حضارة الغرب هي حضارة الجريمة.. ولا يعسر على حضارة مارست كل هذا التدمير وارتكبت كل هذه المجازر على الأرض، أن تُولّد – بفضل الريع المادي السخي الذي احتلبته من الشعوب المغلوبة – دينامية فعالة أتاحت لها إنتاج جميع أشكال التقدم العلمي والتكنولوجي الذي نراه.
نعرف أن محمود درويش كان دائما يقول غير ما يفعل. وأنه أثناء كتابته لقصيدته “فكر بغيرك” في جنيف أو باريس، لم يكن يفكّر إلا في نفسه وأوهام عظمته.. كان بورجوازيا متعاليا.. وهكذا فإن شعورا غير مريح ساورني أثناء مشاهدتي لممثل أمريكي شهير يقرأ ترجمة إنكليزية لتلك القصيدة في خضم أيام الإبادة.. في محاولة منه لغسل عار التواطؤ الغربي في مياه التعاطف العائم مع المعاني النبيلة في تلك القصيدة، مثل الشعور الذي ينتابني عند مشاهدتي لدودة وهي تحاول ولوج ثمرة..
وأكاد أجزم أن المبادرة تمت بدفع من اليمين المتصهين نفسه.. لحساب سلطة رام الله العميلة أولا.. وترميما للصورة المتصدعة للغرب.. فما فتئنا منذ بداية طوفان الأقصى نشاهد لطميات غربية من أفراد أغلبهم من الصف السياسي الثاني في الغرب، ينزلون فيديوهات مؤثرة تغص بالمقولات البراقة ينوحون فيها على إضاعة ” الغرب ” لقيمه الإنسانية الأصيلة وهو يشاهد الإبادة في غزة.. بما يعني أن ما حدث كان مفاجئا لهم، ولم يكن النتيجة الطبيعية للغطرسة الغريبة طول عقود بل قرون..
ولا أن قيام “إسرائيل” العنصرية الإبادية القائمة على تزوير التاريخ ومحو الحقائق القائمة على الأرض واستبدالها بحقائق تلائمه ولدتها القوة، كان بفعل توكيل منحه إياها الغرب صب فيه كافة قذاراته وفوّضها اقتراف كافة الجرائم التي لم يعد يرغب في الولوغ فيها مباشرة، ثم عايشنا مؤخرا تدفق سيل فائض بالرغوة والرغاء، بتوالي الاعترافات الصورية للحكومات الأوروبية بدولة فلسطينية، التي هي الوجه الآخر لتجديد الاعتراف بحق “إسرائيل” في الوجود، وحقها في ” الدفاع عن نفسها ضد كل من يهدد ذلك الوجود”.
هؤلاء هم أخطر وجوه النفاق الغربي.. أشباح “سارترية” لذلك الذي لطم وجه “غربه” وأدماه، في مقدمته لكتاب فرانتز فانون.. ثم لم يلبث أن عاد لحضنه الحنون.. في كل مرة يصطدم نقد الغرب بتهديد ولو صغير لحياة الرفاهية التي يوفرها لأفراده.. والتي رغم أن سارتر يدرك أنها قامت على الجماجم وحطام الشعوب، فإنه لا يتردد في الاستمتاع بها والعيش في ظلها.. تماما مثل هؤلاء الزاعقين الذين يظهرون في أبهى حلة، ليكيلوا أقسى عبارات النقد لسياساتهم، ويذرفون الدمع على غزة المنكوبة.. هم من وراء مناحتهم يريدون الإيهام أن لهذا الغرب “قيما” سار عليها طوال تاريخه ويعيبون عليه خروجه منها وانحرافه عنها.. وهو الكيان الاستعماري الذي ارتبط فيه مشروع التنوير عضويا بمشاريع التدمير للشعوب الأخرى.. وهكذا في الوقت الذي بدأنا ندرك بشكل لا رجعة فيه أن التعويل على “الحس الإنساني للغرب” لإيقاف المذبحة صار ليس فحسب وهما، بل مخادعة للنفس وعماء لا يغتفر عن حقائق التاريخ.. يأتي هؤلاء مثل الغبار المتطاير الذي يحاول حجب عاصفة تاريخية كبرى على وشك الهبوب.. تنسف مختلف الأكاذيب والأساطير التي قام عليها البناء الغربي..
هم يقولون أنهم مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والعيش في سلام.. وفي نفس الوقت مع حق ” إسرائيل ” في الأمن والسلام كذلك.. وهذان نقيضان لا يلتقيان.. لأن وجود الكيان الغاصب هو النفي الأكيد لحقوق الضحية والعكس بالعكس.. لكن الضمير الغربي لا يعبأ بهذه التناقضات ويتعامى عنها.. لأن كل ما يبحث هو تبرئة لذمته.. والمحافظة على صورته كراع للقيم الإنسانية.. ولو بالتزوير المعمم لكافة وقائع التاريخ وحقائقه.
بعدما رأيناه في الشهور الأخيرة من صور الدعم لغزة وفلسطين، والتبني التام لنضالها، آتية كلها من جهات لا علاقة لها بالعرب ولا بالعروبة، مثل إيران وجنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأخيرا أسطول الصمود الذي نظمه وقاده بشر جاؤوا من مختلف أصقاع العالم وحدتهم غزة وحركهم الانتفاض الإنساني الحر في وجه مشروع الإبادة الصهيوني لشعب غزة، مقابل استمرار خمود صوت طلاب جامعات العرب والمسلمين وشعوبها، واسترسالهم في بياتهم الذي لا يرجى لهم يقظة من بعده، لا حاجة لنا لأن ننعي على العرب لامبالاتهم، ويصح فيهم تماما قول الملثم بأنهم جماعة “لا سمح الله”… من خلال الوقائع الأخيرة وتعرفنا على نوعية البشر الذين دعموا غزة في صراعها مع العدو الصهيوني وانتماءاتهم، تتأكد لنا حقيقة واضحة لا سبيل للالتفاف حولها أو مراوغتها: هي أن فلسطين ليست قضية “عربية” إطلاقا.. وعرب الدم واللغة والتاريخ لم يفعلوا شيئا غير المتاجرة بها. وعقد الصفقات وإجراء المساومات على حسابها، ووجودهم على التخوم معها كان صدفة جغرافية لا غير، بل هي قضية الحرية و الأحرار على مستوى العالم كله، الرافضون للهيمنة وثقافة الهيمنة، وتناقض هذه القوى مع الصهيونية يتم على مستوى اعتبار الأخيرة، على حد عبارة فتحي المسكيني “تعبيرة استعمارية” تمثل كافة قيم الاعتداء ورفض وجود الآخر ، وانتصار فلسطين على الصهيونية ليس إطلاقا انتصارا لعروبتها، بل انتصارا لقيم الحق والعدالة ومعاني المشترك الإنساني الذي يشترك في الإيمان به طيف واسع من البشر متعددي الانتماءات القومية والدينية والثقافية. وهكذا يصبح بوسعنا فهم الهبة الأخيرة لأسطول الصمود الذي مضى نحو غزة، غير آبه باحتمالات شبه أكيدة لصدام دموي مع الوحش الصهيوني على أنها وثبة الضمير الإنساني دفاعا عما تبقى له من قيم تعطي لإنسانيته دلالتها في وجه التوحش الكولونيالي الذي تمثل الصهيونية وجه الذروة فيه.
قبل عدة أشهر قام الطلاب اليساريين في جامعة كولومبيا باحتجاجات عنيفة ضد الإبادة، ( المفارقة أن هذه الجامعة التي شهدت التحركات المناهضة للكولونيالية التي تمثل الصهيونية أقبح وجوهها أخدت اسمها من مؤسس النظام الكولونيالي ورائده : الاستعماري العتيد كريستوف كولمبوس ) هؤلاء ليسوا متعاطفين مع فلسطين وغزة فحسب، ولا يعتبرون القضية قضية عربية، بل جزء لا يتجزأ من صراعهم الوجودي مع الوحش الرأسمالي المهيمن على مقدرات الكوكب.
أسطول الصمود الذي يهدف لفك الحصار عن غزة أعاد للحياة الفريضة الغائبة: التضامن الأممي العابر للحدود مع قضايا الحق والتحرر ومقاومة الظلم والعدوان وتحدي مخططات عزل البشر عن بعضهم وكسر الحدود الوهمية التي أقامتها الأنظمة لتفصل بين الشعوب، ولتنسيهم أن معاناتهم واحدة وعدوهم واحد، وتصيير اللامبالاة بآلام المظلومين ووقائع الإبادة الدائرة أمام العيون قاعدة معتمدة في حياة البشر وسلوكهم، والصفة الأبرز في أخلاقهم .
لا قيمة للحديث عن “اختلال ميزان القوى” كلما تعلق الأمر بمساندة حركة تحرر لشعب يعيش وضع احتلال إبادي كالذي نراه في فلسطين، وليس لدينا أوهام حول نجاح الأسطول في القيام بفك فعلي للحصار وإنهاء أعمال الإبادة، وليكف الساخرون عن سخريتهم، الذين يعيرون منظمي الحراك الأخير الذي انطلق من تونس، بأنهم حالمون، و” هادين على الجبل بقادومة” و “ماشين يحاربوا “إسرائيل” بالصراخ”، يريدون كل شيء أو لا شيء، الذي يعني في الظروف الحالية أن لا شيء بوسعنا القيام به. طالما نحن غير قادرين على إنجاز كل شيء دفعة واحدة، ومطلوب منا الالتزام بحدود العجز والصمت، خير لهم أن يقولوا أن فلسطين لا تهمهم، وبذلك يحصل فرز حاسم وواضح للخنادق، هؤلاء المتهكمين لم ولن يفهموا دلالات حمل الإنسان الحر لعبء إيمانه قضية عادلة وإسناده المبدئي لها، يقوم خلاله ببذل أي شيء فيها مهما كان ضئيلا وصغيرا يقدر عليه لدعمها وإبقاءها حية في الضمائر، كي لا يدفنها ظلام النسيان، ويستفرد بها عدوها الحقود ويبيد شعبها على راحته.
ألا لعنة الله على العجز ، وألف لعنة على أنظمة العار التي صيرتنا على هذا القدر من الذل، وسلبتنا كل قدرة على الرد الفعال على مشاريع الإبادة، وكل قدرة على امتلاك أمل في مستقبل تعيشه شعوبنا بكرامة
يكفي أسطول الصمود أنه كسر الحصار المضروب على الإرادة الشعبية، وأرجع للجماهير – مهما كانت نسبة المشاركة فيه – إيمانها بقدراتها الذاتية على إنجاز تحرري وفعل مستقلّ، هذه البادرة تؤكد أن المناصرة للقضية الفلسطينية لا يصح أن تظل مساندة كلامية من بعيد، عاجزة على القيام بأبسط حراك على الأرض، وبالتالي ليس فيها ما يزعج المعتدي. بل عليها أن تمضي أبعد لتصير عملا جماهيريا مؤثرا على الأرض يتحرك على إيقاع هدف محدد، هو هدف قلب موازين القوى لصالح التحرك الجماهيري المنظم المستقل عن توجهات الأنظمة الحاكمة المرتبطة دوما بمصالح البورجوازية الخائنة، يتعدى النطاقات التي ترسمها حدودا لتحركه، ويخلق نطاقاته ويقدم إجاباته بشكل حر تبعا لما يعترضه من عقبات، وما يثيره واقعه الصعب من أسئلة ..
الأسطول بصدد جر العدو لمعركة يعجز عن مجاراتها وعن تدارك خسائره، ليدرك كم هو كريه ممقوت من العالم قاطبة، لا مكان له فيه ولا مستقبل.. مهما كدس من أسباب القوة والأسلحة الأشد فتكا، إسبرطة كانت معسكرة حتى الأسنان وأثينا كانت مسالمة، وانهارت إسبرطة وبقيت أثينا، ولا أحد في العالم يريده، أو سيتأثر لزواله، سوى رعاته المكروهين بدورهم من العالم بأكمله، ومهما حاول هذا الكيان الاستخفاف بالمقت والحقد العالمي عليه، فلن يحتمل عزلته في النهاية وسينهار بنيانه، وعلينا أن لا نسمح له بالعودة عبر أي حل سياسي أو أي وضع يعيد فرضه على الأرض بالقوة العسكرية، ما حدث له بعد طوفان الأقصى جرّه نحو مسارات جديدة عليه كل الجدة، قد يعربد لبعض الوقت معتدا بالقوة ودعم الغرب له، لكنّه لن يتحكم في نهاية الصراع أو يرسم أفقه، بعد أن أدخلت المقاومة معادلة جديدة عليه، هي استعادة وإحياء للمبدأ القديم الذي تؤكد الأيام صحته ” ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة ” والقوة هنا ليست قوة التدمير، بل قوة الإرادة، وقوة الإيمان بالحق، وقوة الارتباط بالجذور، وهؤلاء الصهاينة غرباء عن فلسطين مهما تعاقبت أجيالهم فيها.. ولن تكون أرضهم في يوم من الأيام، ولن ينجحوا يوما في تحويل باطلهم إلى حق، ولا أفق أمامهم غير الغرق أكثر في أوحال توحشهم، وما يفعلونه ليس غير استرسال في الوهم، لن تكون كلفته بالحد الذي يتحمّلونه، لأن ما قام على باطل فهو باطل.
يجب أن نفهم أن ترحيل هؤلاء الغزاة وعودتهم من حيث جاؤوا ليس أمرا مستحيلا. وأن شدة البطش والقوة العسكرية لا تستطيع أن تقهر الإيمان بعدالة القضية، والصهاينة حثالة البشرية ليس بوسعهم، وهم من هم من الخساسة والولوغ في الدماء، تبديل حقائق التاريخ. لم يخلق ” وضع التقادم “حقائق ديموغرافية” غير قابلة للتجاوز، الفرنسيون احتلوا الجزائر منذ 1830 ولبثوا فيها 133عاما، وفيها عاش فرنسيون وأنجبوا أجيالا من الأبناء والأحفاد، وعندما استقلت الجزائر رحلوا جميعا ولم يبق منهم هناك من أثر، ورجعت الجزائر للجزائريين ..
المراكب المبحرة بشجاعة في عباب المتوسط تقوم بمهمتها الأساسية: إعادة ضخ الدماء في شرايين الإرادة الشعبية شبه المشلولة، وكسر طوق الحدود الخانق المضروب على شعب غزة الأعزل، وأننا لم ننساه وأنه ليس وحده في مواجهة العدوان الصهيوني. وأن ضمائر الأحرار ليست ميتة، وأن فجرا سينبثق من رحم هذا الظلام الحالك، وأنه إن كان للباطل الصهيوني جولة، فللحق الفلسطيني جولات بعده .
في هذه المرحلة الدامية من الصراع مع الصهيونية وراعيها الأكبر دولة الشر المتحدة وبقية الغرب. ندرك جيدا أننا لا نملك طائرات ولا صواريخ ولا بوارج ولا إمكانيات لإيقاف الإبادة، غير أجسادنا وأصواتنا وإيماننا بالحق الفلسطيني وشعورنا بعار الصمت تجاه التقتيل الجنوني الذي يمارسه النتن.. هذا هو الأساس المتين الذي انطلق منه الأسطول؛ استعادة النبض الجماهيري الحر لوهجه.. نهوضه بعد طول رقاد، إعلانا أننا لا زلنا هنا نقاوم.. أن فلسطين كانت وستظل هي بوصلتنا نحو كافة مستويات التحرر، وعلى رأسها تحررنا من إملاءات السلط الحاكمة، وكسر الحدود التي ترسمها لنا، وقدرة الجماهير على ابتداع أشكال الفعل المقاوم. حتى لو كانت البداية بعدد محدود منهم.
ماذا نفعل حيال دموع الدم التي تذرفها أم فقدت جميع أطفالها والعالم يتفرج؟ هل نظل نتفرج معه؟
ماذا نفعل للأطفال الذي فقدوا أطرافهم وحُكم عليهم بالشلل وبالإعاقات مدى الحياة؟ هل نظل نتفرج على مصرع الطفولة الذبيحة ولا نبالي؟
ماذا نفعل للجموع الغفيرة من البشر العزل الأبرياء، التي دمر العدوان منازلها وحكم عليها بالجوع والتشرّد؟ هل نتركهم في مهب النسيان وننسى أنهم ذوات بشرية مثلنا، تعاني معاناة لا سبيل لاحتمالها؟
لا زلنا شعوبا بالملايين، ولسنا أمواتا بعد، وبيننا وبين الصهاينة ثارات بحجم الجبال..


