اعتدنا الكتابة والتّعليق على مستجدّات السّياسة في معناها العام والواسع. ومع انتهاء هذا العام، نجد أنفسنا نكتب عن غيابها أو “احتضارها”.
ومن المُفارقات أن نتحدّث عن هذا الاحتضار في تونس، في أحد أصعب الأعوام – إن لم يكن الأصعب – على جماهير الوطن العربيّ خاصّة، وعلى كلّ من يتبنّى قضايا تحرّر الشعوب وحقّها في تقرير المصير عامّة.
سنة كاملة مليئة بالأحداث والتحوّلات الكُبرى كتبنا فيها عن “الأيّام المصيريّة” وعن “صعوبة المرحلة وبعض دروسها”، في محاولة لقراءة الأوضاع العربيّة والإقليميّة وتداعياتها على كلّ بُلداننا. لم يُقابلها في تونس النّسق ذاته أو الحركة نفسها.
تقلّص مجال صراع الأفراد والمجموعات والتصوّرات والأفكار من أجل إدارة الشّأن العام والبحث عن المصلحة الجماعيّة في الكثير من الرّدهات، وتمّ احتكاره في أحيان أخرى من قبل المؤسّسات الرّسمية. إذ غابت التحرّكات العمّالية تقريبًا، ولم ترتقِ احتجاجات الفلّاحين إلى ما عهدناه في السنوات الفارطة، ولم تعرف الجامعة حدثًا جللًا. في المقابل، تهاطلت بلاغات مؤسسة الرئاسة، وحضرت الخطب الرنّانة “المتوعدة” والزيارات “الفجئية” للمحتكرين، وأُجريت انتخابات رئاسيّة فاترة بإقبال مُحْتشم – خاصّة من قبل الشباب – عرفنا نتائجها مُسْبقًا.
ولا نعتقد أنّ هذا الانحسار هو نتيجة غياب الصّراعات الاجتماعيّة، رغم فُتورها في بعض
الأحيان، أو نجاح السلطة السياسية في خلْق استقرار اقتصاديّ نسبيّ ومناخ يحفظ الحدّ الأدنى من الحرّيات، بل إنّ السياسة افتقرت لأدواتها.
ولم يعد من الممكن إنكار أو عدم ملاحظة غياب/ تغييب الأجسام الوسيطة من منظمات ومؤسسات وهياكل اعتادت كبْح جماح السّلطة والتدخل في الشأن العام، مهما كان الموقف منها، ومن ديناميكيتها الدّاخلية ومن أخطائها.
فالاتّحاد العام التّونسي للشغل يواجه اليوم أحدّ أزماته الدّاخلية. إذ باتت الآثار الكارثية لمؤتمر سوسة الاستثنائي سنة 2021، الذي قام فيه الطبوبي بتعديل الفصل 20، أكثر وضوحًا. ولم يعد الانقسام الدّاخلي الناشئ منذ فترة مجرّد تراشق كلامي بتهم البيروقراطيّة ومحاولات تدجين الاتحاد لصالح السلطة السياسية القائمة، بل صار صدْعًا يحوّل الاتحاد من موقع الفاعل إلى موقع المشاهد السلبي، وقد يعصف بما تبقى للاتحاد من سلطة اعتبارية. ولن يكون مفاجئًا بتاتا أن تعرف المنظمة إجراءات استثنائية قبل تاريخ فيفري 2027 (تاريخ المؤتمر القادم).
من ناحيتها، لم تكن الأحزاب السياسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بحال أفضل. إذ شهدت التراجع نفسه، ومرّت جميعها على هامش التأثير الفعلي في إدارة الشّأن السياسي.
وعن الصحافة والإعلام، كان التضييق على الصحفيّين/ت مشهدًا متكرّرًا لعام وأكثر. وعُدنا تدريجيّا – ودون أن نُدرك ربّما – إلى اجترار أخبار “تونس7”.
واصلت السّلطة احتكار كلّ المربّعات مُستغلّة حالة النفور التي بلغت أقصاها، مُذكّرة إيّانا في كلّ مرّة بما أحدثه الفاسدون خلال عشريّة ما بعد 2011 (رغم مرور أكثر من 3 سنوات على انقضائها). كما استمرّت في إعطاء الضوء الأخضر للأجهزة القضائية والضّغط عليْها، لنرى محاكمات بعناوين سياسية و”أخلاقيّة” خلْنا أنّ زمنها قد ولّى.
في المُقابل، لم تنجح المجموعات السّياسية وبقيّة الأجسام في اقتناص لحظة السابع من أكتوبر، لإعادة نقاش كلّ القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والدّيمقراطيّة والسياديّة المُترابطة فيما بيْنها. ففقدنا الزخم الذي أحدثته رجّة الأقصى سريعًا.
وبيْنما يُنهي أعداؤنا – أعداء الإنسان والحرّية – سنة 2024 بحياكة المؤامرات ضدّنا وبإبرام الصّفقات على حسابنا، ننهيها في تونس بشعارات “التشييد والبناء” دون أيّ مؤشرات تُذكر، وبانتهاكات وتضييقيات صارخة في حقّ الجميع تقريبًا. ننهيها في الوطن العربيّ بنزيف متواصل للدّم الفلسطيني، وبخوْف سوريّ، وبقلق لبنانيّ ويمنيّ.
ونحن على قناعة بأنّ تونس لن تبقى بمعزل عن كلّ ما يحدث في منطقتنا، وإن كان ذلك مُتأخرًا مُقارنة بالبقيّة. فقوى الهيمنة التي حققت نقاطًا هامّة حتّى اللحظة متّجهة بأقصى السّرعات نحو إعادة تقسيم النّفوذ والأسواق، خاصّة مع بداية عُهْدة ترامب في الولايات المتّحدة، والسعي الروسي المحموم لإنهاء كابوس أوكرانيا، ونشوة أردوغان بمكاسبه في سوريا، ومواصلة الحكومة اليمينيّة الفاشية الصهيونية حرب الإبادة في غزّة.
وإن كانت تونس قلقة من كلّ هذه الاضطرابات، فقد يُصبح هذا القلق مُضاعفًا مع تواصل هذا الوضع الدّاخليّ الهشّ (ولنا في تجارب الأوّلين عبرة).
ورغم كلّ هذا الألم، فنحن لسنا بدُعاة للهزيمة وللتشاؤم المرضيّ. بل مازلنا نعتقد في جدوى المُقاومة أكثر من أيّ وقت مضى، وفي ضرورة التّفكير في بناء الأدوات السياسة المُناسبة في ظلّ هذا الانهيار للقديم. فلا يظلّ الانحياز لمن هم تحت شعارًا مُجرّدًا مُتعاليًا لإرضاء ضمائرنا.
مقالات ذات صلة
فيديو | إحياءً لمئوية وفاة لينين: الوطد الاشتراكي ينظم ندوة أممية
نظم الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي يومي 16 و17 نوفمبر ندوة أممية في مسرح الحمراء بتونس العاصمة، إحياءً للذكرى المئوية لوفاة…
تحراك تضامني أمام محكمة القيروان لدعم عمّال مصنع ‘ريتون’ الموقوفين
تحيين: تم رفض مطالب الافراج عن الموقوفين. تجمّع اليوم الخميس عدد من النقابيين والمواطنين/ات أمام المحكمة الابتدائية بالقيروان، لدعم عمّال…
افتتاحية | ما بعد الانتخابات الرئاسية: تونس إلى أين؟
انتهت إذن الانتخابات الرئاسية بنتائج لم تكن مفاجأة لأغلب المتابعين. إذ كانت حدثًا فاترًا غاب عنه التشويق والتنافس الساخن بحكم…
حملة إيقافات على خلفية تحرّك مساند لطوفان الأقصى
علم موقع انحياز أنّ الأجهزة الأمنية بدأت عشية اليوم الثلاثاء حملة اعتقالات استهدفت مناضلين.ـات على خلفية المسيرة التي نُظمت أمس…