نظّمت المنظمة التونسية للأطباء الشبان، مساء الثلاثاء 1 جويلية 2025، وقفة احتجاجية أمام المسرح البلدي بالعاصمة، للتعبير عن رفضها للقرار الصادر عن وزارة الصحة، القاضي بإجبار الاطباء المقيمين على مواصلة العمل في مراكز تعيينهم الحالية دون مراعاة لحقوقهم أو ظروفهم المهنية.
وقد رفع المحتجون شعارات تعبّر عن غضبهم وتمسكهم بحقوقهم، من بينها: “وزير بلا قرار يمشي يشد الدار”، “صحة، حرية، كرامة وطنية”، “لا خوف لا رعب، السلطة ملك الشعب”، “سبيطارات عمال لتالي والوزارة لا تبالي”، “يا طبيب يا ضحية، إيجا شارك في القضية”، و”صامدون صامدون، لا ترهيب ولا سجون”. حاملين لافتات “الطبيب والمريض ضحايا المنظومة” “طبيب مقهور اين الدستور” و”نحبو نعيشو في بلادنا”
وتأتي هذه الوقفة في سياق سلسلة من التحركات الاحتجاجية التي قادتها المنظمة، شملت إضرابًا يوم 21 أفريل 2025، تلاه إضراب ومسيرة يوم 2 ماي، ثم إضرابًا لخمس أيام متتالية، إضافة إلى نجاح واسع في مقاطعة اختيار مراكز التربص بنسبة 96.5%، ومقاطعة اختيار مراكز اختصاص طب العائلة بنسب قياسية. واعتبارًا من غرة جويلية، قرّر الأطباء الشبان، في خطوة تصعيدية، الانسحاب الجماعي من المستشفيات. وجاء في بيان صادر عن المنظمة، موجّه للرأي العام، تأكيدٌ على التمسك بـ”مرجعية المرفق العمومي والمستشفى العمومي باعتباره أساس الدولة الاجتماعية”
فما هو واقع المنظومة الصحية اليوم وأي وضعية يرزح تحتها الأطباء الشبان في ظل سردية رسمية تُروّج لدولة اجتماعية؟
نشأت الدولة الاجتماعية ثمرة لنضالات طويلة خاضتها الطبقات الشعبية والنقابات العمالية في مواجهة قسوة النظام الرأسمالي وتهميشه للحقوق الاجتماعية. وقد شكّلت أوروبا مسرحًا مركزيًا لهذه التحولات، حيث لعبت الحركات العمالية والاحتجاجات الاجتماعية دورًا حاسمًا في فرض أنظمة للضمان الاجتماعي وللرعاية الصحية والتقاعد، لتتكرّس بذلك مبادئ دولة الرفاه الاجتماعي على أنقاض “الدولة الحارسة” التي يقتصر دورها على تأمين الحدود والأمن الداخلي وتوفير منظومة قضائية.
وقد تجسدت هذه التحولات في النصوص الدستورية ذاتها، بما يمنحها طابعًا مؤسسيًا راسخًا: فدستور جمهورية ألمانيا الاتحادية لعام 1949 (القانون الأساسي) نصّ صراحةً على أن “جمهورية ألمانيا الاتحادية دولة ديمقراطية واجتماعية اتحادية”، فيما أكّد الفصل الأول من دستور الجمهورية الخامسة الفرنسية لسنة 1958 أن “فرنسا جمهورية غير قابلة للتجزئة، علمانية، ديمقراطية واجتماعية”، بما يعكس اندماج البُعد الاجتماعي في صميم تعريف الدولة.
هذا الاندماج لا يمكن فهمه بمعزل عن السياقات التاريخية العميقة التي أعادت تشكيل النظام الدولي في النصف الأول من القرن العشرين، حيث اتسم المشهد العالمي بتصاعد الصراعات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها الحربان العالميتان الأولى والثانية، إلى جانب الانهيار الاقتصادي الكبير في مطلع الثلاثينات، وما خلّفه من بطالة جماعية وفقر مدقع.
في هذا المناخ المضطرب، برزت أطروحات بديلة تسعى لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وكان الفكر الاشتراكي، بشقيه الثوري والإصلاحي، في طليعة هذه المشاريع الفكرية والسياسية. وقد ساهم التيار الإصلاحي الاشتراكي على وجه الخصوص في بلورة نموذج سياسي واقتصادي جديد في أوروبا ثم في أجزاء واسعة من العالم، تموضع في منزلة وسطى بين الاشتراكية والليبرالية، مع اختلافات وتباينات مرتبطة بالسياقات الوطنية والتجارب العمومية والتشريعات المعتمدة.
وقد ارتكز هذا النموذج على ركيزتين أساسيتين: الإنفاق الاجتماعي الواسع وقيام قطاع خدمات عمومية قوي، يشمل الصحة والتعليم والنقل والحماية الاجتماعية من جهة. و حوار اجتماعي يضمن إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين من نقابات ومنظمات مهنية ومجتمع مدني في صياغة السياسات العمومية من جهة أخرى.
مطالب الاطباء الشبان تعكس ضعف المنظومة الصحية وحدود الدولة الاجتماعية:
من أبرز المطالب، الترفيع في منحة حصص الاستمرار، التي لا يتجاوز أجر الساعة الواحدة منها ثلاث دنانير، وهو مبلغ وصفه أحد الأطباء الشبان بأنه “ضئيل جدًّا” و”يحشم”. بل إن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذه المنحة لا تُصرف أصلًا في ثلثي المستشفيات العمومية، بما أنها تُحتسب من ميزانية المستشفى نفسه، لا من ميزانية الدولة، وهو ما يجعل بعض المستشفيات عرضة للتداين، قد تصل إلى ثمانية آلاف دينار حسب شهادة أحد الأطباء الشبان.
إلى جانب ذلك، تطالب المنظمة التونسية للأطباء الشبان بوضع معايير موضوعية وواضحة لتقييم التربص والمصادقة عليه، حتى لا يظل الطبيب رهينًا لأهواء رؤساء الأقسام وتقديراتهم المزاجية. كما دعت المنظمة إلى تمكين الطبيبات من الحصول على عطلة أمومة دون أن يؤثر ذلك على تقييم تربصهن.
أما على مستوى الأجور، فإن الطبيب الشاب يتقاضى راتبًا شهريًا لا يتجاوز 750 دينارًا، دون أن يتمتّع بأي تغطية اجتماعية خلال سنة الخدمة المدنية، ما يجعل ظروفه المعيشية هشّة للغاية. ورغم أنّه يُعتبر من أكثر الموظفين العموميين عملًا، حيث قد تتجاوز ساعات العمل الأسبوعية 120 ساعة، إلا أنه لا يتمتّع لا باستقرار سكني ولا بتعويضات مجزية. فكل ستة أشهر، يُجبر الطبيب الشاب على التنقّل من ولاية إلى أخرى، ويضطرّ إلى استئجار منازل مؤثثة بأسعار مرتفعة، حيث قد يصل إيجار أبسط سكن صيفًا في مدن مثل بنزرت أو سوسة أو صفاقس إلى 700 دينار شهريًا.
وإضافة إلى هذه التكاليف، يُطلب من الأطباء الشبان المشاركة في مؤتمرات علمية وطنية، لا تقل كلفة أقلّها عن 300 دينار، في حين تتراوح اجورهم بين 1450 للطبيب الداخلي و1900 للطبيب المقيم، حسب ما أفاد به رئيس المنظمة، وجيه ذكار.
ولئن برزت المطالب المادية للأطباء الشبان إلى السطح في الآونة الأخيرة، فإنها لا تعبّر سوى عن وجه من وجوه أزمة أعمق وأشدّ تعقيدًا، أزمة هيكلية تمسّ جوهر المنظومة الصحية العمومية في تونس. وهو ما أكّده رئيس المنظمة، مشيرًا إلى أن الجمعية، منذ تأسيسها سنة 2017، لم تخض أي تحرّك احتجاجي على خلفية مطالب مادية، لكن الوضع اليوم بلغ من التردّي ما دفع الأطباء الشبان إلى التجمّع والتصريح بأنهم “يرغبون في البقاء في تونس، ولكن ليس في ظلّ الظروف الحالية”.
فما المقصود بهذه “الظروف الحالية”؟
إنها ببساطة واقع يتناقض جذريًا مع سردية الدولة الاجتماعية التي يروّج لها الخطاب الرسمي. فعلى الرغم من الترفيع الاسمي في ميزانية وزارة الصحة من 3.766 مليار دينار سنة 2021 إلى 5.090 مليار دينار سنة 2025، أي بنسبة زيادة تبلغ حوالي 35٪، فإن هذه الزيادة تفقد معناها حين نحتسب التضخم التراكمي للفترة نفسها، حيث تُقدَّر القيمة الحقيقية لميزانية 2021، حسب أسعار 2025، بنحو 5.46 مليار دينار، وهو ما يعني أن الإنفاق العمومي على الصحة قد تراجع فعليًا من حيث القدرة الشرائية.
كما تراجعت نسبة الميزانية المخصّصة للصحة من مجمل الميزانية العامة للدولة من 9.37٪ سنة 2021 إلى 8.51٪ سنة 2025، في مؤشّر واضح على تدنّي أولوية الصحة في السياسات العمومية. أما البنية التحتية الصحية، فقد بقيت شبه جامدة لعقد كامل، فلم يشهد عدد المستشفيات العامة والمعاهد المختصة أي تغيير منذ سنة 2015، وسُجّل ارتفاع طفيف فقط في عدد المستشفيات الجهوية (من 32 إلى 35) والمحلية (من 108 إلى 110)، في حين تراجع عدد مراكز الصحة الأساسية من 2123 إلى 2102، وهو ما يعكس حالة من الركود وربما التراجع في الخدمات القاعدية.
وتزداد الصورة قتامة حين نأخذ بعين الاعتبار التفاوت الجهوي الصارخ في توزيع المنشآت الصحية. فالبنية التحتية الصحية تتركز بشكل شبه حصري على الشريط الساحلي، حيث تستحوذ الولايات الشرقية التي تشمل تونس الكبرى على 73.85٪ من طاقة الاستيعاب الاستشفائي بالقطاع العام (أي ما يعادل 20,488 سريرًا سنة 2017)، كما تتركز بها 92.7٪ من وحدات الإنعاش، ما يجعل المواطنين في المناطق الداخلية مهددين بشكل مباشر في حقهم في العلاج والرعاية الصحية اللائقة.
يمكن تفسير هذا التراجع والتقهقر في المنظومة الصحية من خلال المقاربة المالية التي تعتمدها الدولة، حيث تُظهر الأرقام أن الموارد المالية المخصصة لقطاع الصحة تظل ضعيفة مقارنة بالخطابات الرسمية التي ترفع سقف الدولة الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تم تخصيص نسبة 6.3٪ فقط من الناتج الداخلي الخام للصحة في تونس، في مقابل نسب تتراوح بين 10٪ و12٪ في دول مثل إسبانيا، النرويج، السويد، المملكة المتحدة، فرنسا، النمسا، وألمانيا، وفقًا لبيانات عام 2021.
أما على مستوى توزيع الإنفاق الصحي داخل الميزانية التونسية، فتُخصص حوالي 61.73٪ منها للأجور، بينما لا تتجاوز نفقات التدخل 0.92٪، والتي يشكل منها 9.85 مليون دينار موجهة لأغراض تنموية تتعلق بتهيئة المؤسسات والمقرات المركزية والجهوية. أما الاستثمار، فيمثل حوالي 12.69٪ من الميزانية الصحية، منها 451600 ألف دينار مخصصة كاعتمادات تعهد للمشاريع الجديدة.
هذا التوزيع المالي يعكس أولوية عالية للإنفاق الجاري على حساب الاستثمار والتطوير، وهو ما يساهم في تدهور البنية التحتية الصحية ويحد من قدرة المنظومة على التجدد ومواجهة التحديات المتزايدة.
ولعل أبرز هذه التحديات تتمثل في النزيف الحاد للإطارات الطبية، إذ غادر تونس حوالي 3100 طبيب بين عامي 2017 و2021، بينما سجّل عام 2024 وحده خروج نحو 1450 طبيبًا، وفقًا لما صرحت به ريم غشام عطية، رئيسة المجلس الوطني لعمادة الأطباء. وتتجه غالبية هؤلاء الأطباء إلى دول مثل فرنسا وألمانيا والسعودية وقطر، ما يجعل عدد الأطباء الذين غادروا البلاد خلال أقل من عقد يتجاوز 4500 طبيب.
غياب نية تفاوض حقيقية : مونولوغ السلطة أم حوار وطني؟
أساس الدولة الاجتماعية الفعّال يكمن في إشراك جميع الأطراف الاجتماعية في صنع القرار، وهو ما يُعرف بالحوار الاجتماعي، الذي تُعرّفه المنظمة الدولية للعمل بأنه يشمل كافة أشكال التفاوض أو التشاور أو تبادل المعلومات بين ممثلي الحكومات وأصحاب العمل والعمال حول قضايا ذات اهتمام مشترك تتعلق بالسياسة الاقتصادية والاجتماعية.
ومع ذلك، يبدو أن هذا الدور يعاني من حالة من العطل، خاصة مع تراجع دور النقابات والجمعيات والأجسام الوسيطة المعروفة بالمجتمع المدني. ويعود هذا التراجع لأسباب متعددة، تتراوح بين شيطنة هذه الهيئات ورفض التعامل مع بعض الجمعيات الحقوقية، إلى الإقصاء الممنهج لدور الاتحاد العام التونسي للشغل في النقاشات المتعلقة بتنقيح قانون الشغل وإلغاء المناولة، بالإضافة إلى شبح المرسوم رقم 54 الذي يُلقي بظلاله على الأصوات المعارضة والتعديلية، ويخلق مناخًا من الرقابة والتضييق.
ولم تكن منظمة الأطباء الشبان استثناءً من هذا الواقع؛ إذ جاءت دعوتهم للتحرك أمام المسرح البلدي في العاصمة كرد فعل واحتجاج على القرار الصادر عن وزارة الصحة الذي ألزم الأطباء المقيمين بمواصلة العمل في مراكز تعيينهم الحالية. واعتبرت المنظمة أن هذا القرار يتعارض مع الفصلين 8 و37 من القانون المنظم للدراسات الطبية، ويهدد مسارهم الأكاديمي وتحصيلهم العلمي، وهو استمرار لمحاولات تهميش حقوقهم وتقويض حريتهم في الحركة، وفقًا لبيانها الرسمي.
وعقب جلسة تفاوض مع وزير الشؤون الاجتماعية، أشار رئيس المنظمة إلى أن الوزير أبدى عدم دراية كاملة بالملف، حيث لم تقم السلطات بحساب التكلفة الإجمالية للزيادة التي يطالب بها الأطباء الشبان، رغم مرور أشهر على انطلاق التحركات والتصعيد. كما تميز الخطاب الصادر عن الوزير بنبرة تهديد صريحة باللجوء إلى المتابعة القضائية ضد الوفد التفاوضي للمنظمة في حال استمرار الاحتجاجات.
كما قلل الوفد الوزاري من أهمية وحجم المطالب، معتبرًا أنه من الطبيعي أن يهاجر عدد كبير من الأطباء ضمن الـ1900 طبيب، مع إمكانية تعويضهم بأطباء من المجر أو الصين، مبرزًا أن هجرة الأطباء قد تسهم في جلب مزيد من العملة الصعبة للبلاد. وهذا الموقف يعكس استهتارًا كبيرًا وغيابًا تامًا لأي نية تفاوضية حقيقية من قبل سلطة الإشراف.
وبناءً على المخرجات الأولية لهذه المفاوضات، يبدو أن الخيار أمام الأطباء الشبان أصبح محصورًا بين الاستمرار في ظروف العمل القاسية أو “خيار الهجرة على مضض”، كما أورد المكتب الوطني للمنظمة في بيان له.
في الختام، لا يسعنا إلاّ أن نعترف بتهافت الخطاب الرسمي بشأن الدولة الاجتماعية. فحسب دستور 2022، يحدد رئيس الجمهورية السياسات العامة للدولة، والتي تسهر الحكومة على تطبيقها، وهو ما يدفعنا للاعتراف بأن تعامل سلط الإشراف، ممثلة في وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية، يعكس إلى حد كبير مقاربة الدولة ككل وخياراتها الكبرى. هذا الواقع يتناقض، كما بيّنّا في التحليل، مع سردية دولة الرفاه والعدالة الاجتماعية التي لا تقوم لا على إنفاق ضخم للمرافق العمومية من أجل تمكين الجميع من فرص متساوية ومتكافئة، ولا على حوار اجتماعي يشرك الأطراف المعنية.
وقد تبدو القطيعة واضحة بين الشعارات الكبرى التي ترفعها الدولة والتوصيات المتكررة لرئيس الجمهورية من جهة، وبين حكوماته المتعاقبة من جهة أخرى. ففي كل الأحوال، تظل رؤية رئيس الجمهورية للدولة الاجتماعية محكومة بخطابات وشعارات عريضة وجمل نثرية، دون أن تتحول إلى برنامج واضح، أو رؤية معلنة ومكتوبة تُطرح للنقاش في الفضاء العام. فتظل هذه الرؤية حبيسة تدوينات الفجر المتأخرة، التي تكرر مرارًا أهدافًا اجتماعية، دون أن تجد لها أي صدى فعلي على أرض الواقع.