ينطلق العمل بما سُمّي قانون الشيكات الجديد بداية هذا الشهر (أي فيفري 2025)، إلاّ أنّ المجتمع بدأ يستشعر آثاره منذ بداية هذا الشهر وقبله. إذ توقف العمل بالشيكات كوسيلة دفع مؤجلة منذ مدة ليست بالهيّنة إثر انتشار الخبر بأن الصيغة الحالية للشيكات سيتمّ استبدالها بأخرى. وقد ألحق هذا الأمر ضررا بعديد الفئات، وهم أساسا من أصحاب وصاحبات المحلاّت والمؤسسات الصغرى(1) من ناحية، ومن ناحية أخرى من فئة الأجراء ذوي الدخل المتوسّط التي تستعمل الشيك كوسيلة للدفع بالتقسيط أو كضمان لدى المصحّات. هذه الاستعمالات، وإن كانت غير قانونية، فإنها انتشرت في المعاملات المالية ودخلت في عادات المتعاملين. ورغم صيحات الفزع التي انطلقت من هنا وهناك، فإنّ الإجابة العامة كانت خجولة بعض الشيء نظرا لأنّ القانون الجديد أتى لـ”يُصلح” حالة من اللاقانونية قد استفحلت صلب تلك الفئات. واتّجه الخطاب العام نحو وصم هذه المعاملات بدلًا عن فهم أسبابها أو حتى فهم أسباب وجود هذا المنع القانوني للتعامل بالشيك كوسيلة دفع مؤجلة، ووقع الاكتفاء بسقف مطالب لا يتجاوز المطالبة بتأجيل العمل بهذا القانون حتى تتوفر الظروف الملائمة له.
ما يثير التساؤل في هذا الموضوع هو كيف تحوّل قانون أتى لعلاج إشكال، يتمثل في العقوبة السجنية التي يتكبّدها بعض الناس بسبب مبالغ زهيدة، ويُلغيها أو يعوّضها بعقوبة مدنية، كيف تحوّل هذا القانون إلى نصّ يمنع التعامل بالشيك كوسيلة دفع مؤجلة؟ هذا رغم أنّ عدد المحكومين بالسجن أو من هم قيد الاحتفاظ في انتظار محاكمتهم بسبب الشيك دون رصيد لا يتجاوز الـ500 نفرا. هذا دون أن ننسى أنّ أغلب الصعوبات الحالية هي بسبب مخلّفات جائحة الكورونا(2).
إلاّ أنّ الاطلاع على بعض التصريحات حول الموضوع يمكن أن تدلّنا على الأسباب الحقيقية وراء تبنّي هذا القانون والتشبث بالمرور حالاّ نحو الأمور العمليّة فيه، ومنها إرساء منصّة الشيكات وإلغاء التعامل بالصيغ القديمة منها. من أبرز التصريحات التي تلفت الانتباه هي تصريحات الفتحي النوري، محافظ البنك المركزي وتصريحات أحمد الكرم، الرئيس المدير العام السابق لبنك الأمان ورئيس مجلس إدارة “التونسي للإيجار المالي” والرئيس الشرفي للجمعية التونسية للنهوض بالثقافة المالية… حيث يقول لنا السيد المحافظ أنّ هذا القانون “يمثل تغييرا جذريّا في منظومة الدفوعات. هذه المنصّة (أي منصّة الشيكات) هي عنصر أساسي يُضاف لمنظومة الدفوعات نحو مزيد من التحديث والصلابة (…) وتحسين الولوج إلى الخدمات البنكية والإدماج المالي”(3)… بينما يعتبر أحمد الكرم أنّ هذا القانون يُعدّ “قانونا رائدا” و”فرصة للاقتصاد التونسي”(4).
كلمات مفاتيح تتكرّر هنا وهناك: تغيير عميق، تطوير منظومة الدفوعات، فرص للقطاع المالي، تحديث للمنظومة المالية، تحسين الولوج نحو الخدمات المالية…
ولكن أهم كلمة مفتاحية في هذا الموضوع هي “الإدماج المالي”. كلمة بريئة في ظاهرها مثل جميع المصطلحات التي يستعملها حكماء العصر. من لا يريد الإدماج؟ وبالخصوص إن كان هذا الإدماج ماليّا! تردّد هذا المصطلح مرارا وتكرارا على لسان المدافعين عن هذا القانون، والمُراد به هو الرغبة في دمج جميع المتعاملين الاقتصاديين والمؤسسات الصغرى والمتوسّطة والفئات الأكثر فقرا وهشاشة في الدورة المالية عبر تمكينهم من الحد الأدنى من الخدمات البنكية والمالية بصفة عامة. لكن، ومثل جميع المصطلحات الـ بلا رائحة ولا طعم التي يستعملها هؤلاء الشاحبون، يأتي هذا المفهوم ليكون طعنة في ظهر من يدّعي خدمة مصالحهم.
كذلك، ورغم المطالبات بتأجيل دخول هذا القانون حيّز النفاذ منذ شهر ديسمبر ورغم وجود مبادرة تشريعية في ذلك ورغم عدم جهوزية البدائل، ورغم تحذير العديد من “الخبراء” -ونكاد نقول هنا “شهد شاهد من أهلها”- من عواقب قانون الشيكات على الاقتصاد ونسب النمو(5)، رفض القائمون على شؤون البلاد هذا المقترح في التأجيل، وكأنّ أمرا مصيريّا يرتبط بوجود هذا القانون، وكأنّ أصحاب القرار رأوا أنّ اللحظة مناسبة لمثل هذا التغيير الجذري وما يجب أن يرافقه من إجراءات… وكأنّ أصحاب القرار، وعملا بـ”عقيدة الصدمة“، لا يريدون ترك المجال للمتعاملين في الاقتصاد كي يجدوا حلولا بديلة لا تنسجم مع متطلّبات “الإدماج المالي”.
هذه العجَلة في تطبيق هذا القانون لا يمكن أن تكون من باب محبّة القانون أو مراعاةً لحياة بعض المئات من المساجين -بينما آلاف من الشبان يقبعون في السجون بسبب القانون 52 على سبيل الذكر لا الحصر-، ولا يمكن أن تتجاوز حالة السخط المنتشرة بين التجار الصغار وتتجاهل تحذيرات خبراء المنظومة ومعلّقيها إن لم يكن الأمر ذو أبعاد أوسع ويندرج ضمن استراتيجيا أشمل بكثير من مجرّد تلافي خطر عدم خلاص شيك دون رصيد.
سنحاول إذن خلال هذا المقال تبيين مدى زيف الأسباب المعلنة لتمرير هذا القانون، وأنّها ليست فقط زائفة من زاوية الأرقام بل وكذلك من زاوية اشتغال المجتمعات وطبيعة العُملة نفسها، ثمّ نحاول وضع هذا القانون في إطار الاستراتيجيا الوطنية للإدماج المالي، والتي أوصى بها البنك العالمي وشاركت في إنجازها على أرض الواقع وكالات التعاون الألمانية والفرنسية ومؤسسات حكومية وغير حكومية من دولة… اللكسمبورق!!
في ماهية الشيكات وزيف الأسباب: قانون ضد اشتغال المجتمع والاقتصاد
قبل أن نتقدّم أكثر في موضوع القانون، علينا أن نفهم أوّلًا : ماهي الشيكات؟
إذ قدّم القانون نفسه على أساس أنّه سيمنع نهائيا استعمالا تعسّفيا للشيك، ألا وهو استعماله كوسيلة دفع مؤجلة، و كذلك سيمنع كتابة الشيك لحامله، أي أنّ الحائز على شيك ما يجب أن يكون له حساب بنكيّ لينزّله فيه ولم يعد بالإمكان أن يتسلّم المبلغ مباشرة في شبّاك البنك. لسائل أن يسأل، ما الإشكال في مثل هذه الممارسات ما دام الطرفان راضيان؟ ألا يُقال أنّ “العقد شريعة المتعاقدين”؟ يقول باعثو القانون أنّ هذه الممارسات هي التي أدّت إلى وضع الناس في السجون وإلى هذا الرقم “المرتفع” حسب زعمهم من الشيكات المرفوضة. هذا الزعم مغلوط، إذ تثبت الأرقام أنّ الشيكات المرفوضة في السنتين الأخيرتين ليست أعلى من السنوات السابقة، لا من حيث عدد الشيكات ولا من حيث المبالغ(6). بل أكثر من ذلك، تثبت الأرقام الأولية لسنة 2024 أنّ الشيكات المرفوضة نزلت إلى مستويات لم نعرفها منذ 2010، وهي أفضل حتى من أرقام 2006، زمن كانت المؤسسات الدولية تُشيد بـ”إنجازات” بن علي.

من ناحية أخرى، فإنّنا نرى بوضوح كيف انّ السياق الاقتصادي العام يؤثر بصفة مباشرة على نسب الشيكات المرفوضة. فهذه النسب ترتفع عند الأزمات وبسبب سياسات الدولة، وليس بغريب أنّ أعلى نسبة عرفناها في الشيكات المرفوضة كانت سنة 2019، أي في السنة ذاتها التي دفعت بها حكومة الشاهد بالتقشف إلى أقصاه لتحقيق رقم عجز في الميزانية أقل من 3%. كذلك، لا يمكن أن نتجاهل أنّ عددا هاما من الشيكات المرفوضة كان بسبب سياسات الدولة التي تمتنع أو تتأخر عن خلاص المتعاملين معها، ممّا أدّى إلى أن يجدوا انفسهم في مآزق مالية. وفي هذا السياق، تقول جامعة المقاولات بأنّ متخلّدات الدولة لديهم قد بلغت مليار دينار منذ سنة 2021.
هذا من زاوية الأرقام وزيف استعمالها. لكن يمكن أن نذهب أبعد من ذلك: فما الإشكال في أن يتمّ استعمال الشيك كوسيلة دفع مؤجلة؟ ماهو الجرم الكبير في هذا حتى يتمّ منعه بالقانون؟ يقولون هنا أنّ هذا يضع مخاطرا على إمكانية خلاص الشيك وتوفر الرصيد لحظة تقديم الشيك في تاريخه المؤجل. وينصحون هنا باستعمال “الكمبيالة”… دون أن يذكروا أن نسب رفض الكمبيالات في تونس قد بلغ مثلا في التسع أشهر الأولى من سنة 2024 نسبة 10.95% من حيث العدد و8.11% من حيث المبالغ(7)… تُبرز هذه الأرقام هي الأخرى زيف الأسباب، فاستعمال الشيك كوسيلة دفع مؤجلة ناجعة أكثر وذات مخاطر أقل من استعمال الكمبيالة…
ويمكن أن نفهم السبب الأساسي في منع الشيكات في الفرق بين الشيك والكمبيالة: فعلى عكس الكمبيالة، يمكن استخلاص الشيك في كلّ وقت ونجد فيه ضمانات أكبر من الكمبيالة بأن يتم الحصول على المقابل النقدي. فهو، بما يعبّر عنه بلغة الاقتصاديين الماليين، أكثر سيولة من الكمبيالة والقوانين الحالية تضمن إلى حد كبير عدم تلاعب من يُصدر الشيك، على عكس الكمبيالة التي يتطلب خلاصها مسارا قانونيا أطول وأكثر تشعّبا… ولو كان الكمبيال ناجعا لاستعملته البنوك لضمان خلاص ما تسديه من قروض !
السيولة، هذا هو لبّ الموضوع. السيولة أي بمعنى السيولة النقدية، أي سهولة تحويل أصلٍ إلى نقد. أقصى درجات السيولة هي في النقد نفسه: تُدخل يدك إلى جيبك فتُخرج المال. وما النقود إلاّ قروض أسداها أحد البنوك لأحد المتعاملين. نذكّر هنا للمرّة الألف أنّ خلق النقود يتمّ عبر إصدار القروض، إذ أنّ البنك عندما يسدي قرضا لحريف ما فهو لا يأخذ المبلغ المطلوب من مدخرات حريف آخر، بل يقوم بخلق المبلغ المطلوب عبر “كتابته” في حساب الحريف المعني مقابل سندات ديْن يوقّعها ذلك الحريف. هذا ما يعترف به حتى بنك انقلترا -أي البنك المركزي الانقليزي- في دراسة قدمها سنة 2014 حول خلق العملة (8)، وهذا ما نراه مباشرة بأعيننا حين نراقب تطوّر منحنيات القروض المسداة للاقتصاد في تونس وحجم الكتلة المالية (أنظر الرسم البياني أدناه).

النقود هي قروض والقروض هي نقود. هذا ما تقوله الممارسة البنكية اليومية وهذا ما يقوله علم الأنثروبولوجيا، حيث بيّن لنا الأنثروبولوجي دايفيد غرايبر (1961-2020) في مؤلّفه “5000 ألف سنة من الديون” أنّ الشكل الأول الذي اتخذته النقود هو شكل الاعتراف بالديْن الذي يتمّ بين التجار، وحتى أنّ أصل الورقات النقدية التي نتعامل بها اليوم هي شيكات أصدرتها البنوك كقروض تسلّمها لحرفائها ويستعملونها كسيولة في معاملاتهم مع الآخرين مع ضمانة البنك لخلاص ذلك الشيك(9)… أي بالضبط شكل الاستعمال الذي أتى القانون لمنعه نهائيا.
إذن فإنّ عملية كتابة شيك مؤجل الدفع هي بمثابة إصدار قرض شخصي بين متعامليْن دون المرور عبر البنك. وتساوي كذلك خلق المبلغ المطلوب بين هاذين المتعاملين. والخطيئة أعظم إن كان الشيك لحامله، أي يمكن أن يتحوّل الشيك بحق إلى ورقة نقدية تتحول من يد إلى أخرى وتبقى في الدورة الاقتصادية إلى أن يقرّر أحدهم خلاصها(10). وهو ما لا يمكن أن تقبل به منظومة بنكية بُنيت على خصخصة عمليّة خلق العملة للبنوك التجارية وإفرادها بحق إصدار القروض. وهو كذلك ما لا يمكن أن تقبل به منظومة تبنّت الإصلاح الهيكلي، الذي يرتكز في جوهره على تقليص الكتلة النقدية عبر تقليص القروض المسداة للاقتصاد(11)… أخيرا، وبشكل مباشر أكثر، المبلغ الذي يتمّ كتابته في الشيك سيكون مبلغا خارجا عن الدورة البنكية. وهو بذلك، عملا بمبدأ “القروض هي التي تخلق الودائع”، سيكون مبلغا خارجا عن ودائع البنوك ولن يتمّ لا امتصاص فوائض ولا عمولات مالية منه… ولذا، لا بدّ من “إدماج” هذه المبالغ في الدورة المالية البنكية… لا بدّ من “الإدماج المالي”!!
“الإدماج المالي“: توصيات المؤسسات الدولية… إنجاز ألماني… وحرص لكسمبرقي!!
فلنتفق بداية حول معنى الإدماج المالي. الإدماج المالي هو مدى انخراطك في المنظومة المالية ومدى لجوئك للخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات، وهي أساسا المؤسسات البنكية ومؤسسات التأمين ومؤسسات القروض الصغرى. كما يمكن كذلك اعتبار أيّة مؤسسة تشتغل في مجال القروض أو التأمين بصفة غير مباشرة كتابعة للمنظومة المالية، مثل “مكاتب القروض”، وهي محلات بيع معلومات حول الصحة المالية لأحد المتعاملين في الاقتصاد، معلومات تكون قد استقتها من البنك المركزي أو من المنظومة البنكية بصفة عامة. فمثلا إن كنت لا تملك حسابا بنكيا فأنت تُعتبر مَقصيًا من المنظومة المالية، وإن كنت فقط لديك حساب بنكي ولا تسقط أبدا في “الروج” ولا تقترض ولا تستعمل بطاقة بنكية، فأنت غير مدمج بما فيه الكفاية… أما إذا كنت حريفا قارا في مكتب قروض البنك ولا تستعمل سوى البطاقة البنكية ولا تدفع أبدا نقدا، وإن كنت كذلك حريفا لدى إحدى مؤسسات التأمين ولديك عقد تأمين، لا فقط على سيارتك بل تجاوزت ذلك وتدفع ما يلزم لتكون مؤمّنا على منزلك وصحّتك وصحّة قططك، فأنت حريف رائع: عمليّا، جميع أموالك مودعة لدى المنظومة المالية بجميع أنواعها.
منذ ديسمبر 2003، تمّ إدراج “الإدماج المالي” ضمن أهداف التنمية المستدامة لدى الأمم المتحّدة، ثم بداية من سنة 2007 وضعها البنك الدولي ضمن الأهداف التي يجب أن تحققها بلدان الجنوب من أجل تحقيق “التنمية” و”الازدهار”(12). ومفهوم الإدماج المالي أتى كتكملة لمفهوم “المالية الصغرى” التي نمت عن طريق مؤسسات القروض الصغرى. في تونس بدأ الحديث عن الإدماج المالي سنة 2014 عبر دراسة(13) أنجزتها سلطة رقابة التمويل الصغير بدعم من الاتحاد الأوروبي والبنك الأوروبي للاستثمار، و-أغرب بذلك بقليل- بدعم من وزارة الخارجية لدولة اللكسمبرق ومنظمة “دعم التنمية المتمحورة على الذات” وهي منظمة غير حكومية لكسمبرقية معنيّة بتطوير الإدماج المالي لدعم الفئات الهشة في أفريقيا وأفريقيا الوسطى وجنوب شرق آسيا… وقد كانت دراسة أولية حول موضوع الإدماج المالي اشتغلت على مسح أولي للفئات والجهات المستهدفة من ناحية، وعلى طبيعة المنتجات المالية التي يمكن ترويجها لدى تلك الفئات من ناحية أخرى. ومن هنا يمكن أن تبدأ التساؤلات: ما دخل شبه دويلة أوروبية لا تتجاوز مساحتها مساحة ولاية نابل، وتُصنّف كشبه جنّة ضريبية(14)، في بلدان أفريقيا وفي تنميتها وفي إدماجها المالي من عدمه؟ !
ثمّ تلتها دراسة للبنك الدولي(15) تمّ نشرها في سبتمبر 2015 تناولت نفس الهواجس. بعدها، وعقب إصدار القانون 35 لسنة 2016 والمعروف بقانون استقلالية البنك المركزي (وهو في الواقع أكثر من ذلك بكثير)، تم تحويل “مرصد الخدمات البنكية” إلى “مرصد الإدماج المالي“(16)، وهو جسم تابع للبنك المركزي ونجد من بين شركائه منظمة التعاون الألماني وجمعية دعم التنمية المتمحورة حول الذات اللكسمبرقية والهيئة العامة للتأمين والجامعة التونسية لشركات التأمين وهيئة السوق المالية والمجلس البنكي والمالي بالإضافة إلى مؤسسات أخرى تابعة للدولة التونسية من وزارات وهيئات رقابة. وقد صاغ هذا المرصد الاستراتيجيا الوطنية للإدماج المالي 2018-2022… وخلاف ما ذكرنا، نجد عددًا غير هيّن من التقارير والدراسات تحت إشراف القاصي والداني، من المؤسسات الدولية والألمانية واللكسمبرقية إلى الوكالة الفرنسية للتنمية مرورا بالبنك الافريقي للتنمية(17)… وكان من مخرجات كل هاته التقارير والمجهودات الجبارة “أكاديمية الإدماج المالي“، وهي منصة إلكترونية أنتجت ثلاث ساعات من الدروس…
بيْدَ أنّه رغم كل هذه المجهودات، لم يتطوّر الإدماج المالي في تونس. رغم “الدعم التقني الخارجي” وحتى القروض المرصودة لهذه الاستراتيجيا، مثل اتفاقية قرض بـ150 مليون أورو بين الدولة التونسية والوكالة الفرنسية للتنمية سنة 2020(18)، لم تتطوّر مؤشرات “الإدماج المالي” في تونس. إذ نقرأ على موقع مرصد الإدماج المالي أنّ نسبة امتلاك حساب بنكي بقيت مستقرة من 2017 إلى 2021 في نسبة 37%، ونسبة امتلاك بطاقة بنكية تراجعت من 23% إلى 20% في نفس الفترة، وتراجعت نسبة الخلاص الرقمي من 29% إلى 28% كذلك في نفس الفترة(19)… وبقي أغلب التونسيين/ات غير مندمجين/ات ماليّا… ونقرأ في أحد التقارير المنجزة حديثا (2022) في هذا الإطار، وهو تقرير من إنجاز المؤسسة المالية الدولية -وهي فرع من فروع البنك الدولي- بالشراكة هذه المرة مع سويسرا والسويد، أنّ “9% من الأشخاص الطبيعيين و29% من المؤسسات ليس لها أي ولوج للخدمات المالية، وأنّ مستوى استعمال الخدمات المالية يعتبر في الأدنى بالنسبة لـ40% من الأشخاص الطبيعيين و51% للمؤسسات (أي يكتفون بامتلاك حساب بنكي والانخراط في منظومة تأمين إجبارية –مثل تأمين السيارات-)“(20). ويعزى هذا حسب هذا التقرير إلى “انعدام الثقة في المؤسسات المالية والمستوى المتدنّي للثقافة المالية”…
ليس بالغريب إذن أن تمرّ السلطات بالقوة لتنفيذ استراتيجيا الإدماج المالي المُوصى بها من البنك العالمي ومن جميع “الشركاء” الماليين لتونس، وحتى من أولئك الذين لم ننتبه يوما إلى وجودهم على خريطة العالم. هل كانت نيّة مسبقة للقائمين على هذا القانون أنه سيساهم في الإدماج المالي أم أنّهم فهموا ذلك من بعد، مثلما كان يبدو الحال بالنسبة لرؤساء المؤسسات خلال الدورة 38 من “أيام المؤسسة” التي ينظمها المعهد العربي لرؤساء المؤسسات(21)، ومثلما صفّق لذلك أحمد الكرم، أحد ممثلي الطغمة المالية المحلية في المقال المذكور أعلاه؟
الأكيد أنّ هذا “الإدماج المالي” سيكون ذي فائدة للطغمة المالية المحلية ولرأس المال الأجنبي على حدّ سواء. فحسب الدراسة التي أنجزتها المؤسسة المالية الدولية، يمكن أن تدرّ إمكانات توسّع مجال الإدماج المالي مداخيلا خامّة بقيمة 10,3 مليار دينار بالنسبة للفاعلين الماليين (من بنوك ومؤسسات تأمين ومؤسسات قروض صغيرة)، وهذه المداخيل تنقسم أساسا إلى 6,1 مليار دينار بمزيد إدماج الأشخاص الطبيعيين و1,3 مليار دينار بمزيد إدماج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والمبادرين الذاتيين و1 مليار دينار بإدماج الفلاحين/ات الصغار.
كيف يمكن أن يساهم قانون الشيكات في هذا؟ أوّلا وقبل كل شيء، عبر القروض الصغيرة. إذ أن أغلب الأشخاص الطبيعيين من الفئات الوسطى تستعمل الشيك لشراء ملابس أو تجهيزات منزلية بالتقسيط. سيُجبَر هؤلاء الآن على المرور عبر القروض البنكية الصغرى، ولن نستغرب مستقبلا أنّ الشركات التي تملك الفضاءات الكبرى ستكون هي نفسها من يُنشئ شركات قروض صغيرة، فتكون في نفس الوقت البائع والمُقرض. سيفتح هذا الباب كذلك أمام شركات التأمين لتقديم منتجات تأمينية لمن ستدفعه الحاجة نحو العلاج في المصحات الخاصة: لن يعود بالإمكان تقديم شيك الضمان ذاك قبل القيام بعملية جراحية ما، لكن لن نستغرب أن نجد حذو المصحة مؤسسة تأمين تجبره على الانخراط في أحد برامجها التأمينية مقابل الحق في إجراء عملية تنقذ حياته أو حياة أحد أقاربه…
نفس الشيء بالنسبة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة، لن يفاجئنا العقل الانتهازي للطغمة المالية بإيجاده الآليات اللازمة لابتزاز كلّ من يحتاج إلى قرض أو يحتاج إلى تأمين ضد فرضية عدم خلاصه… وفي هذا السياق، لن نتفاجأ عندما ستصبح الكمبيالات غير الخالصة كنزا من الذهب الخالص بالنسبة لبعض مؤسسات الاستخلاص التي يمكن أن تُنشأ لغرض شراء هذه الكمبيالات العالقة بسعر زهيد من عند متعامل لم يستطع استخلاصها، ومن ثُمّ تقوم تلك المؤسسة بتجنيد ألوية من المحامين لاستخلاصها من المتعامل الذي تخلّف عن سداد دينه، مثلما تقوم بذلك الشركات العالمية الكبرى المسمّاة بـ”الصناديق الانتهازية” مع ديون البلدان المفقّرة.
أمّا بالنسبة لرؤوس الأموال الأجنبية، فستكون لها نفس مجالات الربح والاستثمار في هشاشة الناس عبر نفس الآليات المالية المذكورة. وهناك يمكن أن نجد التفسير المناسب لذلك الحرص الذي تبديه دولة اللكسمبرق كي تتبنّى الدولة التونسية والمتعاملين الاقتصاديين فيها مبدأ الإدماج المالي، خصوصا في جانبه المتعلّق بالمالية الصغرى والقروض الصغرى. فاللكسمبرق تحتل المرتبة الثانية عالميا بحيازته على 7,9% من أصول الاستثمار في العالم(22)، ومن الطبيعي إذن أن تحرص على ربحيّة استثماراتها في جميع أنحاء العالم وفي شتى القطاعات. ومن القطاعات الصاعدة وذات الربحية المضمونة نجد قطاع القروض الصغرى، والذي يندرج ضمن ما يسمّى استثمارات الـESG، أي التي تحتكم لمعايير بيئية واجتماعية وحوكمة، حيث تستأثر اللكسمبرق ب45,7% من جملة 6200 مليار أورو من الرساميل المُستثمرة عالميا في هذا القطاع، أي بمبلغ 2693 مليار أورو(23)، كما تحتلّ ألمانيا وفرنسا والسويد مراتب متقدمة كذلك في هذا الترتيب. هذه الاستثمارات، وإن كانت ربحيتها غير مرتفعة مثل قطاعات مالية أخرى، فهي تتميز باستقرارها وديمومتها وقلة تقلّباتها، وهي إذن الملاذ المناسب بالنسبة للرساميل التي تريد تجنّب التقلّبات العنيفة للسوق في قطاعات أخرى(24)(25). نفهم إذن هذا الحرص الكبير من ممثلي الطغمة المالية العالمية على “إدماج” شعوب الجنوب ماليّا: هو مجال رحب لتوسّع رأس المال وامتصاص المزيد من فائض القيمة…
قانون الشيكات هو إذن دَفْعٌ بالقوّة نحو “الإدماج المالي” الذي لم ينجح في تونس، وهو بالتالي فرصة ثمينة بالنسبة للحاكمين لتحقيق منجز لم يحققوه رغم المجهودات الجبارة التي قاموا بها بإدماج بعض القطاعات الاقتصادية في دورة الاقتصاد المالي… الإدماج المالي ماهو إذن إلاّ الاسم الآخر لأمْوَلَة الاقتصاد، أي تحويله شيئا فشيئا نحو اقتصاد هدفه الوحيد توسيع المجال الذي تحتله السوق المالية فيه. وكما نرى في مثال الحال، فإن قانون الشيكات سيُدمِج بالقوّة السيولة المالية الموجودة في قطاعات اقتصادية واسعة في السوق المالية، وهو شكل مقنّع من تقاسم الأرباح مع هذه القطاعات. هكذا يشتغل الاقتصاد المالي: لا يجب أن يهرب أيّ شكل من الأرباح في الاقتصاد الحقيقي عن أنظار السوق المالية؛ المحليّة منها، ولكن بالخصوص صناديق الاستثمار العالمية.
<<Tu manges, je mange!>>، هذا هو شعار الأمولة، فالشيك الذي يستعمله متعاملان اقتصاديان هو بمثابة القيمة التي تتوارى عن المتعاملين الماليّين وعليه يجب أن يأخذوا حصّتهم منها، وهاهو رئيس المجلس البنكي والمالي بالبنك المركزي يخبرنا بجهوزية القطاع المالي لتعويض منظومة الشيكات، حيث أكّد أنّ “من لا يمتلك دفتر شيك وفّرت له البنوك حلولا أخرى بديلة مثل بطاقات الدفع الإلكتروني من بطاقات ائتمان أو الدفع المؤجل أو الدفع عبر الهاتف الجوال، مؤكدا أنه يتم العمل حاليا على طرق أخرى للدفع سيتم الاعلان عنها قريبا وهي منظومات جديدة ستسّهل التعامل مع كل الأطراف المتداخلة في العمليات المالية”(26).
يقول دايفيد هارفي في هذا السياق بأنّ الأمْولة هي الحلّ الذي ذهبت نحوه الرأسمالية لمواصلة المراكمة بأدوات أخرى(27). وهذا هو جوهر الموضوع: في ظل اقتصاد متأزم محليّا وعالميا، فإن البحث عن فائض القيمة يصل حدّ مفاصل المجتمع وفئاته الأصغر حجما والأكثر هشاشة. وما يثبته لنا السعي نحو تمرير هذا القانون بالقوّة، حتى على حساب التجار والفلاحة الصغار والحرفيين ورغم احتجاج حتى أكثر الخبراء انسجاما مع المنظومة فهو أنّ الأولوية لم تكن أبدا في اتجاه خلق اقتصاد متمحور على الذات ويخدم المجتمع، بل هو الخضوع لرغبات رأس المال المُعوْلَم المُمَثّل عبر مختلف المؤسسات الدولية، من البنك العالمي وصولا إلى دولة اللكسمبرق، والساعي إلى التوسّع لمزيد استخلاص القيمة. إذ تقوم مؤسساتنا المحلية عن وعي أو عن غير وعي بتعبيد الطريق لهؤلاء ليبحثوا في ذلك عن أبسط الثغرات والمجالات التي لم تخضع بعد إلى منطقهم.. وجشعهم.
1أنظر/ي مثلا حوارنا مع الصديق بدر الدين الدبوسي، صاحب مكتبة بهجة المعرفة.
2“En Tunisie, le gouvernement envisage de décriminaliser les chèques sans provision”, Le Monde, 16 Avril 2024.
3“Nouri: La réforme des chèques est une transformation radicale.” African Manager, 29 Janvier 2025.
4“Ahmed El Karm: La loi sur les chèques est une opportunité pour l’économie tunisienne”, Kapitalis, 23 Janvier 2025.
6أرقام البنك المركزي
8“Money Creation in The Modern Economy”, By Michael McLeay, Amar Radia and Ryland Thomas of the Bank’s Monetary Analysis Directorate, Quarterly Bulletin, 2014 Q1.
9يمكن كذلك العودة إلى سلسلة الاقتصاد بالسياسي التي أنجزها موقع انحياز في الغرض: الرابط.
10وهنا نفهم كيف أنّ خلاص قرض هو بمثابة تقليص الكتلة النقدية بما يساوي ذلك المبلغ… وأن خلاص كل الديون يساوي القضاء على كل الأموال التي تعيش في الدورة الاقتصادية… وأن القروض هي إذن ركن الزاوية للاقتصاد ككل!!
11أنظر في هذا الصدد الملف الذي أنجزناه في موقع انحياز: “صندوق النقد وذاكرة الإصلاحات المفقودة” وخاصة الجزء الثاني منه الذي يهتمّ بالإطار النظري الذي يعتمده صندوق النقد الدولي.
12“L’inclusion financière, nouvel avatar de la libéralisation financière?” François Doligez, Johan Bastiaensen, Florent Bédécarrats et Marc Labie, Revue du Tiers-Monde, 2016/ N°225.
13“Etude de l’Inclusion Financière en Tunisie”, Autorité du Contrôle du Microcrédit, Février 2014.
14“OpenLux: “Si le Luxembourg n’est pas officiellement un paradis fiscal, c’est au moins un havre fiscal”, Le Monde, 11 Février 2011.
15“État des Lieux – Inclusion Financière en Tunisie, Population à bas revenus et micro-entreprises”, Groupe de la Banque Mondiale, Septembre 2015.
16Missions de l’Observatoire de l’Inclusion Financière.
17أنظر/ي مثلا هنا وهنا وهنا وهنا
18“L’AFD scrute la situation et les perspectives de développement de l’inclusion financière en Tunisie”, Webmanager Center, 16 Juin 2022.
19صفحة الإحصائيات لمرصد الإدماج المالي
20“Inclusion Financière en Tunisie, État des lieux et Opportunités”, SFI, Novembre 2022.
21“Journées de l’Entreprise: La réforme des chèques, une opportunité pour l’inclusion financière?” Kapitalis, 6 Décembre 2024.
22“Le Luxembourg détient 7,9% des actifs mondiaux des fonds d’investissement”, Paperjam, 13 Décembre 2024.
23“Les fonds articles 8 et 9 ont atteint 6200 milliards d’euros à la fin de 2023.”, Paperjam, 10 Avril 2024.
24“Les fonds à gestion durable: à quoi servent les critères ESG?”, Boursorama, 11 Octobre 2022.
25“Publication de l’étude LSFI “Sustainable Finance in Luxembourg 2023: An expanded overview” en collaboration avec PwC Luxembourg”, PwC Luxembourg, 14 Décembre 2023.
26“مسؤول بالبنك المركزي: البنوك وضعت وسائل بديلة للدفع لمن لا يمتلكون دفتر شيكات“، آكسبراس آف آم، 3 فيفري 2025.
27“The Enigma of Capital and the Crises of Capitalism”, David Harvey, 2010.