أصبحنا وأصبح الملك لله.. في صباح يوم عيد الأضحى، ولحدّ منتصف النهار لا ماء جاري ولا انترنات ماشية، ولا ذبح ولا سلخ ولا روائح شواء ولا معايدات ولا جار يقبّل جاره ويستضيفه على صحن مشوي. جو الحرمان يخيّم على كل شيء.. ورغم أن القياس على مستوى الحرمان الذي يعيشه البشر في غزة صار أمرا مخجلا ومخزيا لنا جميعا، يعطي انطباعا قويا بأننا طبّعنا مع ما يحصل هناك من مآسي نطالب الناس هنا أن يحمدوا الله على أنهم لم يعيشوا مثلها في بلدهم. فلا مفرّ من إعادة التأكيد على أننا لسنا في غزة، وليس سبب ما نعيشه من حرمان هو وجود عدو همجي يقصفنا ويحاول ابادتنا، وأشقاء يقفلون في وجوهنا حدودهم ويحرموننا من أبسط وسائل العيش..
كارتل ” القشّارة “الذي هو واحد من أفتك المافيات في تونس وأكثرها استعصاءً على المحاصرة، أفرَغ السوق من الخرفان وفرض على المحرومين شراء أضحية العيد لحما بالكلغ، من الجزارين المرتبطين بهم والذين لا يقلون عنهم طمعا ونذالة، بسعر خيالي للكلغ الواحد.. ويصورون للناس الشراء بالكلغ على أنه عين الحكمة والصواب.. لكن لا يقولون لهم كم يربحون هم من بيع 2 كلغ لكلّ محروم بـ 150د
ماذا يحدث لتونس؟ ومن المسؤول عن إعادة إنتاج كل هذا البؤس المتراكم؟
تونس التي تجرجر خلفها تاريخا عامرا بالفساد والمفسدين، هي حفنة من البشر، تعدادهم لا يزيد على 11 مليون ونصف، ينتشرون على رقعة فسيحة من الأرض قياسا لعددهم، مساحتها 164 ألف كلم مربع، وبعددهم هذا قد يشغلون حيًا في بنغلادش، التي تقلّ مساحتها عن تونس فيما عدد سكانها 140 مليون. ومع هذا، ومنذ حوالي سبعين سنة، يرى الكثير من الطيّبين، وبمنتهى المرارة والحزن، أن هذا البلد يعيش حالة فشل دولاني تاريخي مرعب في إدارة شؤونه وتوفير حاجيات سكانه.. ويرون أن الدولة دوما مقصّرة في القيام ” بواجباتها”. لكنهم في مرات لا تحصى لا ينفكون يلتمسون لها العذر ويخففون من حدة التأنيب، فالدولة معذورة لكثرة ما عليها أعباء لإدارة شؤون هذه الحفنة من البشر، ولأن تونس بلد فقير بلا موارد، كانت فقيرة في الماضي وهي فقيرة في الحاضر، وستظل الى أبد الابدين فقيرة مسكينة مهيضة الجناح.
ما حكاية تونس مع الفقر؟ هل هو حقا الفقر أم فساد الإدارة؟ هل الفقر هو قدرها المؤبد، ومعه كافة صور الدونية وأشكالها؟ ثمة وجهة نظر أخرى لا ترى في الأمر فشلا دولانيا على الإطلاق، والأقرب للصواب أن نقول: لقد نجحت الدولة مرة أخرى في تأكيد طابعها وصفتها ومهامها، حتى ولو كان على رأسها شخص في نزاهة قيس سعيد وصفاء نيته.
الدولة عندنا هي، مثلما شخّصها بدقة الدكتور رضا كارم المختص في علم دراسات الرجولة، هي تحديدا وعمليا نظام ” أهل الحل والعقد “، ما يعادل نظام ” الطبقة النافذة” أو نظام العائلات المتنفذة التي لا شريك لها، هي ثلاثة أسماء لشيء واحد…
يمكن العودة لكتابات كثيرة للدكتور لمعرفة السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الطبقة، لكن ما يهمني هنا هو معرفة الآلية التي يشتغل بواسطتها نظام أهل الحل والعقد ويُحكم بها سيطرته على المجتمع والاقتصاد.. وعلاقته الغريبة بأيّ توجه ليبيرالي قد تفكّر ” الدولة ” في اتباعه. ولتوضيح أن أي فشل للمجتمع وانهيار للاقتصاد واتساع لدوائر الفقر، يعكس في الحقيقة نجاحا لهذه الطبقة في المحافظة على معاقل نفوذها وكسرا لكل نموذج لإدارة المجتمع والاقتصاد قد يحرّره من سيطرتها.
لو سألتَ أيّ تونسي عن فهمه للقانون لما أجاب بغير أنه غول يتربّص بنا الدوائر؟ فخ ينتظر الفريسة الغافلة ليطبق عليها. حفرة في طريق العابرين تنتظر من يقع فيها. ولا يرى في الإدارة التونسية غير جهاز للرقابة والكسر والتّحطيم والعرقلة؟ وفي جهاز البوليس غير الماكينة التي تستطيع أن ” تمرمدك” كما يحلو لها، وتداهمك في بيتك وتلقي بك في سراديب مظلمة دون تهمة.. ولا من سمع ولا من رأى.
القانون لا يحمل لنا أي خيرًا أو صلاحًا، ولا يدافع عنّا بأي صورة، سواء احترمناه أو حاولنا كسره، لأن حقيقته في مكان آخر. ثمّة علاقة عدائية بين القانون والواقع، القانون هو ترجمان حقد الطبقة النافذة على المجتمع الذي تمثله أغلبية مقهورة، لأنه لا ينطلق من حالة فهم نزيه له، بل لا يزيد عن كونه زبدة الرؤية الفكرية ” للطبقة النافذة” لهذا الواقع والآلية التي يرغبون في تشكيله وتطويعه بواسطتها، واللجام الذي يسوقونه به، يعبر عن منهجهم النظري في ضبط المجتمع وتطويقه بسلسلة طويلة من الشروط والقواعد المسطرة، يسمونها ” القانون” بجلالة قدره، تموّه على أصله ويبدو معه كما لو أنه نتاج مشيئة خيّرة، لا هدف لها غير مصلحة المجتمع، ومتعالية في آن، لا يمكن مناقشتها أو مساءلتها..
والإدارة هي الجهاز الذي يقوم بمهام تطبيق هذه الرؤية على الناس.. وباستثناء مهام هامشية وخدمات صغيرة تقدمها الإدارة لهم، فإن مهمتها الأهم هي محاصرتهم عبر قانون ” الرخص” ونظام الأوراق وسلسلة طويلة وعريضة من الشروط التعجيزية المتضاربة، لإقفال الباب أمام كل مزاحم للطبقة النافذة أو راغب في ولوج ساحة الامتيازات التي تستأثر بها وحدها أومقاسمتها شيئا منها، أكثر منه راغبًا في القضاء على نظام العائلات الاحتكاري برمته.
عورات الرؤية الليبرالية التي تزعم تعرية نظام “الطبقة النافذة” وتدميره، مع ميراث العار الذي يجرّه خلفه، هي أنها تهدف لاستبدال النافذين القدماء بنافذين جدد، وذلك هو جوهر حكاية ” حلاّن اللعب ” و”فتح باب المنافسة ” وتحرير السوق”.. أي التحوّل من اوليغارشية (نظام حكم الأقلية.. تترابط فيه مستويات السيطرة الاقتصادية والسياسية والثقافية) منغلقة على معاقل نفوذها، تخنق الدنيا وتسد جميع الأبواب، الى توحش ليبرالي لا مكان فيه للضعفاء يحكمه التنافس وقانون البقاء للأقوى المالتوسي…
في هذا الوضع الليبيرالي المصطنع يبدو الجميع أحرارا، بوسعهم دخول السباق والمنافسة على موقع أو مواقع، لكن بنظرة متأنّية لتاريخ تطور الرأسمالية نلحظ الاختفاء السريع للفارق بين نظام الاحتكار الذي يحمي امتيازات الطبقة النافذة و ما تزعمه هذه الرأسمالية من قيامها على تنافس حر.. فالحمائية والإقفال كانت هي الممارسة الطاغية على تاريخها، ونظام السوق الحرة كان مجرد زعم سريعا ما يتحول لنظام احتكاري يفرضه كبار حيتان الرأسمالية بقوة القانون والدولة، يفرز دون توقّف أهل حله وعقده. وعلى كل كاسب لثروة تولد جموع غفيرة من المحرومين منها. وتتسع الهوة الطبقية بما يجعل ” المنافسة الحرة ” ضحكا كريها على ذقون الفقراء، ونفهم منه أن خطوط حركة هذا النظام دائرية مقفلة.. لا ينفك معها يعيد إحياء ماضيه الكريه، فهو يبدأ بجماعة خدمتهم ظروف تاريخية وسياسية (خدموا الاستعمار، مارسوا السرقة والنهب، افتكوا أملاك غيرهم بالقوة، اعتصروا ثمرة جهد الآخرين أو كانوا ورثة لملك طائل وحمتهم قوانين فاسدة سنها أهل حل وعقد سبقوهم ) لتكوين ثروات أهلتهم للسيطرة على أغلب قطاعات الاقتصاد. ثم حدث نظريا، أنهم تحت حماية القوانين إياها التي سنّوها هم، فدخلوا ساحة المنافسة وتمكنوا من سحق منافسيهم الذين لم يصمدوا أمام قوتهم المالية.
“أهل الحل والعقد” يمارسون عملياتهم وهم يستظلّون براية شرعية تاريخية مدعاة، أعطتهم اليد الطولى سياسيا واقتصاديا. هذه الشرعية المدّعاة ومعها اتساع دوائر نفوذهم صيّرتهم كذلك الممثلين الحصريين لما يسمى بالقرار الوطني والاقتصاد الوطني. فطبقتهم هي صاحبة القرار، وقرارها هو القرار الوطني، وهي المسيطرة على أغلب قطاعات الاقتصاد، وحيث تمتد خيوط احتكاراتها فذلك هو الاقتصاد الوطني.
هكذا كان مفهوم “الوطنية”، الذي يعني كذلك “الشرعية”، مفهوما مثيرا للريبة على الدوام. إذ كان منذ نشوئه في تونس ملوّثا وممتزجا برؤية هذه الطبقة لذاتها باعتبارها الرافعة الأساسية للاقتصاد، والمصدر الأول للقرار، ولتونس برمتها على أنها سلسلة من دوائر التبعية والخضوع تقوم على هرمية يحدد تشكّلها أي الدوائر هي الأقرب لرعاية مصالحها.
لكن في سياق قيام هذه الطبقة بطرح الجلد القديم، أفرزت دورة التاريخ طبقة جديدة نافذة أكثر نذالة وشراسة وفسادا من التي سبقتها، تاريخ الرأسمالية برمته كان سلسلة من حالات التدحرج نحو القاع في كل شيء، القاع الفكري ممثلا في سيادة التفاهة، والقاع الإنساني ممثلا في انحلال جميع روابط التعاون والمحبة بين البشر، والقاع الأخلاقي ممثلا في ضياع القيم، والقاع الاقتصادي ممثلا في خمسة عشر عائلة صُبّ كل شيء في جرابها، مقابل الملايين ممن تسحقهم الحاجة.
ذلك بالضبط ما نعيشه حاليا، مع تحول الرأسمالية بشكل نهائي لنظام تركّز مريع للثورات والنفوذ، تمتص فائض القيمة من الفقراء المسحوقين بأكثر الأساليب غدرا وتمويها ومنتجة لنوعية مرعبة من النذالة والأنذال الشبيهين بالماكينات. علاوة على معرفتنا سلفا أنه نظام الفساد المنظم، الذي نعيشه في تونس ليس خروجا عن قوانين الرأسمالية أو تمهيدا للدخول فيها، بل يمثل ذروة مرحلتها الجنونية الأخيرة التي أعفتنا من المرور بمختلف مراحلها الأخرى، ووفرت علينا قطع مراحل تاريخية كثيرة للوصول لما انتهينا إليه الآن.
في القيروان مثلا، وعلى المستوى الثقافي خصوصا، يتجلى نظام الطبقة النافذة في أوضح صورة: ثمة اوليغارشية ثقافية مرتبطة بالخارج، ومطبّعة بشكل مموّه مع الصهيونية، تسيطر بشكل كلّي على المشهد الثقافي برمّته وتحتكر كافة الامتيازات. نفوذها الثقافي يتأتى أساسا من نفوذها المالي وشبكة ارتباطاتها المتشعبة، تروج لنوعية هجينة من الثقافة الخالية من الفكر، قائمة على فكرة الموالاة والتغنّي بالأمجاد القديمة التي تمثل هذه الأوليغارشية حجز الزاوية فيها.
بعض الحلّ قد يأتي به تمزيق شبكة الطبقة النافذة في تونس عبر إقامة نظام فيديرالي. بعملية فك ارتباط نهائي للتابع عن المركز، تفكيك الدولة البورقيبية بالقطعة، بما قامت عليه من عجرفة إدارية ومناطقية، وترك كل جهة تتولى أمر إدارة ثرواتها وطرق توزيعها وشؤون مجتمعها.. لكن عندما نفكّر أن بلوغنا بأكثر الطرق غرابة، لذروة التّوحش الرأسمالي الحالي، دون المرور بمراحله الأخرى، الذي عكسه ما نشاهده من احتكار وخنق لأي شكل من المنافسة، لدينا رأسماليون دون رأسمالية. قد جاء معه بأكثر مضامين الروح الرأسمالية سفالة وجشعا ونزوعا للفردانية.
“القشارة” الذين ورد ذكرهم في مطلع المقال، يمثلون وجها بذيئا لشبكات الاحتكار، يعطي فكرة عما بلغه العقل الرأسمالي من فساد وانحطاط، ما يتحوّزون عليه من أموال طائلة وقدرات تخطيط شيطانية صيرهم على طريقتهم ” أهل حل وعقد” في تقرير المصير الغذائي لأغلبية الشعب لا تردّ لهم كلمة، فهم يقرّرون للشعب متى يأكل وبأي ثمن، ومتى عليه الصوم والشدّ على البطون والتواصي بالصبر والقناعة. هؤلاء السماسرة أو الوسطاء لا يتحركون على انفراد أو بصفة تلقائية يحركها البحث عن ربح بأي صورة، لأن اتساع نطاق عملياتهم والسيولة المالية التي تتوفر لهم يؤكد ارتباطهم بواحدة أو أكثر من عائلات الحل والعقد توفر لهم مختلف أشكال التغطية وتتقاسم معهم الريع.
هل ستُفضي الفيديرالية وفك ارتباط الجهات بالمركز لحالات من التعاون البيني؟ أم أن التشبع بالفردانية واللهث الأحمق خلف الثراء سيعيد انتاج وضع انفراد أقلية بكل شيء.. يعود معه نظام أهل الحل والعقد للانتصاب في شكل جديد، مقابل استمرار حرمان الأغلبية من كل شيء.. في دورة عبثية لا خروج منها، تؤكد حقيقة أن تونس محكوم عليها أن تظل الى الأبد خارج دائرة تحولات التاريخ؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصرًا.