الفيلم الوثائقي “أصوات من الڨصرين”: صدى الهامش البعيد

رأي – خاصّ – فنون – سينما

مالك زغدودي

ناشط شبابي مجاز في الفلسفة ومهتمّ بالأدب والسينما

ماذا تريد أن تصير/ين عندما تكبر/ين؟ ماهو حلمك ؟

هكذا يبدأ الفيلم الوثائقي بسؤال حول حلم الأطفال الصغار بحاسي الفريد، إحدى معتمديات ولاية الڨصرين الواقعة بالوسط الغربي للجمهورية التونسية. حاسي الفريد، المدينة الحدوديّة المتاخمة للجزائر، حيث يعيش قسمٌ كبير من الناسّ على إقتصاد الحدّ أو “التهريب”، كما تسمّيه الجهات الرسمية، فيما يعيش القسم الباقي منهم على اقتلاع الحلفاء؛ ولا يختلف حظّ القسميْن لجهة الشقاء.

تتنوّع أحلام الأطفال. إذ لم تطمس صعوبة الظروف براءة الأحلام الوردية للطفولة هنا، لكنّ أغلبها كان مشدود الوثاق للأرض التى يعيش فيها أصحابها واقعهم القاسي. إحدى هؤلاء الأطفال تريد أن تكون طبيبة لتُداويَ المحتاجين مجّانًا، فيما تتمنّى ثانية أن تصير أستاذة جامعية وتشيّد جامعة تكفّ عن أبناء مدينتها عناء التنقل لجهات أخرى من البلاد.

تنقلنا الكاميرا من أطفال حالمين وراء أسوار المدرسة الإعدادية إلى آخر يبلغ السابعة عشر من العمر وهو مايزال في الإعدادية. حبيب هو اسم هذا الطفل الشاقي في بلد التشريعات العديدة لـ”حماية الطفولة”. هذا الحبيب، لو تمعّنت في ملامح وجهه فستعتقد أنّه، على أقلّ تقدير، ثلاثينيٌّ بندبته البارزة أسفل عينه. معاناة هذا الطفل و حمله أثقل الأوزان في التهريب قصّة تُروَى فتوجعكَ، كأنّها نداء القاع والمهمّشين من الأطفال. التشريعات وحدها لا تكفي، عليكم تحويل القوانين إلى أفعال.

تنقلنا كاميرا المخرجيْن ألفة لملوم (باحثة العلوم السياسية ومديرة منظمة انترناشونال ألرت في تونس) وميشال ثابت (مخرج لبناني فرنسي مهتمّ بالأنثربولوجيا والبحوث الإجتماعية)  بين الشهادات النابعة من فئات مختلفة، يشترك أصحابها في كونهم من الأقلّ حظًا بالمجتمع. هو صوت ذلك الهامش أو من هم في القاع على الحدود هناك، بعيدا جدًا. هناك حيث البنية التحتية السيئة والإهمال و غياب المرافق.

هو ذاك “فخر تونس على المستوى التشريعي”. خاصة تلك المرأة الريفية التي تقتلع الحلفاء وتحكى عذاباتها اليومية مع أشواكها وقلة ذات اليد و كيف أنّه “هنا من لا يعمل لا يعيش”. زمن تصوير الوثائقي لا يبعد كثيرا عن زمن الحلم والثورة. لكنّ الإحباط و السخط على الدولة واضح حتى في بيت “باي الشعب” أو قائد ثورة القبائل علي بن غذاهم. تاريخ أهملته السلطة لكم وثّقته أشعار ذلك الجدّ الذي حفر الزمن آثاره الموجعة في تجاعيد وجهه. هكذا يحفظ الهامش تاريخه، عبر أحداث تسجّلها الذاكرة الشفوية عبر المرويّات من أقوال وحكايات وأشعار. علي بن غذاهم مازال هو البطل في تلك القرية. ونكتشف أنّ له شقيقًا اسمه عبد الواحد، وهو مشهور أيضا هنا، لكنّه شبه غائب في الرواية الرسمية.

“مازالت الأمور على حالها”، هذه خلاصة الحكاية. ربّما الكرامة والتحدي وصدق الناس هم ذلك الخيط الفارق بين أمل وحلم في مسار ثوري قد تعيشه مع المتحدثين في الفيلم، وبين شفقة لا يحتاجونها بقدر احترام يفرضون منه الكثير. هم المتشبّثون بالأرض/الهامش الذي يحارب الفقر والارهاب من أجل أن يقول عنهم المركز هناك “سكان على الحدود”. هذه الحالة من التضارب في كل قرية ومعتمدية زارها المخرجان، رفقة المصوّر اللبناني طلال خوري الذي نقل لنا، بدقة وجودة عاليتيْن، أبعد من صور الناس، بل روحهم كذلك.

لم أكن على الأرجح دقيقا جدا في وصف تسلسل الشهادات، لكنّ بعض المشاهد يأسرك أكثر من البقيّة. منها تلك العجوز التي تقطع الحطب في صمت، إذ تبدو لك أنّها تهشم الجذور بما تختزنه من سخط وغضب على هذا الواقع وعلى المتسبّبين فيه. فهي أمّ لصاحبة شهادة جامعية مُعطّلة عن العمل ولاثنين من ذوي الإحتياجات الخصوصية. لم تعرّف سوى بنفسها في الفيلم فيما استأثر زوجها، صاحب الدخل الأبعد من محدود بأشواط  وهو حارس الغابات المتقاعد، بأغلب الحديث. لكنّ صورة صمتها المحتجّ، الأبلغ من الكلام، انطبعت في ذاكرتي.

“حقا هناك فرق بين من يضع قدميه في الجمر ومن يضعها على الرمال “، ذلك الجمر مازال مستعمل في الحدادة هناك. لا تستغربوا فبعض من القرن التاسع عشر مازال يعيش بيننا في تونس. هذا أحد الاستنتاجات التى ستخرج بها بعد الفيلم.

إثر حاسي الفريد، نمرّ إلى تالة، مدينة الشهداء أو الثورة. بين المقبرة وصوت أغاني الراب وقبور الشهداء ولوعة أخت على أخيها الشهيد : “هو مات. أعلم أنه لن يعود لكن حقِّقُوا للشباب الكرامة. هذا حلم الشهداء”. هكذا تحدثت أخت أحد الشهداء ومديرة دار الثقافة بتالة. الجوع والمقاومة هنا تلامس كرامة الأجداد الذين حاربوا مع بن غذاهم يوما ما. هنا تختزل ذاكرة المُهمَّشين الكثير من التفسير، فتستمع مثلا إلى من يعرّف حياته على أنها خوف دائم على الحدود، أو أثناء شحن المحروقات أمام المنزل خوفا على السيارة. باختصار، هو يقول في كل ثانية “أنا خائف لكنّي أحارب كي أعيش”. حاول المخرجيْن، مع اقتراب نهاية الفيلم، أن يتركا الشهادة للمحامي الذي تحدّث عن “عقاب جماعي”، إلى درجة أنّ كونك شقيق لإرهابي كافٍ ليجعل منك مذنب وليتمّ إيقافك عن العمل. نسمع أيضا خطاب الساسة من المعارضة والسلطة، لكنك تكون قبلها قد سمعت التشخيص المواطني وشاهدت بنفسك بعضًا من المعاناة.

تكتشف أنه تقريبا لم يتغيّر شيئ في القصرين منذ سبع سنوات. لكنّك سمعت تلك الأصوات الحرّة في رحلة تشحنك نحو العمل أكثر والحلم أبعد. فتتأكّد أنّ الواقع صعب فعلا وأنّ مسيرة بناء تونس أخرى يجب أن تتمّ. ميشال ثابت وألفة لملوم يعيدان المُشاهد إلى نقطة الصفر، أو ربّما ينشّطان ذاكرته بإعادة صور عيون المتكلمين.

مشهد ختامي على طريقة السرد الدائري و لغة العيون ولك وحدك حرية تأويل ما حدث. لكن ماهو مؤكد أنّ صدى الصوت سيصل عقلك وقلبك معًا. نحن في حاجة إلى هذا النوع من الأفلام لأنه تأريخ في جانب ما وصوت ذلك الهامش وأولئك غير المساهمين في كتابة السرديّة الرسمية. ربّما كان “أصوات قادمة من القصرين” تلك السرديّة المُهرَّبَة التى تُقدّم بعيدا عن المنابر الرسمية، أو هو “حقائق سوداء”، كما تسمّي السلطة سوق التهريب أو حتّى سردية غير مهيكلة في الرواية الرسمية، حسب نفس المعجم (التهريب). لكنّ ما ستشعر به بلا شكّ هو هروب هذا الفيلم عمّا هو سائد وموجود في السوق الاستهلاكيّة المبتذَلة.

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *