رأي |عاملات الفلاحة بتونس: وعود متواصلة لحلّ مشاكلهنّ وغياب تام لآليات التطبيق

بقلم مريم المرزوقي
طالبة صحافة بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار.

“! ستأتي التشريعات التي ستعطيكنّ حقوقكنّ كاملة

كلمات جاءت على لسان الرّئيس التّونسي قيس سعيّد خلال زيارته قبل سنتين  لعاملات الفلاحة في منطقة المرادية من ولاية جندوبة بمناسبة عيد المرأة التوّنسيّة، أين التقى يومها عددا من النّساء الكادحات العاملات في القطاع الفلاحي، إرتأى من عرقهنّ السّاقي للأرض ووجوههنّ المشرقة على زرعها  سبيلا مُعينًا لا على خدمة الأرض والإقتصاد التونسي  فقط بل الى  ذلك على خدمة  حملته الانتخابيّة و تحسين صورته الإعلاميّة، وجلب ال “نعم” لدستور جويلية 2022 في ذلك الوقت، خاصّة بعد تصريحه بأنّ “التّشريعات القادمة ستعطيهنّ حقوقهنّ” ما أثار الطّمع في مستقبلٍ محترم مضمون صحّيا وإجتماعيّا و بالأخصّ على مستوى وسائل النّقل في نفوس هؤلاء النّسوة اللّاتي يُعانين الحرمان على جميع الأصعدة.

في الواقع، كغيرها من الوعود المرتبطة بمثل هذه الزّيارات الميدانيّة والنّاتجة عن حماس الأعياد الوطنيّة و الخالية من التّفكير والتّأمّل بجدّيّة في قضايا “من هم تحت” على قولة ناجي العلي، لم يتمّ وضع هذا الملف على طاولة الحلول ودليل ذلك، وعلّه ما يدفع الى استفزاز الذاكرة والعودة بها الى مثل تلك التّصريحات، هو الحادث الحاصل قبل أيام المتمثّل في انقلاب شاحنة حاملة لأكثر من عشرين عاملة وعامل فلاحة بين منطقتي ماجل بالعبّاس والناظور، والأكيد أنها تسببت لهم في إصابات تفاوتت خطورتها من فرد إلى آخر، حادثة تغاضت عنها السُّلطات المعنيّة خوفًا من إعادة النّبش في ملف عاملات الفلاحة ومسألة تنقّلهنّ التي لا تزال محلّ تهميش و تجاهل كغيرها من الضّروريات الإنسانيّة اللّاتي هنّ في حاجة إليها.

ويبقى التّساؤل هنا هل نحن في حاجة فعليّا إلى كارثة ليتمّ إنصاف نساء الفلاحة اللّاتي يمثّلن اكثر من 70% من القوّة العاملة في القطاع الفلاحي في تونس؟  مع العلم وأنّ مفهوم الكارثة يختلف من مُنجد إلى آخر، لكن القصد هو كارثة بتعريف الرّأي العام البخيل الذي لا يُصنّفها كارثة إلّا إذا ما حلّ الهلاك مثل وفاة  نساء حادثة “الكميونة” المشؤومة في  سيدي بوزيد.  وعلى ما يبدو أنّ الكوارث نفسها أصبحت ذات مفعول مؤقّت يساهم في بروبغندا وقتيّة تزول مع مرور الأيّام بنهاية مفتوحة لا إصلاح من بعدها.

فلنلتزم الشّفافيّة في سرد ما ترتّب عن انقلاب شاحنة بمنطقة السبّالة التّابعة لولاية سيدي بوزيد في أفريل 2019 من بعض ما يسمّى بالإصلاحات: تمّت المصادقة على قانون 51 في نفس السّنة الذي نصّ على “احداث صنف جديد من نقل العملة الفلّاحين” تمّ على إثره توفير عدد من الحافلات من قِبل الشّركة الجهويّة للنّقل في عدّة مناطق على غرار ولاية جندوبة لتنقل عاملات الفلاحة حيث الحقول الزراعيّة مواطن أرزاقهم، لكنها باءت بالفشل بعد اكتشافهم فيما بعد أنّ سائق الحافلة لا يستطيع أن يدلّهم على الحقول والفلّاحين أصحاب الأراضي الذين سيقومون بتوظيفهنّ، بطريقة أفصح وجب أن يكون سائق الحافلة وسيطا “سمسار” ليتوسّط لهن في إيجاد فلّاح في حاجة إلى عاملات يخدمن أرضه كما كان الحال مع سائقي الشاحنات الصغيرة الغير مأمّنة التي كُنّ يتوسّلنها، ليس هذا فحسب بل تصلُ عمليّة “إسترقاق” عاملات الفلاحة الى كون السمسار هو من يتقاضى أجر أتعابهنّ، ثمّ من بعد ذلك يعطي كل واحدة منهنّ أجرة عملها (بين 10د و15د في اليوم) حسب مزاجه، ويتمتّع بما تبقّى ممّا أعطاه إياه الفلاح، دون التّعمّق في ذكر المضايقات التي يعانينها طيلة رحلتهم نحو حقول البؤس. وظلّ بعد ذلك قانون 51 قابعًا بين دفّتي كتاب الدّستور دون أي نيّة أو آليّة جادّة لتحقيقه.

منذ 2015 تم رصد وفاة 51 امرأة من العاملات في القطاع الفلاحي في 56 حادثة بحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فضلا عن اللّاتي يتضرّرن جسديّا مع كلّ حادث ويدفعن من جيوبهنّ ليُضمّدن جراحهنّ، واللّاتي يُعانين مشاكل صحيّة جرّاء شقاء المهنة دون أيّ تعويض أو أي ضمان إجتماعي فلا شيء مضمون هناك سوى الموت.

 كما هو جدير بالذكر انّ معظمهنّ لم يتوقّفن عن الفلاحة خلال جائحة ” كورونا” ولعلّه السبب في عدم ركود القطاع الفلاحي كغيره من القطاعات الأخرى في تلك الفترة. ممّا يدفع إلى  التّعجّب هل من الصّعب تأمين حياة إمرأة تؤمّن هي غذاء شعب بأكمله؟ هل أنّ حمل مسؤوليّة هؤلاء النّسوة أثقل من حملها هي لصناديق الثمار التي ستخدم اقتصاد بلد بأكمله؟ ولا بُدّ أن نعترف هنا أنّ التّراخي في تحقيق متطلّباتهنّ واعتماد  سياسة الوعود بدلا من سياسات تفعيلها ليس إلّا خدمة لمصالح سياسيّة و إستعمال لوضعياتهنّ في كلّ محفل وطني لإثارة الشفقة و تبديد الإيهام في نفوسهنّ، لتبقى رهينة مناسبات تعداد حقوق المرأة دون منحها لهذه الحقوق.

  وبالمناسبة، وفي خضم الإحتفاء والتّفاخر بذكرى عيد المرأة التونسية المرتبط بتبني مجلة الأحوال الشخصية لبعض الحقوق المنصفة لها قبل عقود، لا بُدّ من النّظر أيضا في واقعها اليوم كعاملة فلاحة سئمت  الورود والوعود في كلّ عيد وتنتظر تطبيق جاد للاصلاحات بنفس عزيمة الكلمات المختارات لتأبينها بعد وفاتها أو الرّفع من معنويّاتها عند زيارتها، فهنّ لا ينتظرن سوى تغيير حازم لواقعهنّ المحفوف بالموت.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !