القافلة التي مضت… والقافلة التي يجب أن تبدأ

16/06/2025
Saraaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaaa

تصميم أمل الورثي

اليوم، انطلقت القافلة.

قافلة الشاحنات المتّجهة إلى رفح، محمّلة بما تيسّر من غذاء وماء، وما لا يُحصى من التضامن. عبرت الحدود أخيرًا، بعد أشهر من الإبادة المستمرة، وبعد أن صار إدخال الخبز موقفًا سياسيًا، والطريق إلى غزة محفوفًا بالتواطؤ الدولي قبل أن يكون محفوفًا بالصواريخ.

لكن مع مشهد الشاحنات وهي تعبر، لم يكن الحدث إنسانيًا فقط، بل لحظة أخلاقية فارقة. مشهد يفرض على كل من يشاهده سؤالًا مُلحًّا:
أين نحن من كل هذا؟ وماذا يمكن أن نفعل إن لم نكن من بين الذين رافقوا القافلة؟

هذا السؤال لا يجب أن يُطرَح من باب الشعور بالعجز أو الذنب، بل من باب الوعي العميق بأن الحرب على غزة ليست فقط حربًا عسكرية، بل حرب على الحقيقة، على الرواية، على الوعي الجمعي.
في زمن المعركة المفتوحة على الوعي، لم يعد الفعل محصورًا في المكان.
من لم يكن جسديًا في رفح، يمكن – ويجب – أن يكون حاضرًا في معركة الرواية.
ومن امتلك اتصالًا بالإنترنت، صار يملك سلاحًا.

الإعلام الرقمي: ساحة المعركة الحقيقية

في زمن الصورة والمنشور والهاشتاغ، لم يعد الإعلام مجرّد “تغطية” للحدث، بل صار ساحة مركزية من ساحات الاشتباك.
رفح لا تُقصف فقط بالقنابل، بل تُحاصر إعلاميًا. الصور تُمنع، التغطيات تُشوّه، والمنصات الكبرى تحذف وتقيّد كل ما يكشف الجريمة. المحتوى الفلسطيني يُحذف منهجيًا. صور الأطفال تحت الركام تُعتبر “خرقًا لسياسات المنصة”. وفي المقابل، تُمنح الرواية الصهيونية مساحات بلا قيود.

هنا يتجلّى دورنا. الهاتف المحمول صار أداة توثيق، والحساب الشخصي صار منبرًا.
وكل منشور قد يُحدِث فرقًا، ولو في وعي شخص واحد.
لم تعد المسألة مجرّد تعاطف، بل تتعلّق بوعي استراتيجي بدور كلّ منّا في المعركة على الحقيقة.

من التضامن العاطفي إلى الفعل الرقمي

قد يكون من السهل أن نكتفي بمشاركة صورة أو كتابة “هاشتاغ”، لكن المطلوب اليوم يتجاوز التفاعل السطحي. المطلوب هو التزام رقمي واعٍ، ومستمر، ومنظّم.

هذا ما يمكننا فعله:

  1. نشر الرواية الفلسطينية بانتظام واستمرارية
    لا يكفي أن ننشر وقت المجازر الكبرى. يجب الحفاظ على نبض القضية حيًّا: عبر الشهادات، توثيق الجرائم، نشر أسماء الشهداء، وإظهار الحياة اليومية تحت الحصار، بما تحمله من مقاومة صامتة.
  2. تفكيك خطاب التضليل والانحياز
    عبارات مثل “اشتباكات” أو “سقوط قتلى من الجانبين” تُستخدم لتغليف المجازر وتضليل الجمهور. مهمّتنا أن نفضح هذه اللغة، ونشرح ما تعنيه سياسيًا وأخلاقيًا.
  3. مواجهة الرقابة الرقمية
    من خلال تعلّم أدوات الأرشفة، استخدام الكلمات المفتاحية بحذر، اللجوء إلى منصات بديلة، والتعاون مع مبادرات موثوقة لحماية المحتوى الفلسطيني من الحذف.
  4. إنتاج محتوى فعّال وجذّاب
    من الصور والتصميمات إلى الفيديوهات والقصص والبودكاست. المهم هو الوضوح، الأصالة، والالتزام بالمصادر. لكل شخص طريقة في المقاومة.
  5. العمل الجماعي المنظَّم
    العمل الفردي مهم، لكن التنظيم الرقمي يصنع الفارق: حملات منسّقة، توقيتات مدروسة، توزيع أدوار في التوثيق، التحرير، الترجمة والنشر… كلّ هذا يصنع موجة لا يمكن إسكاتها.

القافلة وسؤال الضمير

القافلة التي انطلقت اليوم ليست حدثًا لوجستيًا فقط. إنها لحظة تُعيد تعريف مواقعنا من هذه المعركة.
أن تكون بعيدًا عن غزة لا يعني أن تكون خارجها.
فمنهم من حمل الطعام، ومنهم من يحمل الكلمة. ومن سار بالأقدام، ومن يسير بالصوت.
وإذا كان العالم يراقب القافلة لتحديد موقفه من “الإنسانية”، فنحن نراقب أنفسنا لنتأكد أننا لم نخذلها مرتين: مرة بالصمت، ومرة بالنسيان.

ما بعد القافلة

حين تهدأ الضجة الإعلامية حول القافلة، وتعود الصفحات لتداول ترندات جديدة، يبقى السؤال مفتوحًا:
هل سنواصل دورنا، أم سنعود إلى حيادنا الآمن؟

الحياد، في زمن الإبادة، ليس موقفًا.
وأن تملك القدرة على النشر ثم تختار الصمت… هو شكل من أشكال التواطؤ.

القافلة مضت، نعم.
لكن خلفها، يجب أن تبدأ قافلتنا نحن:
قافلة الرواية، والكلمة، والصوت… الذي لا يُحذف.

مقالات ذات صلة

  • ليست مجرد قافلة… إنها ضمير يمشي

    لو أنك مررتَ فجرًا بالعاصمة تونس يوم التاسع من جوان، لكنت رأيت مشهدًا لا يشبه شيئًا من هذا العالم المتعب.…

    بلا حياد

    مقال سارة
  • حائط الرفاقية الأعرج : اليسار الأوروبي بين التورط في الإبادة و الدعم المحدود للقضية الفلسطينية

    مر أكثر من عامٍ وسبعة أشهرٍ على انطلاق «الإبادة الصهيونية» في قطاع غزة، التي أودت بحياة أكثر من خمسين ألفَ…

    رأي

    Borhen chihaoui
  •  عن الحلم والكابوس زمن الحرب

    من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على…

    بلا حياد

    blank
  • علي القادري : لا حياة لمجتمع بلا مقاومة

    مقابلة أجراها خليل كوثراني، كريم الأمين علي القادري، الأكاديمي والمفكر العربي، أستاذ باحث في جامعة سون يات سين في جمهورية…

    بلا حياد

    Gzc1yvtwuaars3u