صناعة الموضة في العالم وأبعادها الرمزيّة


عن الوجوه الخفيّة لصناعة “الموضة”

قد تتغير أشكال المقاومة وآلياتها بتغيّر الزمان والمكان. وقد يختلف المفهوم باختلاف الفاعلين المعنيّين. وبحسب هذا التغيير والاختلاف قد يرتقي المفهوم عند البعض أو يتدنّى عند البعض الآخر.

 

من المقاومة إلى الاستهلاك

وفي هذا الإطار يندرج الحديث عن “موضة المقاومة”. وقد ارتبطت هذه الموضة غالبًا إلى حدود سنوات قريبة، وما تزال نسبيًا، بالكوفيّة كرمزٍ للقضية الفلسطينية. ذلك الرداء الشعبي الذي يبدو وكأنّ الفلسطينيّين يعبّرون من خلاله عن حملهم ثِقل قضيّتهم على أكتافهم واستعدادهم للمزيد من التضحية من أجلها. تلك الكوفية التي كانت تثير الشبهة الأمنيّة في تونس، سنوات الديكتاتورية، وتُمنع داخل أسوار المعاهد ويُطرد أحيانا حاملها.

ومعلومٌ أنّ المنظومة الرأسماليّة تسعى دومًا إلى الاستيلاء على رموز المقاومة وتدجينهم عبر تحويلهم إلى سلع استهلاكيّة مبتورة عن مضمونها الأصلي، وحتى مناقضة له أصلاً. ولعلّ أشهر مثال على ذلك صورة الثائر الشيوعي الأممي تشي غيفارا. لذلك لم يكن غريبًا أنْ تبادر مصمّمة الأزياء الصهيونيّة دودو بار أور سنة 2016 إلى استعمال الكوفية الفلسطينية في تصاميمها. وهو الأمر الذي أثار حفيظة واحتجاج عديد الفلسطينيين وغيرهم. إذ اعتبروه اعتداءً على القضيّة والهُويّة الفلسطينية ومسًّا برمزيّة الكوفية، وتحقيرًا لموروثهم الثقافي، فضلاً عن الاستيلاء عليه دونما إشارة إلى مصدره. إذ تحوّلت الكوفية من رمز عالمي للمقاومة الشعبية إلى فساتينَ تُباع بآلاف الدولارات في أبذخ المحلّات الغربيّة. وقد سبقها في ذلك أيضا المصمّم الصهيوني أوري مينكوفسكي، الذي  لم يتردّد في تبرير تصاميمه بكونها “رمزًا للتعايش بين الشعبين”، على حدّ قوله، متناسيًا حقيقة أنّ وحده الشعب الفلسطيني ضحيّة الكيان الصهيوني الغاصب.

ومع تطوّر وسائل الاتّصال في ظلّ العولمة الرأسماليّة، ازداد ارتباط موضة اللباس بالأحداث العالمية، لا سيما الحروب والنزاعات. فعلى الرغم من كلّ الاختلافات الثقافية وغيرها، تفرض القوانين الاستهلاكية ذاتها على الجميع وتتغلغل في أحشاء المجتمعات دون رغبة منه ودون مقاومة في كثير من الأحيان.

ويُعدّ هذا الارتباط السلبي بين تطوّر الموضة والأحداث السياسية من صميم هذه الصناعة الخاضعة للنواميس الرأسماليّة.

عسكرة اللباس

ولعلّ من أبسط الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها اليوم موضة اللباس العسكري، ذي اللون الاخضر القاتم وكلّ ما يرتبط به أو يرافقه، كالأحذية. انّ رمزية هذا النوع من اللباس تجعل صاحبه يشعر، حسب اختلاف الحالات، بالقوّة أو بالتفوّق على غيره، أو أنّه على استعداد تام للمقاومة والصمود والقتال وخوض المعارك لأجل الوطن أو غيره من القضايا.

ويختلف مضمون الشعور بالقوّة عندما يتمّ اضافة الأسماء أو الحروف أو الرموز التي قد يكون لها ظاهريًا بُعدًا جماليا، لكنّها في الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك.

لنأخذ مثلاً رمزيْن اثنيْن اجتاحا موضة شتاء 2017 و 2018  وهما: Police وU.S ARMY. فالأوّل يعني الشرطة، وهنا قد تشعر لوهلة أنّك شرطي أو مدني بزيّ شرطي. قد يظنّها البعض دعابة أو مجرّد موضة أو إكساب القوّة للمرأة (حين يتعلّق الأمر بزيّ نسائي) كما يقول خبراء ومواقع الموضة. لكن ماذا عن القوة والسيطرة المقترنتيْن بفعل البوليس؟  فكأنّنا أمام شعارٍ يريد أن يفرض ذاته علينا ويسكن أجسادنا وهو: ” لا قوّة الّا للبوليس “.

ونفس الشيء تقريبا بخصوص التسمية الثانية، القوات العسكرية الأمريكية U.S ARMY. فهي ماركة تكرّم وتمجّد الجيش الأمريكي من خلال تصميم أزياء مستوحاة من الألوان والزي الرسمي لهذا الجيش.

لكن مع اندفاع المستهلك العالمي، بما في ذلك أبناء العالم الثالث، نحو الموضة وتعبيراتها يتلاشى شيئا فشيئا مفهوم المقاومة ومحايثة الأرض والدفاع عنها وكلّ ما يرتبط بذلك من قيم حرّية وانعتاق وصمود. كلّ ذلك يتلاشى ويختفي بمجرّد اضافة هذا النوع من الرموز. إذ تتحوّل القوات العسكرية الامريكية رمز القتل والاستعمار والاستغلال وتشريد الاطفال إلى مصدر اعجاب وافتخار، وتنضاف اليها رمزيّة أخرى أنْ ” لا قوّة الا لهم” و لا صمود ممكنًا أمامهم.

هكذا يمكن قراءة  الأمور بشكل أوضح، فمن يبحث عن القوّة غالبا ما يبحث عن  رموزها وتمظهراتها، سواءٌ في الشكل أو في المضمون. وهنا ترتبط الأمور بالشكل وبالبحث عن تملّك القوة من خلال الملبس .

الملبس كأداة تأثير

مثال آخر لا يقلّ بلاغة: معلومٌ أنّ الرئاسة الأمريكية لم تتوان يومًا عن الاعتداد بالقوة العسكرية والقدرة على إحتلال العالم .معلومٌ كذلك أنّ الرموز والصور المرسومة على الملابس هي عبارة عن رسائل صامتة قد تثير تفاعل الرأي العام سواءً بالسلب أو الإيجاب. ففي شهر جوان المنقضي  واجه دونالد ترامب انتقادات واسعة لسياسته العنصرية تجاه المهاجرين اللانظاميّين على الحدود المكسيكية، حيث يتمّ فصل الأطفال عن أهاليهم واحتجازهم بأقفاصٍ  شبيهة بتلك التي تُحتَجَز فيها الحيوانات المفترسة.

على خلفيّة ذلك زارت زوجته ميلانيا ترامب مركزاً للأطفال المحتجزين في تكساس لتبيّن تضامنها مع المهاجرين وأطفالهم. وهو ما  اعتبرته الصحافة الأمريكية ومستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تضامنًا وهميًا. ففي ختام الزيارة، عند توجّهها إلى الطائرة،  ظهرت ميلانيا ترتدي سترة زيتية شبيهة بالسترة العسكرية وقد

كُتب عليها من الخلف بالإنجليزية: «أنا فعلاً لا أبالي… وأنتم؟) (?I really don’t care, do u).

موضة من عرق المفقّرين ودمائهم

وعن مفهوم اللامبالاة، ودلالات الصور من جهة أخرى، تمكن الإشارة أيضا إلى استقرار مصانع النسيج الغربيّة في البلدان الفقيرة والهشّة، حيث تتفاقم البطالة وتزيد الحاجة إلى الشغل مهما كانت ظروف العمل. ومنها الهند وبنغلاديش، التي صارتَا  قِبلة للماركات العالمية، أين تكون اليد العاملة رخيصة جدا وتُنتهَك المرأة في أبسط حقوقها. فلا تتمتّع حتى بعطلة الأمومة. بل هناك يمكن أن تموت النساء أثناء الشغل.  إذ تصل  ساعات العمل إلى 12 ساعة في مصانع تُشغّل أعدادًا أكبر من طاقة استيعابها. لتباع فيما بعد هذه الملابس في أفخم المحلات التجارية، حيث يكون أحيانا سعر القطعة  الواحدة أغلى من أجر عاملة من الهند.

وقد شهدت بنغلاديش سنة 2013 انهيار مصنع رانا بلازا لخياطة  الملابس. حيث تمّ انتشال 610 جثّة لعاملات وعمال بالمصنع. وقد أفضت التحقيقات إلى أنّ البناية صُمّمت لتأويَ محلّات ومكاتب، لا مصانع ومعدّات صناعية. كما أنّه تمّت إضافة ثلاثة طوابق غير قانونية. وتُعدُّ بنغلاديش من أكبر البلدان المنتجة للملابس بيد عاملة رخيصة وهي تغطّي نسبة هامّة من مبيعات السوق الأوروبية.

ختامًا، يتّضح لنا مدى ارتباط صناعة الموضة بمنظومة الرأسمالية المُعَوْلَمة وقيمها السائدة اليوم. فهيَ تارةً أداة لإفراغ قيم المقاومة من مضمونها، وتارةً أخرى مدخلاً لمزيد استغلال مُفقَّري بلدان الجنوب. كما يمكنها كذلك أن تلعب أحيانًا دور الوسيط الرمزي المرسّخ لتعبيرات الهيمنة الامبرياليّة الأمريكيّة، أو غيرها، سواء تعلّق الأمر بالجيوش أو بغيرها من مؤسّسات القوّة والتحكّم في شعوب العالم.

 

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *