تدوينة – خاصّ – مالك الزغدودي
حين تتشابك الأفكار مع الواقع. وحين تكون حالتك المثال الأمثل لتحاول تحقيق كلّ ما تحمله من أطروحات نظرية وتقرّر أن تقاوم. هكذا تتحوّل إلى أيقونة للثائرين.
باسل الأعرج، ذلك الشاب الذى لم يتجاوز ربيعه الثالث والثلاثون بعد. بجسده النحيل ولحيته الخفيفة، وبنظرة حادّة تطبع الأمل وقساوة الواقع لم تُخفِها حتى تلك النظارات الكبيرة. هكذا هي ملامح الأعرج في رسومات الغرافيتي على حيطان المخيمات متلحّفا زنّاره الفلسطني، يشاركه “حنظلة” وآخرون شرف الخلود كرموز للقضية الفلسطينية.
هو الصيدلي و المدوّن الباحث، وصاحب الكتابات حول القضية الفلسطينية ودور المثقف وعن حياة المخيمات. تمرّس على التمرّد منذ سنواته الأولى. هكذا عرفه كل أفراد جيله: “المثقف المتمرّد “. كان من أشدّ المعارضين للتنسيق الأمني بين السلطة والكيان الصهيوني، حشد ضدّها عديد المظاهرات وشارك في كلّ الإحتجاجات الممكنة. كلّفه ذلك السجن في سجون السلطة الفلسطينية، كما الإحتلال الصهيوني. وخاض داخلها عديد إضرابات الجوع. كان صوته مدوّيًا في وجه الإحتلال، بكلّ الوسائل الممكنة ليصل صوت القضية إلى العالم. لا يخفت أيضا عند نقد السلطة والتنظيمات السياسية العريقة في فلسطين. فكانت هذه الجرأة إحدى أهمّ السمات التى تجعل من الأعرج متفرّدا، صاحب صوت عالٍ لا يهاب غير حدود عقله. وهي سمات تُذكّرنا بالفنان المقاوم راسم الكاريكاتير “ناجي العلي” صاحب شخصية حنظلة. ذلك الشهيد الذى لم يكن يتوانى على مقاومة الإحتلال ونقد الرفاق والقادة الفلسطنين “حتى أكله الذئب “. والعلي هو من أكثر الشخصيات الفلسطينية المأثّرة في شخصيه باسل الأعرج، مثلما يظهر في كتاباته أو يتحدّث عنه رفاق الحياة و التنظيم.
عاش هذا الشاب كل المراحل غير الطبيعية لشخص يرزح تحت أبشع أنواع الإحتلال التى شهدها التاريخ المعاصر. كان شاهدا على الانتفاضات و مشاركا فيها، خاصة انتفاضة القدس. كوّن شخصية ثائرة وصقل معارف نظرية وتعمّق في البحث عن أساليب تبعث نفَسًا شابًا في روح القضية الفلسطينية. فأسّس مع رفاق الدرب “الحراك الشبابي الشعبي”. حرص على الالتحام بالجماهير وسط المخيمات، وكان بمثابة المثقف العضوي حسب العبارة الغرامشية. هذا المثقف الملتزم بقضايا شعبه الملتحم بالجماهير الذى يعمل على الإرتقاء بوعيهم وشحنهم بآليات تثوير الواقع ليطلقوا هم أنفسهم ثورتهم التى ستنتصر حتما. فلا توجد قوة في العالم يمكنها أن تمنع إرادة الشعوب من الانتصار.
مضى الأعرج بمفهوم المثقف العضوي إلى حدوده القصوى، فكتب عديد المقالات يشرح فيها مفهومه لأساليب النضال وتطويرها. و قام بعديد الندوات التثقيفية وأسّس مجلاّت محلية توعوية عمل من خلالها على محاولة استنهاض همم الشباب و شحذ عزائمهم وسط الخذلان المتكرر للقضية الفلسطينية من كل الأطراف. كان ذلك المثقّف الذي يحمل رشاشا وكتابا ولا يغفل عن حقّ الجياغ في الخبز وسط كل ذلك. وربما تبيّن هذه المقولة بوضوح ما قصده الأعرج بفكرة المثقف المشتبك: “بدكّ تصير مثقّف، بدّك تصير مُشتبك، ما بدّك مُشتبك… بلا منك وبلا من ثقافتك!”.
فالثقافة ليست بالكلام والتمتع بهواء الربوة العليل. الثقافة انحياز للقضية وعمل يومي و ممارسة واعية تكرّس مقوّمات النصر لتحقيق الحلم. باسل كان شجاعا باسلا والأعرج كان مستقيما في نظرته للنصر المحتوم. سقط الأعرج واقفا وهو يواجه برشّاشه لأكثر من ساعتيْن وابل الرصاص وقذائف الصواريخ. ليرحل شهيد آخر يحرس أحلام الأحياء. فوحدَهم الصادقون يرحلون بسرعة. ولكنه هو من قال :”كل ما تدفعُه في المقاومة إذا لم تحصده في حياتك، فستحصل عليه لاحقاً، المقاومة جدوى مستمرّة”.
باسل المثقف المشتبك، النبيّ المقاوم وأيقونة الشباب الثائر، كلّها صفات أُطلقَت اليوم لا فقط على شخصه، بل لتشمل أيضا مقولاته وما كتبه ومارسه وما تركه لنا. هو ذلك الذى يحمل مطرقةً لهدم جدران الخوف ويطلق معاني من الحلم والأمل تنبعث من تحت رماد دواخلنا. هو إرادة المقاومة التى لا تنكَسِر.