رأي | “الجنس… يفسّر كلّ شيء”

رأي – مساهمات القرّاء – مجتمع

دنيا الزغيدي

 

_ هل كنت شاهدًا على حالات تحرش جنسي؟

_ نعم ولعدّة مرات، إنها ظاهرة غريبة على مجتمعنا استفحلت والعياذ بالله.

_في رأيك ماهي أسبابها وكيف نعالجها؟

_تبرّج النساء قطعا…وعرضهن لمفاتنهنّ التي تثير الرجال ليلا نهارا بلا خجل…

و تابع بكل حماسة: أمر الله النساء، في مختلف كتبه السماوية، بالستر والحشمة حتى لا تضعف قدرة الرجال على غضّ البصر وتجنبهم، بإخفاء مفاتنها، شرّ الوقوع في الخطيئة العظمى والإثم الكبير الذي تُسبّبه غواية النساء…

عذرا سيّدتي إن أزعجتك كلماتي، فقد اقتصرت على نقل أقوال من يتبنّون هاته الرؤية وحاولت قدر المستطاع تهذيب ألفاظهم، لكنّي قطعا لا أتبنّاها، بل وأقف على طرف النقيض منها.

من هو المتحرّش؟

علميا يعرّف المتحرش الجنسي على أنّه من يقوم بممارسة فعل التحرّش، عبر التلفّظ بعبارات جنسية مسيئة أو غير مرغوبة أو ملاحظات تمييزيّة منحطة. وفي كثير من الأحيان يكون المتحرش نفسه غير واعٍ بكونه متحرّشا. ذلك أن المسألة نفسيّة بالأساس، يجد لها المتحرش ذاته مبررّات مختلفة سواءً دينية أو أخلاقية أو مجتمعية تصبُّ كلّها في تحميل الضحية المتحرَّش بها دوافع القيام بالفعل، ويصل الأمر بالمتحرّش إلى اعتبار ما يقوم به أمرا طبيعيا وسلوكا بشريا غريزيا لا إراديا.

 

قول علم النفس في عدوانية الإنسان

سنحاول استقراء تفسير علم النفس لهذا النوع من السلوك البشري المتفرّع من عدوانية الإنسان تجاه الآخر. ولعلّ هذه المقولة تُعيننا في تلمسّ أصل هذه السلوكيات في دواخل الإنسان منذ نشأته.

يقول سيجموند فرويْد، مؤسّس التحليل النفسي: “إنّ الكائن البشري الصغير ينتهي صوغه، أو تكوينه، غالبًا في السنة الرابعة، أو الخامسة من عمره،ثُم يُفصح تدريجيًّا عن الكائن الخبيء في نفسه خلال السنوات التالية من حياته”.

ويفسّر فرويْد ذلك بكون الإنسان حيوانًا فسيولوجيًا ذو مظاهر نفسية واعية، ليؤسس لنظرية أن عدوانية وشرّ الإنسان، سابقان على وعيه وأفكاره. ذلك أنه بحسب النموذج التحليلي النفسي الفرويدي يملك الإنسان ثلاثة دوافع أولية تتمحور حولهم أغلب أنشطة الحياة: دافع اللذّة، دافع الحفاظ على الذات والدافع العدواني، وهم المحرّك الرئيسي لأغلب الأنشطة الإنسانية.

بهذا التمشّي فسّر فرويْد النزعة العدوانية لدى الإنسان عن طريق ردّها إلى تكوينه البيولوجي والنفسي ذاته. ففي كتابه “قلقٌ في الحضارة” يقول فرويد: “ليس الإنسان كائنًا طيّبًا وضعيفًا، ذا قلب متعطش للحبّ فحسب. بل هو كائن، كغيره من الكائنات، تحتوي مُعطياته الغريزية على قدر لا بأس به من العدوانية”.

ويُرجع فرويْد حاجات الإشباع لدى البشر إلى عدّة أنواع من النزعات نذكر منها في سياق موضوعنا إشباع الحاجة إلى الجنس وإشباع الحاجة إلى العدوان، ويفسرها كالتالي:

“فإنّ حتى القرين بالنسبة إليه ليس فقط موضوعٌ للحب وللعاطفة أو للجنس، بل هو أيضًا موضوع تعويض واعتداء، فالإنسان مدفوع إلى إشباع حاجته من العدوان كما هو مدفوع إلى إشباع حاجته من الجنس، مدفوع إلى استعمال الآخر وإلحاق الأذى والآلام به وقهره إن لزم الأمر، وبدون إشباع تلك النزعة رُبما يشعر بنقص في إحساسه بذاته، فالإنسان ذئب أخيه الإنسان”.

بهذا المنطق تجد الروح العدوانية، طبقا لفلسفة فرويد، أسسها في بيولوجيا الإنسان، ملاصِقةً لنزعة الجنس و الحبّ فيه. ما يجعل منها جزءًا أصيلا فيه يصعب جدًا، بل يستحيل، القضاء عليه، وتكون دائما في تعارض مع منظومة المجتمع والحضارة بكلّ محدّداتها القائمة أساسا على تحجيم رغبات وغرائز الفرد لصالح مبادئ وقيم عقلانية تُشكّل العقد الاجتماعي الضامن لحماية المجتمع من توحّش الإنسان الذي تمثّل غرائزه محرّكًا له.


المخرج في تصالحنا مع أجسادنا

انبنى مفهوم العقد الاجتماعي المؤسّس لمفهوم الدولة على قبول المواطنين بالتخلي عن بعض حقوقهم الطبيعية عبر الاتفاق على سنّ قوانين تحدّ من حريتهم، مقابل ضمان استمرار حياتهم وحياة المجتمع. من هذا المنطلق أرى المخرج لمعضلة التحرش الجنسي في تصالحنا مع أجسادنا أوّلًا و أخيرًا.

فالمنحى القانوني الردعي العقابي على أهميته أثبت بعد كل هذه السنين، ومهما تعاظمت سنوات العقاب في أقسى التشريعات التي تناولت الظاهرة، أنه لم يكن قادرا على منع تفاقم نسب اقتراف الفعل. بل لم يكن حتى قادرا على الحدّ من نزوع الإنسان على اختلاف انتمائه الطبقي الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي أو الديني، الى الاستمرار في ممارسة التحرش الجنسي، الذي امتدّ ليشمل الأطفال، ذوي الإعاقة، الكبار في السنّ، الرجال كما النساء…

لذا أرى أنّ المخرج الأجدى قد يكون، بالتوازي قطعًا مع التشريعات الردعية، بالعمل على تدريس التربية النفسية الصحيحة القائمة على تشكيل الشخصية الأوّلية للإنسان. وعلى تقبّل نزوعه للعدوانية بدل إنكاره وإيعازه دوما للآخر ونفيه عن الأسوياء، إن صحّ التعبير. ليكون الاعتراف ببشرية الفعل الخطوة الأولى للجم هذا النزوع البشري المتأصل في الإنسان قدر الإمكان.

 

 

 

 

 

 

 

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *