غادر السجن قبل الفجر بقليل. ستّ سيارات سوداء، حقيبة صغيرة، لحية كثّة بيضاء، وصمتٌ دام أربعين عامًا.
في الثالثة وأربعين دقيقة من فجر هذا اليوم، 25 جويلية/ تموز 2025، خرج جورج إبراهيم عبد الله من سجن لانميزان في جنوب فرنسا، بعد أن قضى فيه أكثر مما يقضيه القتلة والديكتاتوريون. لم يخرج نادمًا ولا منهزمًا، خرج كما دخل: باسم فلسطين، وبضمير لم تنجح الزنازين في تليينه، ولا عقود الأسر في زعزعة يقينه.
في تلك الساعات التي نُقل فيها جورج إلى مطار رواسي، كانت المجاعة تنهش ما تبقّى من غزة. لم يكن خروجه خارج السياق، بل شهادة على ان منظومة العدالة الغربية تنهار عند حدود فلسطين..
من طفل في القبيات إلى أسطورة في النضال
وُلد جورج عبد الله في الثاني من افريل/نيسان 1951 في بلدة القبيات، شمال لبنان، لعائلة مسيحية مارونية.
بدأ حياته مدرسا في مدرسة ريفية، يحمل مجلة “الآداب” على دراجته النارية ويجوب بها مخيم نهر البارد، موزعًا على من يعرف ومن لا يعرف.
لم يكن ابن حزب، بل ابن زمن انفجر فيه كل شيء: نكسة حزيران، مجازر المخيمات، الاجتياحات الإسرائيلية، وصعود الفصائل الفلسطينية.
فلسطين ليست حدثًا عابرًا في حياة جورج، بل هي البوصلة التي رسمت كل خطواته. منذ شبابه الأول، أدرك أن المقاومة ليست اختيارا، بل قدر لا مفر منه. انضم مبكرا إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد إصابته في اجتياح 1978.
وبعد الغزو الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، رفض عبد الله اتفاقات التهدئة، وانشقّ عن الجبهة.
مع أفراد من عائلته ورفاقه، أسس “الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية”، تنظيم ماركسي مناهض للإمبريالية.
كانت فكرته بسيطة : إذا كان الاحتلال يقتلنا على أرضنا، فلنطارده إلى الأرض التي يأمن فيها.
وراء العدو في كل مكان
في الثمانينيات، كان العالم يترقب بحذر العمليات الثورية التي استهدفت رموز الاحتلال وحلفاءه. في باريس، وقعت عمليات اغتيال استهدفت دبلوماسيين أميركيين وإسرائيليين عام 1982، أبرزهم تشارلز راي وياكوف بارسيمانتوف.
وفي عام 1984، ألقي القبض على جورج بتهمة حمل جواز سفر مزور.
ما بدأ كقضية قانونية عادية، تحوّل إلى مسرح سياسي، شاهد على صراع رجل واحد ضد أعتى إمبراطوريات العصر، لم تكن التهم الأولى تتجاوز التزوير وحيازة السلاح، لكن تحت ضغط خارجي هائل، حُكم عليه بالمؤبد في 1987 بتهمة “التواطؤ”.
منذ العام 1999 أصبح مؤهلاً قانونيًا للإفراج المشروط، لكن 12 طلبًا رُفضت، رغم أنّ ملفّه لم يتضمّن أدّلة ماديّة تدينه.
وبقي عبد الله في السجن، لم تكن القضية في ماضيه، بل في صموده، في كونه لم يبدّل لغته، ولا أعاد صياغة نفسه كما أرادوا
زنزانة تتنفّس فلسطين
في سجن لانميزان، الزنزانة التي أقام فيها عبد الله كانت صغيرة، لكن جدرانها لم تكن صامتة.
على أحدها عُلقت صورة لتشي غيفارا.
في الزاوية كتب: “اقترب اللقاء يا فلسطين”.
وفي كل مناسبة، كان يُصدر رسالة يدين فيها الصمت، يتضامن مع الأسرى، ويُذكّر بأن القضية لم تمت.
“أنا مقاتل، لا مجرم”، قالها للقضاة، “غزة لن ترفع راية الاستسلام”، كتبها في رسالة قُرِأت في مظاهرة بمرسيليا في فيفري/شباط الماضي.
كان صوته يصل إلى الشارع الفرنسي، رغم أن الجدار بينهما لا يسمح حتى بالضوء.
لم يطلب العفو يومًا. لم يعتذر. لم يُجبر على توقيع وثيقة تنازل. ورفض الإفراج المشروط إذا كان ثمنه خيانة القضية.
قال محاميه: “قرأ كثيرًا، كتب كثيرًا، لكنه لم يساوم مرة واحدة”.
وربما لهذا السبب تحديدا، أبقوه خلف القضبان.
العودة من ليل طويل
في فجر هذا اليوم، خرج عبد الله من زنزانته للمرة الأخيرة، أفرغها من كتبه، وأعطى ملابسه للسجناء. حمل حقيبة صغيرة، وتوجّه بهدوء نحو الباب الحديدي.
على الجانب الآخر من العالم، لم يكن يعلم أن ثمانية عشر فلسطينيًا ماتوا جوعًا في غزة خلال أربعٍ وعشرين ساعة فقط، بينهم أطفال رضّع وأمهات حوامل، لكنّه يعرف أن ما سُجن لأجله، ما زال قائمًا:
الاحتلال الذي يستمرّ بقوة السلاح، المجازر التي لا تجد من يوقفها، والعالم الذي يوفّر الغطاء نفسه، لمن يرتكب الجريمة ذاتها، منذ عقود.
خرج الرجل، وفي غزة كانت الأجساد الهزيلة تلفظ أنفاسها الأخيرة..
في دير البلح، كان أب يبحث في ركام فرنٍ عن رماد يصلح للعجن. وفي مستشفى الشفاء، نام الأطفال على أرضية باردة، لا ماء، لا حليب، لا أكسجين.
وهناك، في العتمة الممتدة من باريس إلى رفح، صمت العالم، صمت أكثر وقاحة من كل هذا الدمار، صمت يمرّ على الجوع وكأنه لا يسمعه.
فلسطين هي البداية والنهاية
ليس سهلاً أن تعود كما أنت بعد أربعين عامًا خلف جدران بلا نوافذ، أن تحتفظ بفكرتك كما لو أنك دوّنتها أمس، وأن تصونها كما يصون الجائع خبزه، أن لا تساوم، لا تُخفّف كلماتك، ولا تمسح شيئًا من تاريخك.. لكن جورج فعلها.
سيعود إلى القبيات، وسيتحدث، وستُرفع له الشعارات..لكن صوته الحقيقي لم يكن يومًا هناك، صوته كان في كتب المقاومة التي وزعها، في رسالة كتبها من الزنزانة،بين رسائل الأسرى، في جدران المخيمات و في ذاكرة فلسطين التي تحفظ أسماء من لم يخذلوها.
خرج جورج عبد الله خرج جورج عبد الله من السجن، لكن السجن لم يخرج من هذا العالم، و الظلم الذي حاربه قبل أربعين عامًا ، ما زال يتجوّل بحرّية في “عواصم القرار”.
خرج كما دخل: ثابتًا، وعنيدًا، وحرًا من الداخل..بلا ندم، ومن بقي يملك شجاعة أن لا يندم؟


