تونس: تفاقم سياسة “التطبيع الناعم” مع الصهيونيّة وكيانها 

غسّان بن خليفة

مثّلت المعركةُ الأخيرة ضدّ عرض الكوميديّ الفرنسيّ، من أصلٍ تونسيّ، المتصهين ميشال بوجناح،[1] فصلًا جديدًا من صراعٍ طويلٍ ومرير في تونس ضدّ التطبيع مع الصهيونيّة وكيانها اللّقيط. وهو صراعٌ بدأ تقريبًا منذ انطلاق المشروع الصهيونيّ في بدايات القرن الماضي،[2] واستمرّ بالتوازي مع الصراع الأصليّ حول فلسطين. ويكفي أن نذْكرَ، على سبيل المثال، رفضَ التونسيّين السماحَ للمجرم والمنظِّر الصهيونيّ الشهير زئيف جابوتنسكي دخولَ تونس في ثلاثينيّات القرن الماضي، وإجبارَهم السلطةَ الاستعماريّة الفرنسيّة على إلغاء الزيارة عبر التظاهرات والإضراب.[3]

التاريخ الحديث للتطبيع

لن نتوقّف عند الحقبة البورڨيبيّة، وسنركّز على الفترة التي شهدتْ تسارعَ وتيرة النشاط التطبيعيّ في تونس.

بكلّ بداهة، يمكن اعتبارُ توقيع اتفاقيّة أوسلو التصفويّة بين “إسرائيل” ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة سنة 1993 تاريخَ الميلاد الفعليّ لمسار التطبيع العلنيّ في تونس. فعلى إثرها افتُتح مكتبان لـ”رعاية المصالح” بين ديكتاتوريّة [الرئيس المخلوع] بن عليّ ونظام تلّ أبيب في أفريل (نيسان) 1994. وكان متداولًا في أوساط المعارضين التونسيّين أنّ مكتب الارتباط الصهيونيّ يقع في مقرّ السفارة البلجيكيّة. أمّا الجانب التونسيّ فقد كان على رأس مكتبه خميّس الجهيناوي، وزيرُ الخارجيّة الحاليّ.[4] وقد  أُعلن عن إغلاق هذا المكتب إثر اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000.

على الرغم من وطأة الديكتاتوريّة، لم يألُ المناضلون التونسيّون جهدًا في التصدّي لمسار التطبيع منذ بدايته في عهد بن عليّ. إذ نظّم عدد منهم مظاهرةً غيرَ مرخَّص لها في العاصمة، احتجاجًا على مجزرة الحرم الإبراهيميّ في الخليل، ووزّعوا بيانًا بعنوان “الموت للصهيونيّة،” ندّدوا فيه بالمساعي التطبيعيّة للسلطة، الأمرُ الذي أدّى إلى اعتقال عدد منهم وسجنهم.[5] وتواصل الأمرُ على هذا النحو في كلّ مرّة يَرْشَح فيها نبأٌ عن عمل تطبيعيّ ما. ومن أبرز التحرّكات الجماهيريّة المناهضة للتطبيع التي شهدتها تونس خلال العقد الموالي: تصدّي مناضلين، طلّابيين في الأساس، سنة 2002 لعرض فيلم لمخرج تونسيّ شارك به في مهرجان في القدس المحتلّة.[6]

كذلك، الاحتجاجات العارمة التي عمّت البلادَ إثر تسرّب خبر دعوة بن عليّ للمجرم آرييل شارون للمشاركة في القمّة الأمميّة لمجتمع المعلومات سنة 2005.[7] وقد اضطرّت السلطةُ التونسيّة آنذاك إلى التراجع عن دعوة شارون، لكنّها سمحتْ لوزير خارجيّته سيلفان شالوم، ذي الأصول التونسيّة، بالقدوم وزيارة مسقط رأسه في مدينة ڨابس، رغمًا عن الرفض الشعبيّ واحتجاج المعارضة.[8]

                                          سيلفان شالوم في تونس عام 2005

التوجّه نحو “توزيع التطبيع”

لم تتلُ ذلك محاولاتٌ رسميّةٌ معروفةٌ للتطبيع. ويبدو واضحًا أنّ الصهاينة وعملاءهم في تونس قرّروا انتهاجَ سياسة تطبيعيّة أقلّ استفزازًا وأكثر “نعومةً.” إذ تمّ التخلّي عن فرض إجراءات التطبيع الرسميّ مع الدولة، بما تمثّله في الخيال الجماعيّ من تعبيرٍ عن مجمل البلاد وشعبها، بغضّ النظر عمّن يحكمها؛ وهي إجراءاتٌ يَسْهُل على المعارضة التنديدُ بها وتعبئةُ الناس ضدّها. وفي مقابل ذلك، جرى التركيز على استهداف شرائح محدّدة من المجتمع، يمكن من خلالها التأثيرُ تدريجيًّا في وعي الناس وكسرُ الحاجز النفسيّ الذي يَحُول دون تقبّلهم فكرةَ التطبيع. وهي السياسة المتواصلة إلى اليوم، مع تعديلاتٍ أوجَبها الوضعُ الجديد.

وهذا ما يفسِّر التعويلَ على ثلّةٍ من المطبّعين من أساتذة الجامعة التونسيّة[9] لتنظيم زيارات غير مُعلن عنها إلى فلسطين المحتلّة، وبخاصّةٍ للمشاركة في مؤتمرات دوليّة تجمع أكاديميّين صهاينةً بتونسيّين. ولعلّ المعركة التي دارت سنة 2004 حول استضافة مؤتمر الاتّحاد الدوليّ للجغرافيّين في تونس هي أبرزُ الأمثلة على ذلك.[10]

كذلك استُميل بعضُ الإعلاميين، المنبتّين عن قضايا شعبهم، أو من المستعدّين دومًا لتأجير أقلامهم للدفاع عن القضايا الجائرة.[11] ودُفع ببعض وسائل الإعلام، ذات الشعبيّة النسبيّة، إلى المشاركة في أنشطةٍ تطبيعيّة، مثلما حصل سنة 2007 مع جريدة الصباح، التي أعلنتْ مشاركتَها في مسابقةٍ موجّهةٍ إلى الأطفال، نظّمها “مركزُ بيريز للسلام” في إسبانيا. واستُدرج فنّانون تونسيّون، أغلبُهم من المغمورين، مقابل مبالغ ماليّةٍ مغرية، لإحياء حفلات غنائيّة للصهاينة من أصل تونسيّ في فلسطين المحتلّة.[12]

بالتوازي مع ذلك جرى تشجيعُ التبادلات التجاريّة والاقتصاديّة. ولعلّ أبرزها فتحُ أحد أصهار بن عليّ خطَّ سفرٍ مباشرًا بين جربة وتلّ أبيب بدعوى نقل “الحجّاج الإسرائيليّين” إلى معبد الغريبة اليهوديّ في جزيرة جربة.[13] كما يجدر التذكير بأنّ وزيرة السياحة الحاليّة، سلمى اللّومي الرقيق، كانت قد زارت سابقًا الكيانَ الصهيونيّ في إطار مشروع فلّاحيّ خاصّ.[14]

عمومًا، لم يختلف الأمرُ كثيرًا بعد انتفاضة 17 ديسمبر التي أفضت إلى إسقاط بن عليّ. فمع انحسار المدّ الجماهيريّ الثوريّ (الذي شهد في أوجه رفعَ شعار “الشعب يريد تحريرَ فلسطين”)، ومع انتصار قوى الثورة المضادّة، استأنف المطبِّعون أنشطتَهم بالوقاحة نفسها أو أكثر.

بعد إجهاض انتفاضة 17 ديسمبر: من الدفاع إلى الهجوم

نجح الصهاينة وشركاؤهم في تونس في احتواء موجة الحماس التي ميّزت المدَّ الثوريّ في زخمه الأوّل. ففضلًا عن علاقاتهم القديمة بنُخَب نظام بن عليّ العائدة على مهل، مارسوا سياسةً احتوائيّةً للإسلاميّين. ومنذ البداية بدا واضحًا التعويلُ الغربيّ، الأمريكيُّ تحديدًا، على قيادتهم الطيّعة لـ”مسار الانتقال الديمقراطيّ.” وهو ما يفسِّر اللقاءات المتكرّرة بين قيادات حركة النهضة “الإسلاميّة،” التي طالما تشدّق قادتُها بعدائهم لـ”إسرائيل،” ومتصهينين أمريكيّين كبار مثل النائبيْن جوزيف ليبرمان وجون ماكّيْن، أو يفسِّر قبولَهم دعواتِ مؤسّساتٍ بحثيّةٍ معروفة بولائها للّوبي الصهيونيّ في واشنطن.[15]

ولا شكّ في أنّ الصهاينة استغلّوا رغبةَ الإسلاميّين الجامحة في الوصول إلى الحكم، وصعوباتِ المرحلة الجديدة، من أجل “مقايضتهم،” بشكلٍ أو بآخر، على درجة التزامهم بالقضيّة الفلسطينيّة. وهو ما يفسِّر تصريحات راشد الغنّوشي وحمّادي الجبالي المتبرِّئة من مواقف الدعم التقليديّ اللّامشروط لفلسطين. واتضّح ذلك على نحوٍ أكبر عند نقاش إمكانيّة إدراج فصل في الدستور ضدّ الصهيونيّة والتطبيع مع كيانها، إذ مورستْ ضغوطٌ خارجيّة[16] أدّت الى رضوخ الترويكا الحاكمة[17] وتصويتِ نوّاب “النهضة،” وهي الحركةُ الأكبر في المجلس التأسيسيّ، ضدّه. كما ماطلتْ هذه الحركة، إلى جانب حزب “نداء تونس” الذي يقود الحُكمَ منذ انتخابات 2014، في مناقشة مشروعيْ قانون[18] لتجريم التطبيع مع الكيان الصهيونيّ.

فتح الإخفاقُ في “تجريم التطبيع،” دستوريًّا أو قانونيًّا، البابَ على مصراعيه كيْ يستأنف الصهاينةُ وعملاؤهم المحليّون مساعيَهم التطبيعيّة. وما يميّز سياستَهم، إثر 14 جانفي، وتحديدًا منذ أواخر العام 2014، هو تركيزُها على تكثيف الأنشطة والممارسات التطبيعيّة وتسريعِ وتيرتها، بما يجعل مقاومتَها صعبةً وضعيفةَ التأثير، ويُحبط القائمين عليها. ولا شكّ في أنّ الصهاينة يستغلّون، في ذلك، تشعّبَ المشهد السياسيّ الجديد إثر الانتفاضة التونسيّة سنة 2011، وما نجم عنه من تسارع الأحداث وتنوّع المعارك التي فُرض خوضُها على المناضلين الجذريّين المنخرطين في مناهضة التطبيع.

حكومة جمعة والمنعرج

شهدت الممارساتُ التطبيعيّة منعرجًا مع قدوم “حكومة التكنوقراط” الانتقاليّة، التي فرضتها مجموعةُ الدول الثماني، بمساعدةٍ من “اتّحاد الأعراف،” كمخرج لتصاعد الصراع على السلطة بين اليمينيْن، المتديِّن والحداثويّ.

فلئن حاولتْ حركةُ “النهضة،” التي أزيحتْ “بنعومة” من السلطة في بداية العام 2014، عدمَ الانخراط السريع في مسار التطبيع حرصًا على عدم إغضاب قواعدها المنحازة تقليديًّا إلى فلسطين، فإنّ الأمر تغيّر مع الحكومة الجديدة. إذ تميّزتْ هذه الحكومة، إلى جانب سياساتها النيوليبراليّة واللّاوطنيّة، باشتمالها على عدد مهمّ من الموظّفين الذين عملوا سابقًا في شركات متعدّدة الجنسيّات.

من هؤلاء: آمال كربول، التي عُيّنتْ وزيرةً للسياحة، وكانت قد عاشت أغلبَ حياتها في ألمانيا. وقد أثارت هذه الوزيرة جدلًا واسعًا بين التونسيّين لسببيْن: الأوّل عند اطلّاعهم على سجلّها المهنيّ، الذي تضمّن زيارةً إلى “إسرائيل”؛ والثاني عندما دافعتْ بقوّة عن دخول سيّاح إسرائيليّين إلى تونس، بعد أن منعتهم وزارةُ الداخليّة أوّل الأمر.[19] وكانت مساءلةُ بعض أحزاب المعارضة للوزيرة حول هذا الموضوع فرصةً ليكتشف التونسيّون ضحالةَ ممثّليهم في البرلمان، وعدمَ جدّيّتهم في التصدّي للتطبيع. وهو ما سمح لرئيس الحكومة المهدي جمعة، والموظّف السابق في شركة مرتبطة بالعملاق النفطيّ طوطال (Total)، بأن يتجاوز الموضوعَ بمقولةٍ سخيفةٍ شهيرة: “تطبيع، لا تطبيع، دعونا من هذه القضايا الكبرى. السياحة في خطر!”[20]

إثر ذلك تلاحقتْ أخبارُ التطبيع والمطبِّعين. وقد تركّزتْ أساسًا في المجاليْن الرياضيّ والفنّيّ، اللذيْن كانا محرَّميْن في الماضي. من ذلك أنّ لاعب التنس مالك الجزيري، الذي اضطرّته وزارةُ الرياضة إلى الانسحاب من مباراة ضدّ لاعبٍ إسرائيليّ في العام 2013، لعب ضدّ إسرائيليٍّ آخر سنة 2016، ومرّ الخبرُ مرورَ الكرام! كذلك لعب منتخبُ الكرة الحديديّة التونسيّ ضدّ المنتخب الصهيونيّ، وحقّق عليه “نصرًا” لم تتردّد إحدى وسائل الإعلام في الاحتفاء به بنبرةٍ “نضاليّةٍ” مقرفة.[21]

أمّا في المجال الفنّيّ، فقد أحدثتْ تلك الصورةُ المخْزية للمغنّي صابر الرباعي مع الجنديّ الصهيونيّ صدمةً كبيرةً لدى التونسيّين.[22] وكان من إيجابيّات هذه الحادثة أنّها سمحتْ بإثارة موضوع “التطبيع عن غير قصد” أو “التطبيع غير المباشر” (الذي قد يصبح مباشرًا جدًّا كما رأينا في حالة الرباعي) الذي تتسبّب فيه زيارةُ الضفّة الغربيّة المحتلّة. بل لا نبالغ إذا تحدّثنا في هذه الحالة عن “تطبيعٍ مضاعَف،” بغضّ النظر عن نوايا الزائرين: الأوّل مع الإسرائيليّ الذي يُسند “التصريح” ويقرِّر مَن يدخل ومَن لا يدخل جزءًا من الأرض المحتلّة؛ والثاني مع السلطة الفلسطينيّة الذليلة “المنسّقة أمنيًّا” مع الاحتلال في رام الله. ومازال هذا الموضوعُ محلَّ جدالٍ حتّى مع ناشطين ومثقّفين صادقين لا غبار على معاداتهم للصهيونيّة.

                                                  صابر الرباعي مع جندي صهيوني

بوّابة “المجتمع المدنيّ”

ويمثّل “المجتمعُ المدنيّ” (بالمعنى اللّيبراليّ السائد) أحدَ المجالات الجديدة نسبيًّا للتطبيع إثر 14 جانفي 2011، إذ سمحتْ أجواءُ “الانتقال الديمقراطيّ” المزعوم تحت الوصاية الإمبرياليّة بشتّى أنواع الاختراقات. ومن هذه الاختراقات تعدّدُ المبادرات والمؤتمرات التي تجمع تونسيّين بصهاينة أو إسرائيليّين تحت عناوين مختلفة، لعلّ أهمَّها “الأورومتوسّطيّة.”[23] ويذكر وجدي بن محمّد، الذي شارك في أحد الملتقيات التدريبيّة لـ”تكوين القادة الشباب” في تونس، ونظّمتْه منظّمةٌ أميركيّةٌ هي “البحث عن أرضيّة مشتركة،”[24] كيف وَجد نفسَه ذاتَ سهرةٍ حول مائدة مع مشاركين إسرائيليّين (من غير فلسطينيّي الداخل طبعًا) لم يُعلَن عن وجودهم. وما فاجأه أكثر هو دفاعُ أعضاء فلسطينيّين آخرين عن “حقّهم في المشاركة!” وقد استنتج أنّ المنظّمة تخفي هويّتَهم وتمرِّرهم ضمن الوفد “الفلسطينيّ.”

ولا يتوقّف الأمرُ عند التظاهرات التي يجد فيها مشاركون تونسيّون أنفسَهم مع صهاينة. بل استُغلّ الوضعُ الجديد لبعث جمعيّات تدّعي “الدفاعَ عن الأقلّيّات” أو البحثَ في “تاريخها وتراثها،” على يد بعض المرتزِقة من أجل تسويق خطاب تطبيعيٍّ واضح. وقد رأينا مؤخّرًا، خلال معركة عرض المتصهين ميشال بوجناح، كيف انبرتْ رئيسةُ إحدى هذه الجمعيّات للدفاع عن العرض، متهمّةً مناهضي التطبيع بـ”معاداة الساميّة،” وكيف احتفت وسائلُ الإعلام الصهيونيّة بتصريحاتها الجوفاء.[25] وللأسف تصبح مهمّةُ هؤلاء المرتزِقة أسهلَ عندما لا يقتصر الدعمُ الذي تتلقّاه على المؤسسّات والسفارات الغربيّة والصهيونيّة، بل تحظى بدعم معنويّ من جماعة سلطة أوسلو.[26]

عن الأسباب وآفاق مناهضة التطبيع تونسيًّا

لا يحتاج المرءُ إلى الكثير من الفطنة كي يَفهم أنّ انتعاش مسار التطبيع، بملامحه “الناعمة” الجديدة، هو انعكاس مباشر للوضع السياسيّ الجديد في تونس. ففي ظلّ سيطرة نخبة برجوازيّة كمبرادوريّة، تنفِّذ بكلّ حرصٍ إملاءاتِ المراكز الإمبرياليّة وأذرعِها الماليّة الدوليّة، لا يمكن توقّعُ غير هذا التواطؤ المفضوح من السلطة السياسيّة الحاكمة. فالجميع يَعلم مدى النفوذ الصهيونيّ في مراكز القرار السياسيّ والماليّ الغربيّة. كما أنّ مسار ترويض الانتفاضات الشعبيّة العربيّة، الذي بدأ منذ العام 2011، يمرّ حتمًا عبر مزيدٍ من تكريس التخلّي عن منطق التوحّد القوميّ والإقليميّ والتضامن الجنوبيّ، وعن المواجهة مع العدوّ الصهيونيّ.

ففي ظلّ سيادة القيم الاستهلاكيّة، وتراجُع الفكر النقديّ والحركات السياسيّة ذات المشاريع الجذريّة، تصبح بديهيّاتٌ، كدعم النضال الفلسطينيّ ومناهضة التطبيع، ضربًا من المقاومة الشاقّة.

ومن الصعوبات المُستجدَّة الملاحَظة في الفترة الأخيرة ما يمكن اعتبارُه أثرًا جانبيًّا للنجاح العالميّ لـ”حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها” (BDS). إذ صار البعضُ في تونس، ومنهم مثقّفون، يتبنّى آليًّا وسطحيًّا موقفَ المقاطعة حيال الحضور الصهيونيّ في تونس، عوضًا من المطالبة بمنعه وتجريمه – كما رأيْنا خلال الجدال الأخير حول عرض بوجناح – وكأنّ الأمر يتعلّق بحدثٍ في أوروبا، لا في العالم العربيّ حيثُ يُعتبر الصراع مع الصهيونيّة مسألة وجود. بل إنّ أحد الفنّانين الشباب رفض في نقاش معه تبنّي المطالبة بإلغاء العرض بدعوى “احترام حرّيتيْ الفنّ والاختيار،” مكتفيًا بموقف مقاطعة العرض، وسألني: “متى يصير عندنا BDS  في تونس؟” معتقدًا أنّ الأخيرة تكتفي بالمقاطعة ولا تناهض التطبيع ــــ وهو أمر خاطئ.[27]

ورغم ذلك نجح مناهضو التطبيع في تونس في تحقيق عدد من الانتصارات النسبيّة في السنوات الأخيرة. منها نجاحُ جمعيّة “قاومْ” قبل سنتيْن في استصدار حكمٍ قضائيّ ألغى رحلات “سياحة دينيّة” كانت تنظّمها بعضُ وكالات الأسفار إلى القدس المحتلّة.[28] كذلك نجاحُ “الحملة التونسيّة لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ” في إقناع عدد من السينمائيّين التونسيّين بالانسحاب من مهرجان لوكارنو (سويسرا)، الذي خَصّص دورةَ سنة 2015 للاحتفاء بـ”السينما الاسرائيليّة.”[29] ومؤخّرًا النجاحُ في إلغاء عرض فيلم المرأة الأعجوبة (أو المرأة الخارقة) الذي تؤدّي دورَ البطولة فيه جنديّةٌ إسرائيليّةٌ سابقة، إثر تحرّكات طلّابيّة تلَتها قضيّةٌ رفعتها “حركةُ الشعب” القوميّة.[30]

هذه الانتصارات، وكذلك الحركيّة المهمّة التي عرفتها معركةُ عرض بوجناح، تنبئان بإمكانيّة تصعيد حركة مناهضة للتطبيع في تونس مستقبلًا، وذلك عبر مزيد من تشبيك جهود الناشطين في مختلف جوانب دعم القضيّة الفلسطينيّة (لجنة دعم جورج إبراهيم عبد الله، حملة المقاطعة ومناهضة التطبيع، جمعيّة “قاوم،” الأطراف الشبابيّة، النقابيّون والمثقّفون التقدّميّون، الخ) وخصوصًا عبر مزيد من ربط النضال من أجل فلسطين بالنّضال اليوميّ، في صفوف أبناء شعبنا، ضدّ النيوليبراليّة والاستعمار والهيمنة بمختلف أشكالها.


[1] بيان الحملة التونسيّة لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ https://lc.cx/qGem

[2] للمزيد من التفاصيل عن تاريخ الحركة الصهيونيّة في تونس، أنظر الكتاب المهمّ: النشاط الصهيونيّ في تونس 1897-1948 للمؤرّخ الهادي التيمومي (تونس:  دار محمّد علي الحامّي للنشر، 1982).

[3] تختلف المصادر التونسيّة على تاريخ الزيارة المُجهَضة. إلّا أنّ مصدرًا صهيونيًّا أكاديميًّا يشير إلى وقوع الحادثة سنة 1932. وقد لعب خلالها الصحفيّ الشاذلي خير الله، وصحيفتُه صوت التونسيّ، دورًا محوريًّا.https://lc.cx/cRQf

[4] الجهيناوي مدافعًا عن نفسه إثر احتجاجات على تعيينه وزيرًا للخارجيّة: https://lc.cx/cbQt

[5] تحديدًا الكاتب العامّ السابق لنقابة التعليم الثانويّ أحمد الكحلاوي، الذي اتُّهِم بتنظيم التحرّك، فحوكم وسُجن ثلاث سنوات وطُرد من عمله.

[6]  https://lc.cx/cb2V

[7] بيان يحتوي تلخيصًا جيّدًا لأبرز التحرّكات التي عرفتها تونس خلال تلك الفترة https://lc.cx/cavV

[8] https://lc.cx/cRTo

[9] من أبرزهم الثنائيّ الحبيب القزدغلي وعبد الحميد الأرقش، اللذان يدرّسان في جامعة الآداب والعلوم الإنسانيّة في منّوبة.

[10] للمزيد من التفاصيل حول هذه القضيّة وحول تاريخ التطبيع في تونس، يرجى الاطلّاع على الدراسة القيّمة للأستاذ منير السعيداني وعنوانها “لا لجبهة المطبِّعين في تونس.” وقد مدّني بها مباشرةً. لكنّه بدأ مؤخّرًا في نشرها على حلقات في ملحق “منارات” في جريدةالشعب التابعة للاتحاد العامّ التونسيّ للشغل.

[11] ومن أشهرهم رضا الكافي، صاحب موقع كابيتاليس، وخميّس الخيّاطي.

[12] https://lc.cx/cRyD

[13] https://lc.cx/cRvm

[14] https://lc.cx/cDZk

[15] https://lc.cx/cDiQ

[16] https://lc.cx/cH5z حول رسالة من رئيس البرلمان الألمانيّ إلى رئيس المجلس التأسيسيّ، وتضمنّتْ تهديدًا مبطّنًا بعزل تونس إذا نصّ دستورُها على تجريم التطبيع.

[17] ائتلاف تقوده “النهضة،” التي تبوّأ أمينُها العامّ حمّادي الجبالي رئاسةَ الحكومة، ويَعضدها فيه حزبان: “المؤتمر من أجل الجمهوريّة،” بزعامة منصف المرزوقي رئيسًا للجمهوريّة، و”التكتّل من أجل العمل والحرّيات،” بزعامة مصطفى بن جعفر رئيسًا للمجلس التأسيسيّ.

[18] قدمّ الأوّل نوّابُ “حركة وفاء” خلال المرحلة التأسيسيّة، والثاني نوّابُ “الجبهة الشعبيّة” في البرلمان المنبثق عن انتخابات ديسمبر 2014.

[19] https://lc.cx/cH7k

[20] https://lc.cx/cH8E

[21] https://lc.cx/cH2r

[22] https://lc.cx/cHbm

[23] وهذا الأمر في الحقيقة ليس جديدًا تمامًا. بل بدأ تدريجيًّا منذ انطلاق “مسار برشلونة” سنة 1994. وعلى المستوى الشخصيّ، خلال مشاركتي سنة 2003، باسم شباب الحزب “الديمقراطيّ التقدّمي” (سابقًا)، في مؤتمر لـ “الشبكة الأورمتوسّطية للشباب المُواطنيّ” في باريس، أثار ريْبتي أحدُ المشاركين، الذي تارّةً يقدّم نفسَه كفرنسيّ وأخرى كإسبانيّ. واكتشفتُ لاحقًا (إثر تثبّتي من العناوين الإلكترونيّة وبحثي على الإنترنت) أنّ الأمر يتعلّق بمسؤول في إحدى المنظّمات الطلّابيّة الصهيونيّة في أوروبا. وجديرٌ بالذّكر أنّ أحد المنظّمين الرئيسين لهذا اللقاء هو نور الدين بن تيشة، الذي كان مناضلًا يساريًّا سابقًا، وتحوّل اليوم إلى مستشار سياسيّ للباجي قائد السبسي.

[24] تأسّستْ هذه المنظّمة الأمريكيّة في سياق “الحرب الباردة” في ثمانينيّات القرن الماضي، على يد عنصر المخابرات السابق، في وزارة الخارجيّة الأمريكيّة، جون ماركس. واشتغلتْ منذ ذلك الوقت في مجال “صناعة السلام.” وطبعًا يُعدّ “الصراعُ العربيّ ــــ الصهيونيّ” إحدى أهمّ أولوياتها.https://en.wikipedia.org/wiki/Search_for_Common_Ground

[25] https://lc.cx/c9NT

[26] على سبيل المثال: في أوج معركتنا ضدّ عرض المتصهين بوجناح، تلقّت رئيسةُ جمعيّة أقلّيات هديّةً من الفلسطينيّ محمّد المدني، عضو اللجنة المركزيّة لحركة فتح ورئيس “لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيليّ.” وتتمثّل هدّية “المناضل الفتحاويّ” في كتاب لـ “صديقه الإسرائيليّ (…) عضو اتّحاد الكتّاب في إسرائيل،” زيّنه بإهداء لطيف إلى “الآنسة يمينة ثابت المحترمة” (رئيسة الجمعيّة المذكورة). وقد نشرته الأخيرة بكلّ فخر على صفحتها في فيسبوك.

[27] ترفض قيادة هذه الحركة في فلسطين كلَّ أشكال التطبيع مع العدوّ الصهيوني. وهي تقدّم تعريفًا واضحًا، لكنّه غير مكتمل في رأيي، للتطبيع، لكونه يقتصر على ذكر زيارة العرب لـ”إسرائيل” من دون الحديث عن زياراتهم إلى مناطق السلطة الفلسطينيّة “المنسّقة” مع الاحتلال. كما أنّهيقتصر على إدانة الأنشطة الدوليّة التطبيعيّة لكنّه يسهو عن ذكر مسألة دخول الصهاينة الى البلدان العربيّة. ومع أنّ هذا التعريف في حاجة إلى المزيد من التحيين والتدقيق، فإنّه يمكن القياسُ على ما تضمّنه من مبادئ واضحة لاستنتاج وجوب رفض كلّ أشكال الحضور الصهيونيّ في تونس وغيرها من أقطار الوطن العربيّ. https://lc.cx/c9KX

[28] https://lc.cx/c96M

[29] https://lc.cx/c9u2

[30] https://lc.cx/c9LP

  (نُشر هذا المقال أوّلا في موقع مجلّة الآداب في سبتمبر 2017)

أعجبك عملنا؟ يمكنك دعمنا وتعزيز استقلاليّتنا !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *