عبير قاسمي
مدوّنـة من تونس
“آخرتهــا مُـوت وعمرنـا ما نخُـونو” .. شِـعار يتكررّ من لافتـةٍ إلى أُخرى، كُـتِبَ عـلى عجلٍ بنفسِ الأحـمرِ القانِي وبنفسِ خطّ اليد المُـرتعِشْ. هُـو الشِعـارُ المِحوريّ الذي إتفقّ علـيهِ مُنظّـمُـو ومُسانِدُو حملـةِ “تعلّــِم عُــوم” تعلَمّ السباجة) ، التّي إنطلقت أولى تحرُكـاتها المركزيــة أوّل أمسِ السبت 21 أفريل من أمامِ حديقـة النادي الإفريقي بالعاصمــة وصولا للمسرحِ البلدِي بـ”شارع الثّــورة”.
بِزخمِ المُدرجاتِ الغاضِـبـة وشِعاراتِـها المُعاديـةِ للعُـنفِ البولسيّ في الملــعبِ، والشّـارِع، الساعةِ الثالثـة إلّا رُبع، إندفعتْ لفظةُ “تعلّــم عُـوم .. تعلــّم عُـومْ” من الحناجِـر الجافّة، خشِنةً، واضِحةْ، مُعلنـةً بدايةَ التحرّك المُطالب بالكشفِ عن حقيقـةِ وفاةِ مُشّـجعِ النادي الإفريقي عُمر العبيدي الذي لقي حتفه غرقا في وادِي “مليان” برادس مساءَ السبت 31 مارس المُنقضي.
معَ أولِّ خيطٍ من خيُوطِ شمـس نيْسان، يبدأُ يومُ مجموعةٍ من شبابِ “الـnorth vandals” (واحدة من المجموعاتِ المُشجعة للنادي الإفريقي والتّي انتمـى لها عُمر) الذّين لم ينامُـوا سِوى ساعتيــن على الأغلــب، بعـد ليلةٍ طويلـةٍ من التحضيراتِ للمسيرة، هذا الشـكلُ الجديدْ نسبيّـا على أبناءِ الحركة، الذين تعوّدُوا السهر تحضيرًا للـ”دخلـة”. ليلــةٌ من السجائِـرِ الرّخيصةِ المهربّة والفيلتـر بِـلا سُـكّــر، وصبـاحٌ يُشبِـهُ صباح السّـبتِ الذي فقدُوا فيه صديقهُـم ؛ مُجتمعُـونَ لتخطيطٍ آخيرَ ليومٍ حافِـلْ، دُونَ عُمـرْ، لـــأجلِ عُـــمرْ.
اقتبس مُشجّعو الإفريقي هاشتاغ “تعلمّ عُوم” الذي إكتسح منصات التواصل الإجتماعيّ على مدى ثلاثةِ أسابيع من شهادة أحد مشجعي النادي، الذي قال إن أعوان الأمن قاموا بمحاصرة عُـمر ودفعه إلى القفز في الوادِي بعد مُطاردةٍ طويلة رغم اعلامه إيّاهم بأنّه لا يجيد السباحة، لتكون إجابة أحدهم “تعلم عوم”، ليقفز عمر بعدها في الوادِي، بعد دقيقتينِ استجمع فيهما أنفـاسـهُ التّي انقطعت مرة واحدة وإلى الأبد فيمـا تبقّـى من أمطارِ مارس، والوحـلِ الذّي اختلط بالبلاستيك والأوساخِ، والمــوتْ.
ينطـلقُ قطارُ الضاحيةِ الجنوبيّــة حامـِلاً المشجعين وحقائبهم الممتلئةِ بالشماريخِ والغضب، قاطعًـا بهم المدى إلــى العاصمة، حيثُ ينتظرهم بقيّـة رفاقهم. الطريقُ من المحطّـةِ إلى الحديقة “أ” ليست بقريبة ولا ببعيدة، هي بمسافةِ الثورة. أعينُ المواطنين ورجال الأمن تتابع المشجعين بحذر، يتابعون السّـير معًا إلـى مكانِ التجمّـع، بعضهم يُـغنّـي “عمري ما نخون” والبعضُ الآخر يراجِعُ شعاراتِــه، فيمـا تنتطلقُ حيرةٌ واثقة من أحدهم :
“زعما يحضروا برشا اليوم؟ “
أبيضْ وأحمرْ؛ السِلمُ يلتقِي بالحربِ :
هـي إذن مسيرةٌ سِـلمـية ستنطلقُ تمام الساعة الثالثةِ بشعارات مُـوحدّة. “في ساعةٍ كهذه تقتربُ الجباهُ من السماء” هكذا قال العراقي جمال حسين علي واصفًـا ساعة الحرب في جنوب لبنان، وهذا ما تُشاهدهُ على مقربةٍ من التجمهرْ : جباه عالية ورؤوس مرفوعة، الأبيضُ والأحمر يسيطران على المشهد، تكادُ ترى النار في الأعينِ الغاضبة، القبضاتُ تُرفع، الصيحاتُ تعلُـو، ودُخان الشماريخِ يرتفِعُ “دقّـت ساعتنا وإبتدينا” قال الشيخ إمام.
إبتديـــنَا.
تتسارع الخُــطى إلى المسرِح البلدي والأدريناليــن يدفعُ الدماء إلى أعلى الوجُـوه والنبضُ يشتّـدُ في صدورِ الحاضرين، شعاراتُ فريقهم انسحبت من المدرجات العمودية الضيقة إلى الشارعِ الممتدّ الواسِع، تتوحدُ على ألسنة المئات من المواطنين، ترنّ في أعماقهم ثم تتدافع إلى سماء العاصمة، بـحدّتها -وعُنفها أحيانًا- على مقربة من وزارة الداخلـيّـة، وإلى الشارع الرّمــز الذين ظنّـوا أنه سيقطعُ مع العنفِ والقمعِ ذات جانفي، يعودون إليــه مُطالبينَ بحقِّ فقيدٍ آخر، مظلمة أخرى، انجرت عن الهُـوة بين المواطن والبوليس، والهوة بين مشجعي الفريق الواحد.
أمام المسرح البلدي : ضاقت الرؤيةُ واتسعت العبارة :
تمام الرابعــة، وفي زحام المتظاهرين والعرق الذي بلل قمصانهم وسواعدهم وجباههم، ودخان الشماريخِ الذي عتّـم الرؤية بعض الشيء، اختطلت شعاراتُ “مانيش مسامحْ” و”حاسبهم” بشعارات “تعلّم عُوم”. وجوه آلفتُها حاضرةً في كلّ وقفةٍ مطالبة بالمحاسبة وتكريس “مبدأ عدم الإفلات من العقاب” ، حملات إختارت التواجد ضمن التحرك ومساندة جمهور النادي الافريقي في نضاله ضدّ العنف في الملاعب، وخارجهـا، العنف قُرب الوادي وفي الغاباتِ وعلى الطريقِ السريعة وفي الشارعِ وفي كلّ مكانٍ وزمان.
يراقب رجال الأمن المنتشرون بكثافةٍ قرب المسرح وعلى كامل “شارع الثورة”، فيما يساعد “ أسامة ” المتظاهرين على تنظيم الإحتجاج حتى يبقى سلميّـا ولا يخرج حماس المتظاهرين عن السيطرة.
تأطير الإحتجاجات أمر تعلّــمهُ أسامة من الجامعة، فهو شاب منخرط في الإتحاد العام لطلبة تونس.
يقول أسامة : “إحتواء غضب المتظاهرين أمر ضروريّ، مررنا به كشباب الثورة في حملات “شكون قتل شكري” و”مانيش مسامح” وفي تحركات المفروزين أمنيّـا، ومازال الشارعُ حيّـا وغاضبًا بنفس الوهج الثوري. رغم عزوف الشباب عن الحياة السياسية، إلا أنّ كلّ التحركات من الثورة الى اليوم، شبابية بإمتياز“
الشباب هم وقودُ هذا التحرّك، مشجعّـو النادي الإفريقي ومُساندو الحملةِ، بطرقهم الإحتجاجية الجديدة المقتبسة من المدارج: من الطنبور إلى الشماريخ والأعلام واللّافتات الطريفة. تتواصلُ الشعاراتُ بنفس الحماسِ، يتسّعُ التجمهُر أكثر، بين من اعتلى مدارج المسرح، وصوتٍ يقود الشعارات من وسطِ المتظاهرين الذي تجمعّوا أمامـه، ومن توقف للمشاهدة، ومن رفع هاتِـفهُ لبثّ “لايف” على صفحتِهْ.
من يحفظُ “انا اللي مانخون” يرددّهـا بتأثّـرٍ واضِـح، بثباتٍ من أول الأغنيةْ وما إن يصِل الصوتُ الواحد إلى “مانخُون” حتى يبدأ الجميعُ بالقفزِ على إيقاعِ الكلماتِ، وتلاحظ أنّ الصوت صار أعمق، بعد أن كان على نفس بقية الطبقة مع بقية الشعارات. اللافتاتُ على السواعد والأعلامُ لم تنزل لثانية من أول التحرك لآخره، والصوتُ الذي يقود الحشد منَ المُكبّر يواصل رغم بحّـةٍ واضحة.
الساعـةُ في يدك تُشير للسادسة، تقول مذيعةُ الأنباءِ مُستفتحةً موجز الأخبار في إحدى الإذاعات: “تجمّع العشرات من جماهير النادي الإفريقي، مساء اليوم السبت 21 أفريل 2018، أمام المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة في وقفة للمطالبة بالكشف عن المتورطين في وفاة المحبّ عمر العبيدي غرقا.”
تنتظِــرُ الميترُو، محطّــةُ برشلونة تغصُّ بمشجعي النادِي الافريقي، قمصانهم تميّزهم، يبتسمون لبعضهــم، يأتِـي الميترو رقم 4، يتّـــجهُ الجميع بتدافعٍ للباب، يُغلق البابُ بصعوبةٍ بعـد مُحاولاتٍ عديدة من السائق.
غير بعــيدٍ عنك، يقفُ مشجّعٌ منَ الـnorth vandals، تُـميّزهُ من الوشاحِ الذي يلف رقبته، يحكم قبضتهُ على العمود الذي يتمسّـكُ بــهِ الجميعْ، يُفتحُ البابُ في محطّة الجمهوريّـــة .. ينزلُ البعض.. والآن، تستطيعُ رؤية ما كُتب على قميصهِ بوضوحْ :
“Resistenza.”
(مقـــــــاوَمــــــة.)