كيف نتصدّى لزمن التوحش الأمريكي؟

12/02/2025
كيف نتصدى لزمن التوحش الأمريكي

تتواتر التصريحات والتهديدات القادمة من واشنطن، وتحديدا من الرئيس “الجديد” للدولة الامبريالية الأمريكية، لتؤكّد أنّنا دخلنا بحقّ زمن التوحّش” الاستعماري الأمريكي والصهيوني، كما وصفه الكاتب وليد شرارة في جريدة الأخبار.

إذ لم يتوقف ترامب عن التهديد بسيناريو الاستيلاء على قطاع غزة وتهجير سكّانه إلى بلدان مجاورة. بل تعدّاه أمس إلى تهديد غزة ومقاومتها بـ”الجحيم” في حال لم تُفرج عن “جميع الأسرى في حدود منتصف يوم السبت المقبل”.

مازال كاتب هذه السطور يعتقد أنّ ترامب بصدد ممارسة ما يجيده كبرجوازي مغامر بنى ثروته في مجال الصفقات العقارية: ترفيع السقف والتهويل من المخاطر من أجل الحصول على أقصى مقابل ممكن ممّن يريد أن يبيع لهم بضاعته الفاسدة. طبعًا، سيكون ترامب سعيدًا لو قبلت الأنظمة العربية الخانعة في الأردن ومصر توطين الفلسطينيين لديها إثر تهجيرهم من غزة (وربّما من الضفة بعد أن تمضي اسرائيل في قرار ضمّها). لكن هدفه الرئيس هو على الأرجح تمكين العدو الصهيوني من تحقيق ما لم ينجح في تحقيقه رغم حربه الإباديّة ضدّ أهل غزة ومقاومتها طيلة خمسة عشر شهرًا: القضاء على المقاومة وتحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح تحت السيطرة الاسرائيلية. هو إذن يضغط من خلال سيناريو “التهجير” على الأنظمة المجاورة وعلى الحاضنة الشعبية للمقاومة، وعلى قيادة المقاومة نفسها، حتى يقع تحصيل الثمن الذي أعلن عنه نتنياهو منذ فترة: خروج قيادات المقاومة وتسليم سلاحها وانتقال الحكم في غزة إلى سلطة عميلة لاسرائيل.

إذ أنّ ترامب ليس أحمقًا أو متهوّرًا – كما يريد أن يوحي بذلك – كي يجهل أنّه لن يقدر، كما لم يقدر جيش الصهاينة – رغم تسليحهم وتمويلهم أمريكيًا – على اقناع أهل غزّة الذين صمدوا وضحّوا بالغالي والنفيس بمغادرة وطنهم طوعًا. وكي ينجح إلى حدّ ما سيناريو التطهير الإثني، الذي يروّج له زعيم “العالم الحرّ” دون حياء، هناك طريقتين ممكنتين فقط: إمّا أن يضمن ترامب لأهل غزة الهجرة إلى بلد غنيّ يضمن لهم حقوق مواطنة كاملة وظروف مادية واجتماعية مغرية؛ أو أن يستأنف الصهاينة مجازرهم ويدفعونهم نحو الحدود المصريّة مع تواطؤ النظام المصري على فتحها هذه المرّة ارضاء لترامب.

ومع ذلك، حتى لو تحقّقت إحدى هاتين الحالتيْن – أو كلتاهما – فإنّ سيناريو تفريغ القطاع من سكّانه لن يكون مضمونًا. إذ لن يكون غريبًا على من صمد طيلة خمسة عشر شهرًا في شمال غزة تحت القصف والمجاعة، أن يكتب ملحمة جديدة من الصمود والإباء. هذا دون الحديث عن المقاومة التي ستقاتل حتمًا ببسالة حتى آخر رمق ولن تلقي سلاحها.

إذن، على الأرجح، الهدف من الإكثار من الحديث عن سيناريو التهجير، وإحراج الأنظمة العربية ودفعها الى التمرّد اللفظي، هو أن يصدّق الجميع أنّه خيار ممكن وقابل للتطبيق. وهو ما سيجعل لاحقًا سيناريو خروج المقاومة من غزّة مقابل بقاء الناس بمثابة أخفّ الضررينبالنسبة لأهل القطاع. وطبعًا لو اكتشف الصهاينة والأمريكان في الأثناء امكانية جدّية لتنفيذ هذا السيناريو (خاصة لو رضخ النظام المصري) دون خسائر جسيمة من جهتهم، لن يمانعوا قطّ في المضيّ فيه. هذا ما يمكن أن نستنتجه من طريقة تعامل ترامب مع بلدان أخرى كالمكسيك وكولومبيا وكندا وغيرها، إلّا أنّ درجة الانحطاط والخنوع الرسمي العربي يمكن أن تغريه بأكثر ممّا حقّقه مع غيرنا.

بيْد أنّ مشهد التوحش الاستعماري الفاشي الأمريكي، ورديفه الصهيوني، في منطقتنا لا يقتصر على فلسطين. وقد رأينا مؤخّرًا درجة الصلف التي تحدثت بها نائبة المبعوث الأمريكي إلى لبنان من قصر الرئاسة في بيروت. كما رأينا كيف استهزأ نتنياهو بموقف – “حليفه” – النظام السعودي الرافض للتهجير. بل نرى كلّ يوم مؤشرات متواترة على أنّه سيمتدّ إلى جميع بلدانها.

وحتى تونس، البعيدة نسبيا عن مسرح المواجهة المباشرة، لم تسلم من “التنمّر” الأمريكي. اذ انبرى السيناتور الجمهوري جو ويلسون مؤخرا إلى تهديدها عبر عدد من التغريدات التي دعا فيها إلى “وقف المساعدات” (وهي عسكرية وأمنية بالأساس) وإلى “تحرير تونس” من الاستبداد، وذلك على خلفية مواقف رسمية اعتبرها معادية للولايات المتحدة. قد يتعلّق الأمر بمجرّد ابتزاز رخيص ومألوف بورقة “الديمقراطية”، من أحد محترفي السياسة الامبريالية. لكنه لا ينفي حقيقة أنّ تونس – كما غيرها من دول المنطقة – تقع ضمن مهداف الإدارة الأمريكية الجديدة، التي لن ترضى بأقلّ من التبعية الكاملة لها – خاصة إزاء المنافس الصيني – والتطبيع الكامل مع حليفها الصهيوني.

ويُثبت ما سبق أنّه رغم كلّ ما قدمته الأنظمة العربية من تنازلات، خدمة لمصالح الولايات المتحدة واسرائيل، يظلّ الرضا الأمريكي والصهيوني غايةٌ لا تُدرَك. وهو ما يؤكّد مجدّدًا حقيقة أنّ المقاومة الفلسطينية، وهي تستبسل اليوم في تحدّي الأعداء، لا تدافع فقط عن أرضها وشعبها. بل هي تدافع فعليًا عن جميع شعوب وبلدان الأمّة.

وفي مواجهة موجة التهديدات الأمريكية الأخيرة، بفرض تهجير أهل غزّة واستكمال التطبيع الشامل دون أدنى تصوّر – ولو شكلاني – لإقامة دويلة فلسطينية، بادرت بعض الأنظمة العربية الخائفة على استقرارها إلى إصدار بعض بيانات الرفض والاستنكار. فسارعت بعض وسائل الإعلام السائد، ومعهم لفيف من المعلّقين والمثقفين والسياسيين من ذوي التحليلات المتذبذبة، إلى الإشادة بهذه المواقف والدعوة إلى البناء عليها وإلى الوقوف وراء هذه الأنظمة، التي يقع تقريبًا تقديمها كما لو أنّها “استافقت” أخيرًا من سباتها وقرّرت أن تدافع عن “مصالحها الوطنية”، وأن تغضب لأهل غزّة ولكرامة شعوبها. لكن سرعان ما انكشفت حدود هذا “التحدّي” العربي الرسمي أمس في تلعثم لسان ملك الأردن وقسمات وجهه، وهو يتحمّل إذلال ترامب له أمام العالم.

وهنا، يجب أن ننقد بوضوح بعض الأوهام التي بدأت في نشرها بعض الأوساط من خلفيات متنوعة (قومية، اسلاموية، ليبرالية وحتى يسارية). ومفادها أنّه يجب تأجيل كلّ الخلافات والتناقضات مع الأنظمة العربية والتوحّد معها للتصدّي للهجمة الأمريكيّة.

المشكلة الأساسية مع هذا الطرح، لا تتمثّل في المقاربة الأخلاقوية التي يعتمدها بعض الليبراليين (من خلال تذكيرهم بالسجل الإجرامي أو الاستبدادي للأنظمة) لتبرير رفض أيّ امكانية للتقاطع مع الأنظمة في وجه التهديد الامبريالي الداهم. بل تكمن في قصور الموقف الداعي لـ”الوحدة الوطنية” عن فهم الطبيعة البنيويّة لتبعيّة هذه الأنظمة تجاه المراكز الامبريالية، وعلى رأسها واشنطن. يكفي الاطّلاع على عدد ومضمون الاتفاقيات (من التجارية إلى العسكرية مرورا بالفلاحة والتعليم والثقافة والمجتمع المدني وغيره) التي تربط بها الولايات المتحدة إليها مصالح البرجوازيات القُطريّة، والنخب السياسية والعسكرية والأمنية والبيروقراطية التي ترعى تلك المصالح في أجهزة الدولة.

تمنع هذه المصالح والامتيازات، التي تراكمت على مدى عقود لفائدة شرائح مهمّة من البرجوازيات – وحتى من الطبقات الوسطى -، أيّة امكانية لتحوّل جدّي في سياسات تلك الدول بما يعيد إليها سيادتها أو يحرّر قرارها. بعبارة أوضح، أقصى ما يمكن توقّعه من الأنظمة (خاصة الخليجية منها، والمرتبطة باتفاقيات تطبيع مع الكيان الصهيوني أو تحتضن قواعد عسكرية أمريكية) هو عنتريات اعلاميّة ومناورات محدودة تضمن لها استقرارها؛ أي استمرار التبعيّة بنفس الآليات المعهودة مع “الشقّ الناعم” أو “الليبرالي” من الامبريالية، ممثّلًا في “الحزب الديمقراطي” في الولايات المتحدة وأشباهه في بقية دول الغرب. أمّا التغيير الجذري للمواقف والسياسات والتقدّم نحو التحرّر الوطني فهو سيتطلبّ ثورات شعبية منتصرة، أو انقلابات على طريقة “الضبّاط الأحرار”، أي الكثير من الدماء والتضحيات التي يؤطّرها تنظيم ثوري يحمل رؤية استراتيجية نقيضة.

وهنا قد يسأل بعضهم: لقد جرّبنا “الثورات” وحكم “اليساريين والاشتراكيين والقوميين” وغيرهم ممّن تحدّثوا باسم الطبقات الشعبية ورفعوا شعارات السيادة الوطنية والاشتراكية والوحدة العربية.. ولم ينجحوا. ما الجديد الذي ستقدّمه الثورة القادمة التي تدعون إليها؟

هذا سؤال كبير لا يتّسع المجال للإجابة عليه بعمق. لكن بداية الإجابة تكمن إلى حدّ كبير في هذا المقال البديع للمناضل والمثقف الهندي فيجاي براشاد، حيث يرسم لنا السيناريو المتوقّع بعد انتصار الثورة ويدعونا الى الاستئناس بأفكار مثقّف ومناضل آخر من منطقتنا، اسمه سمير أمين. فلنبدأ التصدّي من هنا.

مقالات ذات صلة

  • فيديو | اعتصام “المعارضة النقابية”: فرصة “لإنقاذ الاتحاد” أم “تدميرٌ” له؟

    تقرير لإياد بن مبروك بمساهمة غسان بن خليفة يتواصل اعتصام "المعارضة النقابيّة" منذ يوم 25 جانفي الجاري في بطحاء محمد…

    الأخبار, عمّالية, هام

    اعتصام المعارضة النقابية
  • افتتاحية | في وجه استئناف الإبادة: لمقاطعة شاملة للعدوّ الأمريكي!

    بكلّ ما في هذا العالم من حقارة، قرّر العدوّ الصهيوني استئناف حربه الإباديّة ضدّ أهلنا في غزّة (أكثر من 400…

    افتتاحيّة

    Edito
  • عمّ علي: سطر ضائع في كتاب الحياة

    يُعتبر عمّ علي (84 عاما) واحدا من أقدم بائعي الخضر في "مرشي طريق حفوز"، القائم في الضاحية الغربية لمدينة القيروان.…

    بلا حياد

    blank
  • إسرائيل والعرب و “مسافة الصفر”

    على مدى أكثر من عام ونصف، أعادت الحرب الاستعمارية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين واللبنانيين وغيرهم من شعوب المنطقة مسألة…

    رأي

    blank
  • يتواصل الاحتقان في رڨادة

    يعيش طلبة رڨادة في الأيّام الأخيرة حالة من التوتّر والقلق بعد ماتوفي الطالب عزيز المعراجي، القاطن بالمبيت الجامعي صبرة رقادة…

    الأخبار

    Cover Aziz Off