استمرت الاحتجاجات التي دعا إليها شباب جيل- زد212 بالمغرب طيلة خمسة أيام (من 27 سبتمبر حتى 1 أكتوبر 2025). اتخذت أشكالا عنيفة جدا بعد التدخل العنيف لأجهزة القمع (من بوليس وقوات مساعدة ودرك ملكي). يبدو أن الحَراك يسير إلى نهايته بعد المواجهات العنيفة التي شهدها اليوم الخامس، والاعتقالات وثلاثة قتلى في صفوف المتظاهرين.
الأكيد أن الدافع إلى الاحتجاجات قوي جدا والموجة قادمة من أعماق المجتمع، ولا علاقة لها بتحريض من جهات أجنبية كما ترِّوج أصوات إعلامية وصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تريد تشويه الحراك وشيطنته لتبرير قمعه.
سبب الاحتجاج هو الكارثة الاجتماعية التي أبرزتها إلى السطح جائحة كورونا: 4.5 ملايين أسرة فقيرة بحاجة إلى دعم اجتماعي ومنظومة صحية رديئة دمَّرتها عقود من التقشف وتشجيع القطاع الخاص وتعليم مخرَّب بنفس السياسات، فضلا عن حُڨرَة وامتهان الكرامة تُسبّبهما رؤية نخبة أرباب العمل الكبار يراكمون الأرباح ودولة تخّصص مليارات الدراهم لاستقبال مناسبة رياضية (كأس العالم 2030)، وفي التحليل الأخير دولة تخدم الأغنياء بينما تترك الفقراء للموت في أورقة المستشفيات وشبابها غرقا في البحر. هذا هو المحرِّض الحقيقي لنضالات الشبيبة اليوم في المغرب، ومن يبحث عن جهة أجنبية أو أجندات سياسية، فإنما للتغطية عن الأسباب الحقيقية للاحتجاج وتبرير القمع.
بعد الأيام الخمسة التي هزّت المغرب، يُطرَح سؤال : إلى أين يسير احتجاج شباب جيل- زد212 ومعه النضال العمالي والشعبي؟ الجواب يكمن في المضمار الذي لا يريد الشباب لحدود الساعة خوضه: السياسة. والمقصود هنا بالدرجة الأولى من يملك السلطة وما يقوم به وما سيقوم به من إجراءات وتدابير.
يُعدُّ غياب النقاش الاستراتيجي أحد نقاط الضعف الخطيرة حاليا في تداولات الشباب في وسائل التواصل الاجتماعي (ديسكوورد وتليغرام)، وقبله في كلّ النضالات السابقة. لكن هذا ليس عيب هؤلاء الشباب، فمسألة السلطة توارت إلى الوراء حتى في صفوف اليسار؛ الإصلاحي منه والجذري. فرضت المَلكية حُرما على تلك المسألة، ونال القمع الشديد حتى الصحفيين- ات الذين يقدّمون نصائحا للمَلكية حرصا على مستقبلها.
“الجديد“: إغراء متجدِّد
كلَّما هبَّ جيل جديد من الشباب إلى النضال وازاه ميلٌ إلى اعتباره قطيعة عمّا سبق، وتزدهر الخطابات بانقضاء عهد التنظيمات التقليدية وأشكال النضال المألوفة. شهدنا هذا مع حركة 20 فبراير سنة 2011 بالحديث عن أشكال التنظّم الأفقية (الجموع العامة واستعمال الشبكات الالكترونية). وإبان حراك الريف شُنَّت حملة شرسة من طرف قائد الحَراك ناصر الزفزافي على الأحزاب السياسية ناعتا إياها بـ”الدكاكين السياسية”. ومع نضالات الجيل الجديد من المدرِّسين ظهرت التنسيقيات الفئوية واعتُبرت بديلا عن النقابات… وفي الحَراك الأخير لشباب جيل- زد212 ظهر نفس الخطاب حول أنّ منصات التواصل الرقمية (ديسكوورد وتليغرام) تُغني عن التنظيمات التقليدية، مع رفض أي تدخل من الأحزاب السياسية.
ليس هذا إلا “جديدَا” متجدّدَا. فالدعوات التي تنعى أشكال التنظّم التقليدية ليست جديدة. وتعود إلى عقود أبعد. أشكال التنظيم التقليدية تتطابق مع التمثيل الطبقي داخل المجتمع. وقد تمكَّنت النيوليبرالية من تقويض التضامن الطبقي الذي كان يمثل عِماد أشكال التنظيم تلك. وأصبح الحديث عن “ما بعد الرأسمالية الصناعية” و”ما بعد الحداثة” و”المجتمع الاستهلاكي” أيديولوجيةَ العصر، ومعها أصبحت الفردية التجلي الواقعي لتلك الأيديولوجية. لذلك فالحديث عن أشكال جديدة للتنظيم (أو بلأحرى التنظيم الرخو) هو قبول معكوس لتلك الأيديولوجيا بدل أن يكون الأمر نضالا ضدها. تظل الشبيبة متذرَّرة وراء وسائل الاستهلاك، وعلى رأسها الهاتف النقال وشبكات التواصل، وعندما تنسدّ في وجهها الأبواب، يتحول الأفراد المُذرّرون إلى حشود، تعتقد أنها ستواجه المجتمع القائم بنفس الوسائل التي يستعملها هذا المجتمع لاستلابها.
لن تتمكَّن الوسائل الرقمية الجديدة، مهما بلغت قدرتها على الحشد والتعبئة وتسهيل التواصل، من تجاوز المسائل الاستراتيجية التي تواجه النضال تاريخيا: ما السبيل للتغلب على جهاز الدولة وهزيمته؟ كانت نقاشاتٌ في بداية القرن العشرين قد طرحت قدرةَ الإضراب العام وعفوية الطبقة العاملة وحدهما على ذلك، بينما طُرحت نقاشات أخرى حول ضرورة الحزب الذي يمركز النضالات. هذا النقاش غير مطروح حاليا، لكن ذلك لا يعني أن راهنيته قد انقضت. ما لم تُجب على السؤال، ستجده ينتظرك عند كل منعطف.
ما تحتاجه الشبيبة المناضلة هو قول الحقيقة، وليس تملُّقها، لأنّ هكذا سنتحوّل إلى مؤخّرة بدل أن نكون طليعة، إلى مجرورين بدل أن نكون جارِّين. واجبنا هو إقناع أفواج الشبيبة التي تلتحق بالنضال تباعا بجدوى العمل النقابي والحزبي، بدل المصادقة على ما تؤمن به هي أصلا (انتهاء عهد ذينك العمليْن).
قول الحقيقة وحفز التنظيم وتوسيع نطاق النضال: هكذا فقط سنتمكن من انتزاع النصر والتغلب على ما يشكل لحدود الساعة أكبر عائق لتقدم النضال : جهاز القمع المنظَّم.
هزيمة جهاز القمع
كل النضالات السابقة والحالية مع جيل- زد212 تبرهن على أنّ جهاز القمع وتماسكه هما عائق رئيسي أمام أيّ نصر. منذ الاستقلال حرصت المَلكية على جعل جهاز القمع (من شرطة ودرك وعسكر) تحت إشرافها المباشر، وكان هذا الجهاز غير خاضع لأي رقابة مؤسساتية (المجالس المنتخَبة). حاليا جهاز القمع هو العائق الأكبر أمام الديمقراطية الحقيقية في البلد. وما دام هذا الجهاز متماسكا فإنّ أي تغيير سياسي نحو الديمقراطية مستحيل في البلد.
لم يشهد المغرب طيلة تاريخه منذ الاستقلال السياسي سنة 1956 رجَّة نضالية كالتي يشهدها حاليا. اعتاد جهاز القمع أن يتدخّل ويفكك التعبئات النصالية بأقلّ كلفة وفي أسرع وقت. لكن الموجة النضالية الجارية تمكَّنت من شلِّ تلك القدرة، رغم أن جهاز القمع لا يزال متماسكا. وتُعتبر هزيمته وتحطيمه مهمة أولوية لحركة الشبيبة. فقط هزيمة ذلك الجهاز ستفتح المجال لمشاركة شعبية أوسع في النضالات. لنتذكر أن الثورة المصرية ما كانت لتنجح لولا هزيمة جهاز القمع يوم 28 فبراير 2011 وتحطيم مركزه الذي كانت تشكله وزارة الداخلية.
إذا لم تنجح الحركة النضالية الجارية في إتمام هذه المهمة، ستكون العاقبة وخيمة. بعد تراجع الحَراك، ستباشر الدولة حملة انتقام شرسة وانتقائية ضد من تعتبرهم متزعِّمي الحَراك وضد من التقطته أجهزة تصويرها أثناء الاحتجاجات وما وازاها من تخريب.
إذا لم تتمكَّن كرة الثلح التي أطلقها نضال شبيبة جيل- زد212 من تحطيم جدار القمع، فإنها ستتحطم مع اصطدامها بذلك الجدار. أيّهما سيتحطم؟ ذلك هو الرهان. ويبدو أن الدولة لحدود الآن هي التي ربحت الرهان، مستغلى حالة الفلتان والتخريب التي شهدتها بعضُ المدن.
التخريب والفلتان: هل هما قَدَرُ كل النضالات؟
منذ 2011 والدولة وأبواقها الإعلامية تُرعِبُ الشعبَ بما آلت إليه الثورات في المنطقة، والشعار المُرعب دوما هو: “هل تريدون أن نصبح مثل سوريا؟”.
المشكل ليس في التخريب والفلتان، بل في عدم فهم مسبباته الرئيسية وبالتالي عدم التمكُّن من تفاديه. ليس هناك نضال في العالم (قديمُه وحديثُه) لا توازيه أعمال عنف وتخريب. والمسؤول الأول دوما على ذلك هي الأنظمة، إذ هي التي تبادر باستعمال العنف مستثيرة بذلك أعمال عنف مضادة. الدولة هي المحتكِرة لأدوات العنف (من أسلحة وأجهزة قمع)، بينما النضالات ترفع دوما شعار “سلمية، سلمية”، لكن تدخّل أجهزة القمع يستتبعه المواجهات.
جزء من التخريب له أسباب اجتماعية أعمق، ولا علاقة له بالنضالات. فحتى الاحتفالات الكروية تصاحبها أعمال من هذا القبيل. في النضالات الأخيرة لشباب جيل- زد212 ، هبَّت شريحة من شباب الأحياء الهامشية والعشوائيات حاملين في صدورهم غضبا ضدّ كل ما يرمز إلى إقصائهم واضطهادهم واحتقارهم.
الوكالات البنكية والصرّافات الآلية تشكّل لأولئك الشباب رمزا للإقصاء في مجتمع يُعتبَر فيه المال وسيلة الحصول على أبسط حاجيات العيش الكريم. يوميًا يَرى أولئك الشباب طوابير الناس التي تسحب المال من الصرّافات الآلية، بينما جيوبهم فارغة، ويلحظون مشاعر آبائهم وأمهاتهم عائدين خائبين من الصرافات الآلية قصد أخذ 500 درهم (50 أورو) المسمّاة دعمًا اجتماعيا، بعد إعلامهم بأن مؤشّرهم الاجتماعي قد ارتفع، ما حرَمهم من ذلك المبلغ التافه. هذا هو سبب الغضب من رموز المال تلك، وهذا ما يفسر تخريبها. هذا ليس تبريرا بل تفسيرا، وهو ضروري لتفادي التركيز على نظرية المؤامرة، سواء من طرف الدولة (المتهِمة دوما أطرافا لها أجندات خاصة)، أو من طرف تنظيمات النضال المتّهمة دوما المندَسّين من طرف الدولة.
لا سبيل لتفادي مثل هذه الأعمال إلا بالتنظيم. والقادرون على التنظيم غير منخرطين حاليا في النضال، أي النقابات العمالية وأحزاب اليسار. لو نوديَ بتنظيم إضراب عمالي وشعبي لكان الأمر غير ذلك. ما كان التخريب سينعدم، إذ أنّ هذا تستثيره السلطة إذا انعدم، لكن كان سيكون أقل، ما سيشجع الناس على المزيد من الانخراط في النضال… شاهدنا هذا في حالتيْ تونس ومصر سنة 2011، بينما حصل العكس تماما في البلدان حيث الحركة العمالية ضعيفة أو غير مستقلة، كما هو الحال في سوريا واليمن وليبيا.
يبدو أن التخريب والعنف وردّ الفعل القمعي العنيف ضدهما سيصيب الناس ببعض التردّد في الانخراط في مزيد من الاحتجاج. كانت ليلة 1 سبتمبر أعنف أيام الاحتجاج، وقد أدى التخريب وموقف حركة جيل- زد212 من تلك الشبيبة التي شاركت فيه، إلى دقّ إسفين بينهما. وبذلك افتقدت جيل- زد212 القاعدة الشعبية الأكثر قتالية، أي شبيبة الأحياء الشعبية والعمالية. تأتّى للنظام حصر النضال في نطاق ضيق، إذ اضطرت الحركة إلى اختيار أماكن لا يمكن أن يتواجد فيها أولئك الشباب الذي كانوا طرفا في عملية العنف والتخريب. تحقَّق بذلك للدولة ما شكَّل أحد أسباب هزيمتها لحركة 20 فبراير 2011: الانفصال بين الحراك السياسي الذي مثَّلته تلك الحركة، وبين النضال العمالي والشعبي الموازي لها.
ظهر ذلك في أشكال الاحتجاج في اليوم السادس (02 أكتوبر)، إذ كانت المشاركة أقل بكثير مما كانت عليه في الأيام الخمسة التي هزّت المغرب. ستتجه الأنظار حاليا صوب ما سيقوله الملك في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان يوم 11 أكتوبر 2025. هكذا سيتضافر القمع والمناورات السياسية لهزم نضال جيل- زد212.
القمع والمناورات
القمع وحده لا يستطيع هزم الحراك. فجذوره الاجتماعية العميقة تجعله منيعا عن التحطِّم بالقمع وحده. تمتلك المَلكية احتياطيا سياسيا فعَّالا، يتمثل في واجهتها المؤسساتية (الحكومة والبرلمان والانتخابات) وكوكبة أحزاب وقيادات نقابات مستعدة دوما لمدِّ يد المساعدة لها في أوقات الشدة. دون الغوص كثيرا في التاريخ، قدِّم حَراك الريف نموذجا لذلك حين امتنعت القيادات النقابية عن إعلان إضراب تضامني مع الحراك، بينما ظلّت الأحزاب توجِّه التحذيرات للمَلكية بأن مقاربتها الأمنية تشكل خطرا على البلاد وعلى المَلكية ذاتها.
طيلة أيام الاحتجاج كانت هناك أصوات منادية بتدخل الملك. حتى حركة جيل- زد212 نفسها، بعد اليوم الخامس من الاحتجاج، راسلت االملك مخاطبة إياه: “نتوجه إليكم بهذه الوثيقة الشعبية المليئة بالأمل والإيمان بأن مجلس العرش سيظل وسيطا لأمن الوطن واستقرار شعبه وضمان لكرامته”.
لحدود الساعة المَلكية صامتة. ولن تضطر إلى الكلام إلّا حين تكون الرجَّة أعنف وأعظم ممّا شهدته البلاد حاليا. “المؤسسات” قائمةٌ بدورها، بما يجعل تدخُّل الملك غير ضروري. والمقصود طبعا بالمؤسسات هي جهاز القمع وملحقاته من قضاء.
هذا النوع من الدعوات بتدخّل الملك يساعده على تنفيذ المناورة الأخطر التي يمكن أن يقوم بها في حالة مواجهة رجَّة نضالية أشد، وهي إقالة الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكِّرة، وهو ما طالبت به رسال جيل- زد212 إلى الملك: “إقالة الحكومة الحالية برئاسة عزيز أخنوش، لفشلها في حماية القدرة الشرائية للمغاربة وضمان العدالة الاجتماعية”.
بكل تأكيد ستشكل إقالة الحكومة نصرا كبيرا للحراك، إذ ستكون هذه أول مرة يُجبِر فيها الشعبُ المَلكيةَ على ذلك. لكن في الوضع الحالي للحَراك، ستكون لتلك المناورة تداعيات عليه: سينقسم الحَراك على نفسه بين قابل بتنازلات الملك ورافض لها، وفي نفس الوقت سيُفتَح الباب أمام الأحزاب السياسية لتتصدَّر المشهد. ويعرف الجميع أن آلية النضال وآلية الانتخابات لا تتوافقان. شهدنا ذلك في مصر وتونس طيلة العامين التاليَيْن لسنة 2011، وكيف تمكنَّت آليات الانتخابات من جعل الاحتجاجات في الميدان تتوارى. خطورة هذه المناورة تتفاقم مع غياب قوة يسارية تضع نصبَ أعينها استعمال الانتخابات ومؤسسات الدولة من أجل تحريض الشعب على النضال، ما يفتح الباب أمام نفس الأحزاب القائمة على استثمار استياء الشعب ونضالاته للتداول على نفس الواجهة الحكومية، كما فعل حزب العدالة والتنمية الإسلامي سنة 2011، ويُعِدّ نفسه حاليا للقيام بنفس الدور.
تزداد خطورة هذه المناورة، باستحضار السياق السياسي للبلد والتقليد السائد فيه، والذي يقتصر على انتقاد الواجهة الحكومية بدل السلطة الفعلية (أي الملك). كلّ الغضب الحالي مصبوب على رئيس حكومة الواجهة، عزيز أخنوش، وهو رجل أعمال كبير ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار الذي كان قد أسّسه صهر الملك في بداية الثمانينيات، لمنافسة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي كان يشكل المعارضة الليبرالية آنذاك.
إذا اكتفى الحَراك الحالي بقبول استقالة رئيس حكومة الواجهة، فسيكون تأثير ذلك أبعد مدى من أي قمع شرس. فرئاسة الحكومة بالمغرب لا سلطة فعلية لها، عزيز أخنوش بذاته صرَّح أثناء تنصيبه رئيسا لحكومة الواجهة سنة 2021، بأنه “سيطبِّق برنامج الملك”، وعبد الإله بنكيران (الأمين العام لحزب العدالة والتنمية) صرَّح مؤخرا: “الحكومة المقبلة، لن تسيروها لا أنتم ولا نحن، بل الملك”. والمجلس الوزاري الذي يرأسه المَلك له صلاحيات تقريرية تجعل مجلس الوازرة، الذي يرأسه رئيس الحكومة، خاضعا له.
لذلك فإنّ أيّ تغيير حكومي، حتى وإن كان تحت ضغط النضال، لن يكون له أي مفعول يُذكَر على الأوضاع التي دفعت الناس للاحتجاج. إنما سيكون مناوَرة لخداعهم ودفعهم إلى الاستكانة والانتظارية، وستكون الكلفة أكبر. فماذا يكون المطلَب بعد تبيُّن أن حكومة أخرى لم تحقق المطالب. بما سيطالب الشعب بإقالته؟ ما دامت المَلكية هي الحاكمة الفّعلية، وهي سلطة غير منتخَبة ولا تخضع للمساءلة والمحاسبة، يظلّ تغيير الواجهات الحكومية مجرد خداع للشعب.
أبرزت انتفاضة الشباب الأخيرة عن قتالية منقطعة النظير. إلا أن التجذر النضالي لم يوازه تجذُّر سياسي؛ إذ هناك حرص من الحراك على عدم التصادم مع المَلكية. لكن هذا مجرد تأجيل للمحتوم، فالمَلكية هي التي ستتصادم مع الشباب حينما تتأكد من أن عزيمتهم تزاداد بدل أن تخور.
حرص على الاستقرار السياسي
بالنسبة للمَلكية يشكل الاستقرار السياسي “رأسمالا سياسيا” تستعمله لتروِّج في الخارج صورةَ بلد مستقر يشكّل “واحة الديمقراطية” في محيط الاستبداد العربي. يفتح هذا البابَ للمَلكية لضمان دعم الدول الكبرى والولوج السهل إلى سوق التمويل الدولية واستقطاب الاستثمار الأجنبي.
يشبهُ شباب جيل- زد212، باحتجاجاتهم الأخيرة، “مفسدي حفلات”. فالدولة راهنت بكل شيء على تنظيم كأس أفريقيا (نهاية 2025) وكأس العالَم (2030) لكرة القدم، إلى حدّ أن الاستحقاقات الانتخابية المُقبلة حُدِّدَ لها شعار “حكومة المونديال”. أرادت الدولة بهذا أن تزيد من بريق صورتها كدولة مستقرة وصاعدة، لكن الاحتجاجات الأخيرة أفسدت عليها الحفلة، إذ أزالت الستار عن المغرب الحقيقي: مستشفيات الموت، مدارس خربة، ملايين الشبيبة خارج المدرسة والعمل… إلخ.
من تقاليد المَلكية اعتمادُ القمعِ المحسوب والانتقائي، تفاديا لإحداث قطيعة نهائية مع الشعب الذي تحكمه، مستفيدة من طيف حزبي يعتبر المَلكية أساس استقرار البلد. عادة ما يُطرح في وجه النضالات الشعبية والعمالية سيناريوهين اثنين: 1) إمّا قمع شرس يطبع العلاقة بين المَلكية والشعب بالدم إلى ما لا نهاية؛ 2) أو تسامح مع التظاهرات ما سيشجع المزيد من شرائح الشعب على الالتحاق بالتظاهرات… وكلا الخيارين يدمران الاستقرار السياسي الذي تحرص عليه المَلكية دوما. لذلك تحرص المَلكية على القمع الانتقائي والمحسوب مع إجراءات لتنفيس الوضع.
ضمانات النصر: التنظيم وإضراب عام عمالي وشعبي
تطرح انتفاضة الشبيبة الأسئلة الاستراتيجية القديمة: من القادر على هزم الاستبداد وانتزاع الحرية السياسية؟ قتالية الشباب حاليا مرتفعة ومنقطعة النظير. لكن هذه الشبيبة لا تفعل سوى الإشارة إلى طريق حلّ المعضلات التاريخية للبلد، ولن تستطيع ذلك اعتمادا على قواها لوحدها.
ستكون المأثرة التاريخية للشبيبة المنتفضة هي إيقاظ القوة الوحيدة القادرة على هزم الاستبداد؛ تلك القوة التي تتحكم في الإنتاج المادي ووسائل التبادل والجهاز الإداري للدولة. هذه القوة الطبقية، قِسمها المنظَّم في النقابات تحت سيطرة قوى سياسية غير عمالية، بيروقراطية تمثّل أذرعا نقابية لأحزاب برجوازية (ليبرالية ورجعية دينية)، أما القسم غير المنظَّم فهو عديم الخبرة النضالية ومحطَّم المعنويات بفعل البطالة والشغل الهش.
لو تمكنت الشبيبة المنتفضة من إيقاظ المارد العمالي من قمقمه وإطلاق قواه، فستكون قد قدَّمت خدمة تاريخية للنضال من أجل الديمقراطية بالبلد. فشلُّ آلة الإنتاج ومنع تدفق الأرباح هو ما يخيف الماسكين بزمام أمور البلد. لم تتمكن الثورة التونسية من هزم بن علي إلا بعد إعلان الاتحاد العام التونسي للشغل الإضراب العام، ولم يضطر عسكر مصر إلى فرض الاعتزال على مبارك إلا بعد التحاق الطبقة العاملة بالسويس والمحلة والقنال بالثورة.
طيلة الأحداث السابقة، كان على عاتق اليسار مهمة تاريخية في الدفع بالدعوة إلى إضراب عام عمالي شعبي. نعم المهمة صعبة ولكنها لم تكن مستحيلة. لا يمكن حاليا إقناع القيادات النقابية بإطلاق هذا الإضراب العام، لكن كان يمكن البدء بما في اليد بدل انتظار ما فوق غصن الشجرة. كان يمكن البدء بإعلان إضراب تضامني في قطاع التعليم حيث هناك نقابة قيادتها كلها يسارية (النهج الديمقراطي العمالي) بتعاون مع تنسيقيات التعليم (وعلى رأسها تنسيقية الأساتذة المتعاقدين)، والفروع النقابية المناضلة خصوصا في قطاع الصحة وحيث تتواجد في القطاعات الأخرى… هكذا كان يمكن أن تشكل الإضرابات التضامنية كرة ثلج ستتضخم مع كل نجاح تُحرزه الحركة. خصوصا أن إعلان الإضراب في قطاع التعليم كان سيحرّر الشبيبة المتمدرسة والجامعية لكي تنخرط في النضال.
لن يتحقق هذا بدون أن يكون لليسار (الجذري والإصلاحي) دور كبير في دفع الأحداث، بدل أن يكون متذيّلًا لها، كما هو الحال لحدود الساعة بالمغرب. ولن يكون لليسار دور دون أن يطرح مهمة توحيد فعله النضالي والسياسي.


