنظمة المنخرطة في “اتفاقيات أبراهام” التطبيعية والاستسلاميّة.

وبهذا المعنى، فإنّه حتى الدول التي كانت نسبيًا بمنأى عن الضغوطات الأمريكية للانضمام الكلّي إلى المعسكر الصهيوني الأمريكي بالمنطقة (مثل تونس والجزائر والكويت وموريتانيا) لن يُسمح لها بالحفاظ على هذا “الامتياز”. ربّما يمكن لدول نفطية مثل الجزائر والكويت أن تصمد وتناور بعض الوقت، لكن ماذا عن دولة كتونس لم تغيّر شيئا يُذكر من سياساتها الاقتصادية التابعة للمراكز الامبريالية ولمؤسساتها “الدولية”؟ خاصّة في ظلّ حالة انسداد سياسي خانق وتضييق واسعٍ على الحرّيات، بما لا يسمح بحدّ أدنى من التدافع الديمقراطي القادر على تعديل الأوضاع.

يجب أن يكون واضحًا لنا بأنّنا سنكون إزاء “خمس سنوات عجاف” على الصعيد الدولي والإقليمي، ستتواصل فيها معاناة شعوبنا من سياسات وحروب العدوّ الصهيوني والأمريكي. ولا شكّ في المقابل، بأنّنا سنشهد المزيد من الصمود ومن البطولات من قبل أحرار أمّتنا (خاصة في فلسطين وما جاورها). لكن، هذه المرّة لن يكون ممكنا اتبّاع “سياسة النعامة” والجلوس على الربوة في زمن التوحش الفاشي الأمريكي. بل على شعوبنا وسياسيّينا أن يختاروا بوضوح أحد النهجين : الاستسلام أو المقاومة. ولا حاجة لتأكيد ما نعرفه جميعًا، وتأكدنا منه أكثر منذ “طوفان الأقصى” المجيد : تظلُّ كلفة المقاومة، مهما بدت باهظة ومؤلمة، أقلّ بما لا يقارن من كلفة الاستسلام والخضوع.

مقالات ذات صلة

  • ما وراء قانون الشيكات – “الإدماج المالي” بالقوّة في اتجاه أمولة الاقتصاد… وانسجاما مع “التوصيات”

    ينطلق العمل بما سُمّي قانون الشيكات الجديد بداية هذا الشهر (أي فيفري 2025)، إلاّ أنّ المجتمع بدأ يستشعر آثاره منذ…

    اقتصاد سياسي

    Whatsapp Image 2025 02 04 At 16.25.27
  • عبودية الديون أو الشكل الآخر للاستخراجية 2: في واجب الانسجام واستخلاص الدروس… أيّ برنامج شيوعي؟

    أمّا بعد؟ الآن وقد قُلنا ما قُلنا، ما عسانا نفعل كي لا يبقى كلامنا بكاء وعويلا في الصحراء؟ كيف لنا…

    اقتصاد سياسي

    Walid2
  • ترجمة | ماذا وقَعَ فعلاً في فنزويلا؟

    ترجمة - خاصّ بانحياز - مروة الشريف نُشر المقال الأصلي في موقع "التقدّمي" The progressive  الأمريكي بتاريخ 2 أكتوبر 2017،…

    إختَرنا لكُم, الأخبار, العالم, بلدان الجنوب, ترجمات, رأي, هام

    Venezulea Opposition Protest
  • الحملة التونسية للمقاطعة ومناهضة التطبيع تطالب بطرد السفير الأمريكي وبوقف كافّة أشكال التطبيع، بما فيه غير المباشر

    أصدرت اليوم الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني البيان التالي، في تفاعل مع قرار الرئيس الأمريكي نقل سفارة…

    الأخبار, الوطن العربي, تونس, هام