حتّى يتحوّل غضب الشتاء إلى ربيعٍ ثوريّ

رأي – الأعمدة – غسّان بن خليفة

مرّة أخرى ينفجر غضب الفئات الشعبية الأكثر تهميشًا في الشارع. ومرّة أخرى ينقسم المجتمع، وممثّلوه السياسيّون، بين خائف أو مُندّد، ومساند حذر أو متحرّج. ولا يُستثنى من ذلك حتّى الأحزاب المُصنّفة “يسارًا”.

ما يجري اليوم ليس جديدًا، فقد صار الانتفاض شتاءً عادة شبه فصليّة في تونس. لكن هنالك بعض الملامح المميّزة لأحداث هذا العام، التي يجدر بأنصار الثورة التوقّف عندها.

على الأرض لدينا ما يلي: حملة سياسيّة، عمودها الفقري شباب الجبهة الشعبيّة، تدعو للتظاهر والاحتجاج على قانون الماليّة. فيلتقط جزء من الشعب الإشارة ليخرج معبّرًا عن سخطه على تدهور أوضاعه المعيشيّة. إلّا أنّ الأمر هنا يتعلّق أساسًا بشباب الأحياء الشعبيّة المتاخمة للمدن، وهي أكثر الشرائح الاجتماعيّة فقرًا وتهميشًا متعدّد الأبعاد (الاقتصادي، والمعرفي، والرمزي والخ.). هذه الفئة المنعوتة بـ”البروليتاريا الرثّة” (أو اللومبن بروليتاريا) في الأدب الماركسي، والتي يُنظَر إليها عادة بشكل سلبي لعدميّتها وكرهها التنظمّ ولسهولة استقطابها من قبل الأطراف اليمينيّة الأكثر رجعيّة.

هذا الكلام صحيح جزئيًا، ولمسناه بوضوح في فترة صعود التيّارات “السلفيّة” في سنوات 2012 – 2014. لكنّه قد يحتاج إلى شيء من التنسيب.

مصدر الصورة: موقع http://www.source-7.com

الجديد اليوم هو أنّه للمرّة الأولى منذ 2011 يحصل نوع من التقاطع بين الحراك السياسي والاجتماعي. إذ لا يمكن تجاهل التزامن الواضح بين انطلاق تحرّكات حملة “فاش نستناو؟” وتحرّكات الشارع. وهذا أمر يُحسب لشباب الجبهة الذين عرفوا التقاط اللحظة السياسية المناسبة لإطلاق مبادرتهم (بغضّ النظر عن نقاش محدوديّة أفقها المرتبط بالأفق الاصلاحي للجبهة الشعبيّة). لكن هذا لا يعني بالضرورة أنّ الحملة تقود حراك الشارع وتسيطر عليه أو أنّ الثاني مستعدّ للتأطير من الأولى.

كلّ ما في الأمر أنّ شباب الأحياء الشعبية عرفوا بحدسهم، المتشكّل من تجربة السنوات الأخيرة، أنّ الفرصة سانحة الآن ليخرجوا ويعبّروا عن سخطهم ونقمتهم وتقيّئِهم لهذه المنظومة التي تلفظهم، ولبقيّة طبقات المجتمع التي تنظر اليهم باحتقار وخوف. والشكل الوحيد الذي يجيدون التعبير من خلاله نحو السلطة هو الرفض والعنف، أي بنفس ما تواجههم به. ولذلك هم يتوجّهون بالضرورة إلى ممثّليها الوحيدين الذين يحتكّون بهم يوميًا: قوّات البوليس التي تقمعهم في الملاعب وتمنعهم من التجوال وسط العاصمة وفي أحياء الأغنياء، وتزجّ بهم في السجون عندما يقرّرون الهروب من واقعهم أو التأقلم معه، حسب حدود ادراكهم له (سواءً عبر “الحرقة” أو “المخدّرات” أو “التشدّد الديني” وصولا للإرهاب والخ.).

لذلك نلاحظ اتّجاه أغلب التحرّكات الليليّة العفويّة في الأيّام الأخيرة نحو “مبارزة البوليس” واستدراجه للمواجهة أو للردّ على استفزازاته. فتلك هي الطريقة الناجعة الوحيدة التي تعرفها هاته الشريحة “غير المرئيّة” لإسماع صوتها والإعلان عن وجودها. وطبعًا، لا يمكن في ظلّ ابتعاد البوليس، عمومًا، عن المواجهة (خشية سقوط ضحايا جُدد، ممّا يتسبّب في خروج الأوضاع عن السيطرة بالنسبة للسلطة الحاكمة، وكذلك من أجل أنّ تعمّ الفوضى والخوف الضروريّيْن لبقائها كشرّ لا بدّ منه ) عدم اغتنام جزء من هذه الشريحة المُهمّشة للفراغ الأمني كي تنهب بعض المستودعات العموميّة أو المحلّات التجارية (المتوسّطة والكبيرة عامّة، لا الصغيرة) أو لارتكاب بعض أشكال الجريمة الصغيرة. فهيَ وإن تمارسها ليلاً، فإنّها تفعل ذلك بعلانيّة أكبر ممّا تقترفه الطبقات الحاكمة صباحًا مساءً من نهب منظمّ واستيلاء “قانوني” على ثروات البلاد والمجتمع.

لا حاجة للتوقّف عند التضخيم المعهود لوسائل الاعلام البرجوازي وكلاب حراسة السلطة للأحداث الليليّة، من أجل مزيد تخويف وتنفير الناس من “الثورة” والتغيير عبر الشارع. وبعيدًا عن خطاب الإدانة الأخلاقويّة الجافّ، يطرح ما تقدّم شرحه على المعنيّين بالأفق الثوري سؤاليْن مترابطيْن:

أوّلاً: هل مازال ممكنًا اعتبار هذه الفئات الاجتماعيّة بمجملها “معادية للثورة” بالضرورة؟ وذلك في ظلّ الانهيار الواضح لـ”الطبقة العاملة”، الفاعل الثوري الأساسي تقليديًا (لأسباب يطول شرحها: منها خيانة البيروقراطية النقابية، ومنها هشاشة الوضع الاقتصادي وامكانيات التنظّم الجذري لهذه الطبقة ببلد شبه مستعمر في زمن هيمنة “الرأسمالية الاحتكاريّة المعولمة”). أفلا يجب عندها التوجّه نحو هذا الشباب والاحتكاك به أكثر، رغم كلّ ما يمكن أن يحفّ بذلك من صعوبات وعراقيل، والعمل على تأطيره، عوض تركه لقمة سائغة للتيّارات الرجعيّة والشعبويّة؟

في حال الإجابة بنعم على السؤال الأوّل، يُطرَح منطقيًا السؤال الثاني: كيف؟

لا شكّ أنّه عوض “التبرؤ” اليوم من هذه الفئة ومن “حراكها الليلي” (كما نُسبَ اعلاميًا لحمّة الهمّامي في ندوة صحفيّة للجبهة اليوم)، تجبُ محاولة التواصل معها والعمل على تطوير وعيها وتأطير طاقاتها، رغم ما في ذلك من صعوبات موضوعية وذاتيّة حقيقيّة (ولعلّ هذا ما فهمه وحاول تجسيده المناضل أحمد ساسي، الذي اعتقلته السلطة أوّل أمس). إلّا أنّ الأهمّ والأبقى هو العمل بشكل يومي ومنهجي ومبتكر على تجاوز مشاعر النفور وانعدام الثقة التي تحملها تجاه كلّ “المتحزّبين” (لأسباب يطول شرحها)، وعلى رأسهم المنتسبين لليسار الجذري.

وهذا يتطلبّ نقاشًا مُعمّقًا يهدف لصياعة رؤية استراتيجيّة وعملاً مثابرًا، بعيدًا عن “البلاتوهات” ووسط العاصمة. فيوم نكسبُ ثقة جزء مؤثّر من هذا الشباب الساخط المنتفض، سيستمع إلينا، وسيتواجد مُجدَّدًا في الشارع ليدافع عن مصالحه الموضوعيّة المشروعة. وسيكون يومئذٍ في صفّ الثورة لا في صفّ أعدائها، وبصدد النضال لا ممارسة التخريب والعنف غير الثوري.

 

 

 

 

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *