مسرحية “نشوة الأعماق”: حين يغوص المسرح في أعماق الذات البشرية

21/02/2018
Nachwa 5

خاصّ – فنون – مالك زغدودي

ناشط شبابي مجاز في الفلسفة مهتم بالأدب والسينما

ضوءٌ خافت ، صوت يشابه خرير المياه أو ربّما كان صوتًا لحفيف الأفاعي. مخيلتك وحدها ستحدّد الصوت.

من بين أكوام الأكياس البلاستيكية تخرج مجموعة المُمثّلين في حركات تتناسق أحيانا وتتباعد وتيرتها أحيانا أخرى. تتغيّر الموسيقى و تتسارع خطوات الراقصين على خشبة المسرح.

تسعةٌ هو عدد الممثلين المُتمايِلين في تلاقٍ روحيّ وحيرة تجتاح المتفرجين الذين ينتظرون سماع الحوارات كما جرت عليه العادة. لكنّ الرقص والاختفاء بين بحرٍ من أكياس سوداء و بيضاء متواصل. تقترب أجساد الراقصين وتبتعد، وتتلاحم أحيانا أخرى كأنك في لوحة من الرقص الصوفي أو حتى البوتو اليابانية.

ما هذا السفر أو التشبيه الغريب ذاته؟ أو لماذا تتكرّر المفردات المختلفة في حديثنا عن هذه المسرحية أو الكوريغرافيا؟ إذ أكتب تارة راقصين و أخرى ممثّلين. هي هكذا: حالة من الرقص والتمثيل الذي يقدح أسئلة لا تنتهي.

إيمان السماوي مخرجة العمل وإحدى ممثّلاته أيضا، كتجسيدٍ لحالة عامّة في المسرحية؛ تلك الثنائيات، حتى في الألوان، أسود وأبيض، وبُنّي كخلفية مكونّة من صناديق  الورق المقوّى. ربما هي أسئلة حول الوجود، أو تجسيد للبعث الجديد وإعادة الولادة وسط ركام الصناعة والإفراط في الكلام.

أيّها المتفرّج هنا لا تُنطق بنتُ شفَة، هنا اللاوصاية. فوحدهما عقلك وخيالك  ما سيفسّران لك هذه الحالة من الصمت والرقص والموسيقي، وكيمياء تُخلق بين الممثّلين والحضور. ليس هناك زمان أو مكان محدّد هنا. سرمدية زمكانية أو ربّما بعدٌ رابع كما تخيّله أينشتاين تنسُجه لنا هذه الفسيفساء التى تفرج في أعماقك عن أسئلة دون أن تشعر.

وأنت منغمس في تلاعب الأضواء وتغيّر الموسيقى وتخيّل أيّ ميثولوجيا استُوحَت منها هذه القطعة الفنية، يتقدّم أحد الممثّلين وينزل عن الركح، فيكسر ذلك الجدار بين الممثلين و الجمهور. كسر الجدار الرابع كما سمّاه المفكر والمسرحي الألماني برتلود بريشت. فيصبح الجمهور مشاركا فعليا لا فقط بأفكار وأسئلة يطلقها عقله. بل ينتقل ماديا بجسده فيشارك الممثلين الرقص أمام ترحيب من الجمهور.

                      مشاركة أحد الحضور في العرض.

صورة طائر الفينيق الذي يُبعث من تحت الرماد وينطلق في عنفوان أبديّ مكتسحا هذه الحياة. أو كيف أُسرنا في شبق استهلاكي واهم ولذّة زائفة، نحن أسرى قيم الإستهلاك والإشباع. نقطة تتخيلها في تلاقي جسد ممثلة رشيق وجسد زميلها الممتلئ على خشبة المسرح. يمكن أن ترقص إذن مهما كُنتَ غير مقبول بمعايير الإشهار والخداع الكاذبة . أُرقُص أيهّا الإنسان رغما عن كل القيود. أُرقص فوق جرحك فالرقص نشوة تخرج من الأعماق.

صور مالك زغدودي

أكثر من خمسين دقيقة من الأسئلة والخيال، من الرقص، وبضع منها بمشاركة أحد الحضور. هذا هو العرض رقم إثنيْ عشرة لمسرحيّة نشوة الأعماق على خشبة فضاء الفنّ الرابع وسط العاصمة تونس.

“ليس هناك أشقّ من العودة إلى العقل”، بريشت. نشوة الأعماق ربّما هي هذا الشقاء الممتع أو بحر الأسئلة المتجدّد كل مرّة.

اكثر قراءة