“مرشي طريق حفوز”: حالة تنظم ذاتي تتجه نحو أفق مقفل

بقلم عادل الحامدي

كاتب تونسي أصيل ولاية القيروان، صدرت له خمس روايات، وهي ‘الأخدود الذي صار نهرا’ سنة 2018، ‘أرغفة الذلّ’ سنة 2018، ‘سبب للحياة سبب للموت’ 2019، ‘وحيد الساق’ سنة 2020، ‘سفر الى الينابيع’ سنة 2021.


في بداية الثمانينيات شرع أحد كبار ملاكي العقارات في القيروان في إقامة مركّب تجاري في طريق حفوز -الإمتداد الجنوبي لمدينة القيروان ما وراء المقبرة الكبيرة-  قوامه سلسلة من الدكاكين المتجاورة المجهزة في مربع كبير مغطى في طرف الحي.  وفي نيته كراء جميع المحلات لبائعي الخضر والغلال وغيرهم ليصير المركّب بمسمى “مرشي بودن”، لكن ما حدث أن لا أحدا من الناس اكترى دكانا واحدا ولا حدث في أي وقت أن تحوّل “مرشي بودن” لمرشي حقيقي. ظلت الدكاكين مقفلة كلها حتى شرعت بالتداعي فقام صاحبها أو الوريث لها بتحويلها لشيء آخر.

أما “المرشي” الحقيقي فكان يتنامى في شارع آخر، على مسافى ثلاثمائة متر من “مرشي بودن “المهجور. بدأ بمحلين أو ثلاثة عند ناصية نهج بلا إسم يتفرع جنوبا من الشارع الرئيسي في الحي الضخم، ولا يعرف أحد على وجه التحديد الصيغة التي كان العاملون فيها يقومون باستغلال المحلات الثلاثة، هل كانو أصحاب المحلات اياها أم أدخلوا معهم شركاء في النشاط المحدود الذين كانو يمارسونه، أم كانت مكتراة أم مفوت فيها على وجه الفضل، ثم شرع الباعة المنتصبون على جانبي النهج في العراء، ثم في وسطه تماما حتى ملؤوه، يتكاثرون على نسق سريع، نصبة بجانب نصبة، كلها على طرفي النهج وفي قلبه، لتبدأ حالة فريدة من الصراع حول افتكاك المجال العمومي بين بشر يحاولون تدبر أمر امتلاك مصيرهم، وبين سلطة لا تهمها غير التراتيب ولا تنفك تطاردهم دون هوادة. حتى انتهى الصراع بعد ثلاث عقود بتحول “مرشي طريق حفوز ” لحالة تنظم ذاتي غير مسبوقة.

وفي نفس لوقت لحالة نموذجية لفشل البشر في التعلم من تجاربهم في التنظم…

لماذا لم يتطور مرشي طريق حفوز نحو المزيد من التنظيم والتطور، مع الحفاظ على سماته الأساسية النبيلة؟  طالما هو على هذا القدر من الإستقلالية وأهله على هذه الدرجة من الإقتدار على نحت المصير؟ وظل حالة شارعية محضة مهمشة.. الباعة فيه مستقلون، نعم.. غير خاضعين لأي سلطة.. لقد هزموها نهائيا، فلم يعد بوسعها التدخل في شيء من أمور المرشي، لكنهم ظلوا مساكين عرضة لتقلبات الطقس وتقلبات أسعار الجملة ومصاعب النقل وأوضاعهم الصحية وقدراتهم على تحمل الوقوف خلف نصباتهم لساعات طويلة وأمزجة الحرفاء ” والقسم ” الذي يأتي يوما ويغيب يوما آخر.. هل نعتبر كونه حالة شارعية هشة.، أي عدة عشرات من حالات الانتصاب الفوضوي للخضارين وبائعي الملابس المستعملة واللعب و بائعي الدجاج المذبوح في المكان.. في صفوف طويلة متجاورة على امتداد نهج طوله مائتي متر، وأحيانا تفيض على الأنهج الجانبية فنرى الباعة منتصبين في التفرعات المجاورة..، عناوين تأزم إجتماعي ومخرجات وحلول له في نفس الوقت. أم هي حالات رفض لمناهج السلطة في إخضاع البشر لقوانينها وشروطها للتكيف، و ابتداع لأساليب فرض الوجود وحمايته ينبغي علينا الكف عن نعتها بحالات تأزم.؟ بقدر ما هي بحاجة لنظرة تأمل من قريب لمعرفة الجوانب الإبداعية في التجربة.كونها مشروعا للتنظم المستقل ظل يراوح لمدة طويلة حول نفسه ويكرر أخطائه ذاتها .

فعليا، رفض الباعة المنتصبين مشروع ” مرشي بودن ” كان خطوة سليمة، وحررهم من ضغوط كثيرة.. فهم في تفضيلهم للإنتصاب الشارعي في العراء.. حيث لكل بائع حيز مجالي معلوم لا يتعداه أو يجور على جاره، لا يدفعون معلوم كراء ولا اداءات تثقلهم ولا شرطة بلدية تلاحقهم ولا مصلحة مراقبة الأسعار أو المراقبة الصحية تتدخل في شؤونهم.. بل وصل بهم الأمر لحد تنصيب أفراد منهم كأعوان مرور وشرطة. فيحددون للمارين والداخلين للمرشي والخارجين منه المنافذ التي يتعين عليهم سلوكها. وعند انتهاء زمن الإنتصاب المتفق عليه، في الساعة الثالثة ظهرا.. يقوم  صاحب كل نصبة بتنظيف المجال الذي كان ينتصب فيه. فلا يتركون قذارات تذكر. ومن الغد، يعاود كل شخص شغل حيز الأمس دون اعتراض عليه من أي كان. فهنا وضع التنظم في مرشي طريق حفوز لا تحكمه فحسب شروط تجارية بل قيم ومباديء إنسانية لا تبيح لأحد أن يجور على مجال جاره. وهذا أساسا ما يهمنا في التجربة.

كيف انطلق مرشي طريق حفوز، ومن هم ” الأباء المؤسسون” للمرشي؟ وما كانت أسالبيهم في إنشاء وضع على هذه القدر من الاستقلالية؟

وكيف حصل التواصل وامتد الخيط؛ الذي انتهى مع الأسف لتوارث الأخطاء فلم تتطور التجربة ولم يستفد منها أصحابها لنقل تحربتهم من عالم الهامش المحكوم بتقلبات لا يتحكمون فيها لمستوى إنشاء مجتمع يعيش وضعا تضامنيا شاملا، ولا ينهض اقتصاده على مجرد اللهث خلف الربح وتكديس الثروة، واستغلال التنازلات التي أكرهت السلطة على تقديمها لهم : كمثال تم مرتين عرض عليهم الإنتقال لفضاء مغطى كان بوسعهم القبول به وفي نفس الوقت المحافظة على السمات التضامنية للتجربة .

هل تحولت بمرور الوقت تجربة الانتصاب في العراء والشكوى البائسة التي لا يتوقف جريانها على ألسنة الباعة من وعورة الحياة لثقافة مترسخة في الوعي الجمعي لأهل المرشي ؟

إلى أي حد نستطيع القول أن تطور التجربة كان محكوما على الدوام بالخلفيات النفسية والعقلية والإجتماعية للقائمين عليها؟ الفعل التضامني بين أصحاب النصبات وغياب حالات التعدي كان في جانب كبير منه يغرف من ثقافة “الرجولة” المتوارثة.. أي هو ليس معطى جديد في التجربة، ولم يكتسبه اهل المرشي في سياق بحثهم عن وجود تشاركي لهم، بالإمكان العثور على أثر لتلك الثقافة في أي مجال حياتي آخر، لكن من ناحية أخرى ما الذي يمنع من القول أن التجربة ذاتها أنتجت أوضاعا نفسية وعقلية واجتماعية وتنظمية جديدة لأصحاب النصبات في سياق تطورها؟ إذا كان الأمر كذلك فما الأفق الذي كان بوسع التجربة الإتجاه نحوه؟ وما نوع الفشل الذي أصابها ومنع أو عطل بلوغها لذلك الأفق ؟

مرشي طريق هو في  وجهة النظر الرسمية تجمع عشوائي، والسلطة  لا تعترف به ولا توفر له أي من مقومات التجمع المنظم.، فليس فيه فضاءات مغطاة ولا مراحيض ولا ماء للشراب ولا أماكن للراحة. هو انتصاب حر في عرض الشارع، مستوليا عليه تماما، لكن في نفس الوقت لا تفعل السلطة شيئا لتعطيل فاعلياته، فهي تسمح للخضارين المنتصبين فيه بالتزود كل صباح من السوق المركزية. ولا تفرض على أحد الإستظهار بما يفيد صفته المهنية أو السؤال عن وضعيته الجبائية أو مقادير ما يربح يوميا. هنا سلوكها يجمع بين التواطؤ للإستفادة من حالة وجود إقتصاد موازي يساعد على تمويه الوضع الإجتماعي البائس،  وإخلاء نفسها من المسؤولية وترك ذلك التجمع العشوائي يواجه مصيره كل يوم. ثم إدانته لما هو عليه، تجمع فوضوي لمجموعة من ” الكلوشارات “. الذين لفظهم عالم الإقتصاد المنظم، فلا قوانين تنظمه غير ما يسنه لأنفسهم أهله. بل حتى قوانين التنافس التجاري لا  مكان لها تقريبا في تعاملات السوق. فتحديد الأسعار يتم بالتنسيق المسبق بين الباعة. وعادة لا تكون الأسعار مشطة إطلاقا. وبوسع الحرفاء الفرز والتقليب وانتقاء ما يروقهم بحرية مطلقة. وكثيرا ما نرى بائعين يتبادلان الفضاءات في المرشي إن بدا لهما أن تعاملات أحدهما تتطلب توسعة أو تضييقا للفضاء الذي ينتصب فيه. وهذا يوضح شيئا هاما هو أن روح التنافس والتربح الرأسماليين حتى في صورتها البدائية لا تجد قبولا هنا. فالتعاون والتشاركية هما الملمحان السائدان في أغلب المعاملات  في السوق بين الباعة.

إلى حد وقت قريب ظل مرشي طريق حفوز هدفا لتدفق حشود من الهاربين من الجحيم المعيشي، ويبحثون عن ملاذ وموطأ قدم في أي ركن منه، فيعرضون للبيع أي شيء لسد الرمق. وقد ينحج بعضهم في إيجاد حرفاء دائمين ويفشل البعض الآخر فيغادرون بعد مدة . وهكذا تدريجيا تنامت عقلية “دبّر راسك في المرشي”، فالجميع يريدون الانتصاب فيه وبيع أي شيء. لكن بمرور الوقت تراجعت هذه النزعة بعد بلوغ المرشي درجة من التشبع بالسلع والبائعين لم يعد معها بوسعه استيعاب مزيد من الوافدين الجدد. وبلوغه درجة التشبع هذه عنى في نفس الوقت أن قدماء المنتصبين ترسخت أقدامهم فيه وصاروا من علاماته الثابتة بعد أم امنوا من المزاحمة. لكن ذلك لم يحولهم بتاتا لاوليغاريشيا تجارية بل عنى فقط محافظتهم على مواقعهم القديمة لا أكثر.

يعود شرف تأسيس المرشي لثلاث عائلات في  منتصف الثمانينيات، عندما كان فضاء المرشي الحالي مجرد نهج سكني شبه فارغ. وفي الوسط منه تماما بضعة محلات منفصلة عن بقية البناءات بما أهلها لتكون وحدة بنائية بحالها تتشكل من بعض الدكاكين ذات الفضاء الشاسع. وبداخل ذلك الفضاء كان  تعرض مواد عديدة، مثل السمك والخضر وبدرجة محدودة الملابس المستعملة، ثم  تمت إقامة جدران حولت تلك الفضاءات الشاسعة  لعدة محلات صغيرة وتسخيرها لأغراض أخرى. ثم تراجع استعمال تلك المحلات لحساب الإنتصاب في العراء عند ناصية النهج أولا، ثم احتلاله وتحويل فضاء النهج بأكمله لفضاءات انتصاب .  

العائلة الأولى هي عائلة ” ز”  وتتشكل من ثلاثة إخوة أعمارهم قاربت الخمسين، منها ما يقرب من الثلاثين عاما قضوها منتصبين كبائعي خضر عشوائيين في المرشي. ووالدهم من حومة علي باي يشتغل  صاحب كارو ينقل عليه مواد البناء. حاليا الأب ترك سياقة الكارو بفعل تقدمه في السن. ونراه من وقت لآخر يعين حفيده، ابن واحد من أولاده الخضارين على ترويج سلعه في نصبته الخاصة التي استقل بها عن والده. فجميع أفراد العائلة القادمون من وسط شديد  القفر في ذلك الحي البائس، عايشوا المرشي من أيام نشأته  ومثلوا واحدة من نواتاته الثلاث التي مازال لحد اليوم جل نشاطه يتمحور حولها.

 ومنذ ثلاثين عاما لم يسجل لأحد من الإخوة  أن حقق ترقيا لافتا في السلم الاجتماعي عدا الشقيق الأوسط الذي ترك الإنتصاب ( أو ربما أوكل هذه المهمة لابنه أو ابن شقيقه الذي أشرت لمعاونة جده له. لست متأكدا) وصار صاحب شاحنة  لنقل الخضر والغلال. فهذا هو وجه الترقي الوحيد الذي قد يبلغه يوما واحد من أهل المرشي

  العائلة الثانية هي عائلة “ب”. الوالد قادم من أحد أرياف بوحجلة وكان يشغل أحد المحلات وباع أشياء كثيرة قبل أن يستقل ببيع الخضر على قارعة الطريق. فبتلك الطريقة، ومع امتلاك عربة على عجلات بوسعه التحرك هنا وهناك في أرجاء الحي، لا النهج فحسب، واصطياد المزيد من الحرفاء.

توفي الوالد مطلع التسعينيات في حادث مرور. وترك أربع أولاد، أصغرهم ذو اعاقات متعددة. والثلاثة الآخرون، شأنهم شأن أولاد “ز”. إحتذوا طريق والدهم وورثوا نصبته.كبر الأولاد وهم يمتهنون الإنتصاب في المرشي. ثم انفصل الأوسط  عنهم بعد أن وجد عملا في أحد النزل في الساحل. وابتعد آخر، وبقي إثنان قائمان على نصبة الوالد، ثم ترقى الأكبر فترك النصبة مرة لشقيقه، ومرة لأحد العمال، واقتنى هو الآخر شاحنة، بعد سنوات طويلة من الإنتصاب، لكن ليس ليمارس التزويد لبقية الباعة بل لنصبته هو فحسب. وبفضل امتياز امتلاكه لشاحنة، صار يستطيع الذهاب بعيدا في أعماق الأرياف وجلب الخضر والغلال بسعر الفلاح. ومن هنا عدت نصبته الأكثر رخصا في السعر بين نصبات المرشي كله.

العائلة الثالثة هي عائلة عمي “ع”. وتتكون من الأب القادم من ريف الكرمة، وثلاثة من أولاده. جميعهم شاركوا في التأسيس ثم هجروا الإنتصاب وامتهنوا حرفا مختلفة، عدا الإبن الأكبر الذي لم يملك نصبة خاصة به، بل صار كبير الباعة في أكبر نصبة في النهج وأكثرها ازدحاما بالحرفاء – نصبة  “م” – أما الأب، فعلى عهده منذ عقود، لا يزال ينتصب مقابلا لنصبة ولده بعربته القديمة. رغم سنه التي قاربت الثمانين، ناشطا كما كان به العهد منذ 35 عاما.

وبين هذه النواتات الثلاثة قامت عشرات النصب. جميعها تشترك مع نصبات أولاد الـ”ز” والـ”ب” وعم “ع” في الخصائص ونوع السلع والخلفيات الإجتماعية لأصحابها. وقد يُعرف بعض البائعين بسوء السمعة. كأن يمارس الغش مرة. فتلتصق به تلك الصفة التصاقا دائما محدثة تأثيرا جسيما على مستوى تعاملاته.

لكن الثلاثي أعلاه تميز عن البقية بالاقدمية والرسوخ. وهذه الاقدمية أهلتهم لنيل شيء من التميز. لا يصح تسميتها بالإمتيازات، مثل القدرة على التأثير وامتلاك علاقات واسعة وسن بعض القواعد التي يلتزم بها البقية طوعا .لكن على مستوى حيازة الفضاءات، ظل كل شيء على حاله. فالفضاء الذي يحوزه ولد “ب”  صاحب الشاحنة لا يتعدى في شيء الفضاء الذي يجوزه جاره بائع المعدنوس والقرع والحمص. إنما هناك شيء مهم لا بد من الإشارة له في سياق الحديث عن مسارت الترقي التي سلكها أهل المرشي. ونقصد تحديدا إمتلاك بعضهم لشاحنات. على عكس بعض الأسواق العشوائية الأخيرة مثل نهج اسبانيا في تونس التي يكون فيها نيل هذا الإمتياز قائما على أساس عشائري محض ويستند لحس الجسارة و قبول المخاطرة، فإن تحول بعض الخضارين لمالكي شاحنات يقطعون على متنها المسافات الطويلة كان ثمرة مسار طويل من أوضاع الإنتصاب اليومي استمر لعدة عقود. فأهلهم صبرهم الطويل لنيل صفة “الفارس” الذي يمخر بعربته أعماق الأرياف البعيدة ويجلب الخضر الطازجة ليبيعها إما على متن شاحنته أو ليزود بها نصبته الخاصة التي يسهر عليها أحد العمال. بينما ظل بقية الباعة في وضع ” جنود  المشاة ” ينتظرون التزود اليومي بالخضر من السوق المركزية.

ومن المؤكد أن عددا من جنود المشاة هؤلاء قد اشتغلوا لبعض الوقت كباعة متجولين في أرجاء حي طريق حفوز قبل أن يقرروا حط الرحال في المرشي واحتلال موقع فيه، ومن خلال جولاتهم السابقة  هذه كونوا لأنفسهم قاعدة من الحرفاء، وعندما استقراو في المرشي تبعهم هؤلاء الحرفاء. لكن في زحمة الباعة القدماء والجدد صار من العسير الحديث عن حرفاء قارين لهذا البائع أو ذاك، باستثناء نصبتين أو ثلاثة، تتبع عادة فريق المؤسسين ومن ارتبط بهم، تتميز بالتنوع وطزاجة السلع وشدة اعتدال السعر، فالحرفاء دائمو التدفق وسريعو التبدل وأمر التعامل مع أي حريف غدا شبيها بالتعامل مع رمية نرد لا يعرف أحد أين ستقع.

كما أن تشابه السلع والتنسيق الذي يتم حول السعر بين أصحاب النصبات يفرغ من الأهمية قيام الحريف بتفضيل هذا البائع عن غيره.

وهؤلاء الذين عملوا لبعض الوقت كباعة متجولين يدفعون أمامهم عربات ثقيلة كانوا يفكرون أن ذلك التجوال ليس غير ” عمل مؤقت ” أو شيء يصرفهم عن التفكير الإنتحاري في “الحرقة” التي تمثل دائما خيارا رئيسيا لبناء ركائز المستقبل بجانب الانتصاب في المرشي. ثم عندما قرروا الانتصاب فيه واستراحوا من عناء التجوال اليومي المنهك، اكتشفوا محدودية ما سيقدمه لهم عملهم كباعة منتصبين طوال اليوم في المرشي، على صعيد الدخل ونوعية الحياة التي سيحيونها، فكروا مجددا، في محاولة لمخادعة الذات ومراوغة أقدارهم المرسومة، أن ذلك الإنتصاب ليس هو بدوره غير “عمل مؤقت “، في انتظار انفتاح الأفق  أمامهم على مجال أكثر رحابة وأكثر استجابة لأحلامهم. لكن مرور الوقت وانغلاق أفق الخيارات  شرع يقرض أحلامهم تلك ويفعل فعله في حياتهم. فصار المؤقت عبارة عن ” مؤقت دائم ” بأماد زمنية مفتوحة.. ثم استحال بعدها إلى مصير نهائي لا يستطيعون الإفلات منه.

وبصيرورة المؤقت ” مؤقتا دائما”،  وتلاشي الأمال في مستقبل يلبي الطموح  تميز مسلك الباعة العملي والأخلاقي بالإنصياع الكلي لإشتراطات الواقع الذي ساهموا في إنتاجه وتثبيته. دون أن يملكوا القدرة على الترقي به وتحسينه، فالواقع الذي فرض عليهم بهذه الكيفية قد حدد لهم في نفس الوقت الدور الذي سيقومون به والأفق الذي سيمضي بهم إليه.

الواضح أن لا أحدا من الباعة قد فكر أو حلم بمستقبل لنفسه وعائلته ركيزته الأساسية تتمثل في  الوقوف المنهك سحابة يومه خلف عربة مشحونة بالخضر في ظروف الطقس المختلفة مع إيراد يتباين من يوم لآخر. فلا ضمانة للغد، لكن ما تأكد منه بالتجربة الطويلة جميع الباعة أنه ليس بوسع أحد أن يصير ميسورا أو حتى مكتفيا إلى حد ما من خلال وقوفه لعشر ساعات يوميا في العراء التام في نهج يحتضن ” مرشي ” مهمش في وسط إجتماعي مفقر، لا تتوفر للعمل فيه أبسط متطلبات الكرامة البشرية.

وهذا يؤدي بنا لفهم أن كافة ممارسات التعاون والتشاركية السائدة في المرشي ما هي غير نتيجة الشعور الحاد باليأس. هي ليست في الحقيقة فعلا واعيا بما في غلبة نوازع التربح الرأسمالي البغيض من شرور وأثار مدمرة على حيوات البشر. بالوسع تسميتها حالة خمول للروح وغياب تام للحماسة تجاه الحياة وضجرا بالتكرار اليومي لنفس الممارسة أثمر لامبالاة كلية بالواقع. سواء ربح البائع أو خسر فلا تأثير استراتيجي لربح أو لخسارة على حياته، الربح عادة زهيد والخسارة هي معطى حياته الأساسي. هذا الوضع النفسي أمات النزوع الربحي تماما، المرشي مستقل تماما والباعة فيه آمنون من مسائلات السلطة وتضييقاتها،  لكنه في نهاية الأمر يتجه نحو أفق مقفل. العمل لعشرين أو لثلاثين سنة على نفس الوتيرة اليومية، ثم الإستسلام للأمراض الذي  استوطنت الجسد بفعل كر السنوات وانهاك العمل. فتحولهم لباعة شبه مقعدين ينتصبون لبيع أي شيء حقير ويقنعون بدنانير قليلة لسد الرمق. وفي كل مرة أتوجه بالسؤال لأحد الباعة حول درجة رضاه وقبوله بالوضع الذي هو فيه تكون الإجابة واحدة لا تتبدل: ماذا بوسعنا أن نصنع؟

وقد حدث في اثنين من المرات أن تدخلت السلطات البلدية لتقترح على الباعة في مرشي طريق حفوز الإنتقال لفضاء آخر، لكن بعد يومين من الإنتقال لذلك الفضاء عاد أغلبهم للموقع القديم في النهج، في كلا المرتين كان يبين خبث مرامي السلطة، لم يكن الهدف من اقتراحها للفضائين الجديدين لإحتضان نشاط الباعة توفير ظروف مريحة لهم قدر ما كان يهدف لعدهم ومحاصرتهم ووضعهم تحت الرقابة بمعنييها الأمني والجبائي.

فذينك الفضائين كان أحدهما شبيه بالإسطبل.كان محاطا بسور عالي، لكن فضاءه عاري وأرضيته متربة، فكل من كان يلجه يشعر بنفسه ولج سجنا. والثاني كان فضاءا أجردا منعزلا عن البناءات يتداخل مع بقايا مقبرة ومترب هو الآخر.كان الشعور الغالب على الباعة وهم يعودون القهقرى إلى المرشي القديم هو أن السلطات تستهزيء بهم وتحاول الإمعان في إهانتهم. تنكيلا بهم لرفضهم الخضوع لشروطها وقيامهم باستبعادها منذ بدء نشاط المرشي

  اتجهت نية أهل المرشي نحو تمديد ساعات الإنتصاب لتصير غير محددة بزمن معين. وفعلا تم تجسيم ذلك وفرضه عمليا، فغدا النهج محتلا بالكامل من الباعة من الفجر حتى المغرب . وصار بيد أي بائع الحرية المطلقة لتحديد موعد اشتغاله وموعد فضه لنصبته. بعد أن كان الوقت محددا بالثالثة ظهرا، ليتاح للسابلة والسيارات معاودة المرور في النهج. لكن هذا الإستحواذ المضاعف والتمطيط الزمني وإن عنى لهم المزيد من حرية الحركة ومزيدا من تحدي قوانين السلطة، فانه من جهة أخرى عنى أن العمل المنهك سيأكل المزيد من أعمارهم، وأن ساعات العمل المتعارف عليها (8ساعات او حتى عشرة ) لم تكن كافية إطلاقا لتوفر لهم الإيراد المنشود. وهكذا يتبين أن أي مكسب إضافي يحققه الباعة لا يفعل شيئا غير تعرية المزيد من حقائق واقعهم الإجتماعي البائس.

  المرشي حالة تنظم ذاتي ذات طابع فريد. لكنه أفقه ليس كذلك. هو في حقيقته وبفعل عجز تجربة التنظم تلك عن تطوير ذاتها  صار بمثابة دوران في حلقة مقفلة. جزء من لوحة البؤس العامة المخيمة على تونس، لا يغادرها المنتصب إلا ليلاقي نهايته الطبيعية المحتومة.

الفئات العمرية للباعة : أكبر الباعة هو عمي علي، شيخ في الثمانين، ينتصب منذ عقود بعربته الهرمة غير القابلة للتحريك قبالة النصبة الكبيرة التي يشتغل فيها ابنه الأكبر. عمي علي في عمله هذا، ومثلما تبين تجربته الطويلة وغياب أي تغيير في حياته جراءها، يمثل النموذج الحي للكائن الذي يعيش ليومه. هو ينتصب كل يوم ليبيع، ولأنه لا شيء آخر لديه ليفعله في حياته. لكن في العشية بعد إنفضاض المرشي يقوم بالجولان على متن دراجته ويجمع القوارير الفارغة. محاولا تحصيل المزيد من الدخل، فإن كان عمي علي، رغم موقعه الاستراتيجي في المرشي وأقدميته فيه، لا يجد في الإنتصاب  لمدة عشر ساعات ما يمنحه إيرادا يكفيه هو وزوجته المسنة. فلنا أن نتصور وضع بقية الباعة ممن هم أقل سنا منه ويعولون عائلات.

ثمة بجانب عمي علي ثلاثة أو أربعة من الباعة المسنين. أحدهم والد ولد “ز” الذي يعين حفيده. والأخر بائع يعاني من السرطان منذ زمن بعيد. لكنه يتحامل على نفسه  وينتصب كل يوم مستعينا بزوجته التي لا تفارقه. وهناك ثالث ينتصب في قلب المرشي. لكنه لا يكاد يجلب حرفاء. فنصبته دائما فارغة والناس يمرون ولا أحد يتوقف للشراء أو التقليب. الرجل مريض بدوره. والمريض عادة يتجنبه الناس ولا يمنحوه شفقة. وهناك مسن آخر اعتاد لمدة طويلة الخروج للأرياف المجاورة وجلب خضر كالمعدنوس والسلق والكرافس والمرشانة والجزر واللفت منها طازجة بسعر الفلاح. لكن هذه الأرياف المتاخمة للمدينة تخلت منذ وقت طويل عن هذه الزراعات واستبدلتها بزراعات الحبوب. والرجل أنهكته ضربات السنون، فتراجع الإقبال على نصبته. وتقلص تنوعها حتى صارت لا تبيع غير نوعين أو ثلاثة من الخضر.

الباعة الشبان كثيرون في المرشي. وطبعا لسنا بحاجة للتعريف بخلفياتهم الاجتماعية، جميعهم دون استثناء من عائلات فقيرة أو قادمون من الأرياف ومنقطعون عن الدراسة في سن مبكرة ، ولم يصبحوا منحرفين، مثلما اعتادت الدعاية الرسمية أن تنعت المنقطعين مبكرا عن الدراسة، هم “جنود المشاة ” القائمون على إستمرارية دوران دولاب المرشي، متضامنون ومتكاتفون بشكل مدهش، ويغيب في ممارساتهم، سواء تجاه الحرفاء أو تجاه بعضهم، الهوس الربحي، فلا يتنافسون، بل يحاولون قدر الإمكان تنظيم أمور المرشي بما يضمن إلى حد ما مصلحة الحريف ومصلحة البائع، هؤلاء الشبان الذين يراودهم حلم أن يصيروا قريبا ” فرسانا ” أي أصحاب شاحنات ” دي ماكس ” ينتصبون بها على حافة الطريق الرئيسي ويبيعون  التفاح والبنان في كل وقت والدلاع والبطيخ صيفا، والتمر خريفا، ويجلبون برتقال الوطن القبلي شتاء، أي ببساطة كل ما يقدر على بلوغه الفرسان على صهوات أحصنتهم الفولاذية. هم “مستقبل ” مرشي طريق حفوز الذي يتجلى حضوره بالذات في انعدامه.

لكن هذا الحلم.. مثلهم في ذلك مثل أغلب من سبقوهم.. يشبه حلم صغار السلاحف البحرية ببلوغ شاطيء الأمان بعد أن يفقسوا  في الرمل على مسافة خمسين مترا من الماء.. وعندما يشرعون بقطع تلك المسافة، التي تعادل قضاء عشر أو خمسة عشر عاما في شغل الإنتصاب اليومي عند باعة مرشي طريق حفوز، تتخطفهم جائحات الجو من الطيور المفترسة. فلا ينجح في بلوغ الماء من ضمن ألف صغير سلاحف، غير خمسة منهم أو عشرة. كذلك الأمر بالنسبة للباعة.، من ضمن خمسين يحلمون، ينجح واحد في تحقيق حلمه ويغادر. لكن ليس عبر الإنتصاب اليومي المنتظم، بل عبر وسائط أخرى ليس أغلب الباعة قادرين على توفيرها. فيتساقط أكثرهم فرائسا سهلة لعتو الظروف.

الباعة ينتصبون بشكل يومي في المرشي، باعة الخضر وباعة الحمص المنفخ واللوبيا والتوابل والدجاج الحي المذبوح في المكان والغلال بأنواعها ولعب الأطفال والحلي المزيف ومواد التجميل الرخيصة والملابس المستعملة. هناك تنوع مدهش في المعروضات. لكن تواتر الإنتصاب لم يعد الهدف منه لجل الباعة البحث عن غد أفضل. فالإيراد دوما شحيح. هم بالأحرى يفعلون ذلك في حالة تكرار آلي لوقائع الأمس لأنهم يرون فيه مجرد تحقق مباشر لمعنى وجودهم اليومي المحض. وليس جريا خلف حياة أفضل.  هناك أيضا العنصر النسائي الذي دخل حلبة المرشي في الأعوام الأخيرة، ليس بصفته معينا للرجل في الأعباء اليومية،  بل يشتغل لحساب نفسه وبشكل مستقل تماما عن الرجل، وإن كان يشترك معه في الهم نفسه والغاية إياها: إعالة عائلة شبه معدمة. والوقوف في محل رب عائلة عاجز، هناك في المرشي امرأتان تبيعان الدجاج الحي في نصبتين متقاربتين. وإثنتان آخريتان تبيعان الحلي المزيف. وطبعا نساء كثيرات في أطراف المرشي يبعن الملابس المستعملة والجديدة ذات الجودة المنخفضة في فضاءات مغطاة.. مما يتيح لهن قدرا ملموسا من الراحة عند العرض. عكس بائعتي الدجاج المنتصبتان في العراء في قلب المرشي والزحمة الخانقة محدقة بهما..

 إحدى المرأتين شابة، والأخرى مكتهلة. تبدوان في عملهما على قدر كبير من الإستقلالية. لكن الأمر يختلف عند القيم بعملية الذبح. إذ لا مفر عندها من المناداة على رجل ليقوم بالعملية المحرم القيام بها على النساء. هنا تحضر مفارقة ساخرة بين حفاظ المرأتين على المراسم التقليدية وما يحمله ذلك من ” صيانة ” لخصوصية المرأة واختلافها عن الرجل، فهي لكونها امرأة منزهة عن القيام بعملية بشعة مثل الذبح، لكن حالها ليس منزها عن البؤس الذي تفصح عنه الحالة الزرية التي هي فيها. من المخجل للمرأة قيامها بذبح دجاجة أو أرنب، لكن ليس مخجلا وقوفها في العراء في وضع شبيه بالاستجداء تشحذ لقمة عيشها، بائعتا الدجاج الحي محافظتان في سلوكهما ومظهرهما تماما، بينما واقعهما الحي يقوم بتعرية مستمرة لحقيقتهما الإجتماعية  وتظافر عوامل الحرمان في حياتهما..

 ما الذي أدى لكل هذا الإنسداد في أفق حياة شاغلي المرشي ؟.. رغم النزعة التضامنية السائدة بينهم؟ قد نختصر الأسباب في عرض قصير يلخصه إختناق التجربة وعدم قدرتها على تحقيق امتداد في فضاءات أخرى مشابهة تعين على حمل المشروع برمته نحو مستوى أوسع من التشاركية. الذي يحصل في المرشي ليس تعاونا خلاقا يترقى بمستوى الحياة، بل فردانية تتغطى بنزعة أخلاقية. وتعوزها القدرة – بفعل مكابح من التقاليد والخلفيات النفسية والثقافية للباعة – على التحول لحالة رأسمالية في طور بدائي. التعاون بين أصحاب النصبات يقتصر على تدوير دولاب نصبة كل واحد منهم ولا يتخطى هذا الهدف. لم يفلح المرشي في التحول لكيان موحد تتحكم فيه رؤية واضحة لمآلات شاغليه وأفق المعركة التي تخمد مرة ثم تعود للإحتداد  مع السلطة. هم لا يريدونها تتدخل في شؤونهم. لكنهم أثبتوا أنهم لم يستفيدوا من الزمن الطويل الذي ظلت فيه السلطة بعيدة عنهم. فيدركون عبثية استمرار حياة شبيهة بحياة المتشردين لأغلب الباعة، ويحاولون اقتناص عديد المكاسب الممكنة. مثل افتكاك فضاء مغطى مجهز بمختلف اللوازم، وتحولهم لحالة شبيهة بالكومونة تتمول بمختلف السلع من المنتجين لجميع الباعة المنتصبين في المرشي، محققه قدرا من الوحدة معهم. وتقصي وجود السماسرة الذين تعاظم دورهم في الأعوام الأخيرة، وتجنب البشر الذين يرتادون المرشي لرخص أسعاره، أي تقلبات تحصل عند مراحل جزر الإنتاج. خصوصا بعد أن أوشك أولئك السماسرة على بسط سيطرتهم على مختلف منافذ التزويد بالسلع.

ساكنة طريق حفوز الذي يقع المرشي في قلبه يحمدون الله على وجوده ويعدونه نعمة من السماء.. فهم عندما يذهبون إليه يجدون السعر الملائم والتنوع الذي يبحثون عنه ويملكون حرية تامة في الفرز وانتقاء الصالح من المواد وترك الطالح.. لكن إلى متى تستمر هذه النعمة..؟ عندما لا تحكم استمرارها رؤية ولا تخطيط.. فتسيطر العشوائية على كل شيء، ويكون التنظم القائم مجرد تكرار آلي لما تعودوه ممارسة يومية، وعندما لا يكون لأحد من القائمين عن المرشي أي فكرة عما يحمله لهم الغد. الإجابة تكون دون ريب: “الله اعلم” .. لتغطي  على سياق انتظار مبهم لغد مليء بالهواجس.

اكثر قراءة

  • التنظّم الفلّاحي: وعي الضرورة

    عندما شق المد الثوري عباب البلاد التونسية، أواخر سنة 2010 وأوائل ما بعدها، أرسى في شوارع العاصمة، أين انقضت أولى…

    اقتصاد سياسي

  • ملف: الأرض.. أمّ المعارك

    "إما الأرض كل الأرض أو النار جيلا بعد جيل" ها نحن نشهد، جيلا بعد جيل، ملاحم تحرير الأرض، منذ أن…

    اقتصاد سياسي

  • خضوع قديم لاستعمار متجدد الهيدروجين الأخضر في تونس: آلية جديدة للنهب والاستغلال

    أصدرت  وزارة الصناعة والطاقة والمناجم بالشراكة مع الوكالة الألمانية للتعاون الفني خلال الأشهر الفارطة وثائق متعلقة بالإستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر…

    اقتصاد سياسي

  • ملف: الهيدروجين الأخضر: طاقات بديلة أم استعمار متجدد؟

    يمثل الهيدروجين الأخضر أحد البدائل الممكنة من أجل إنتاج طاقات بديلة عن الطاقات المنتجة من موادّ أحفورية مثل الغاز والبترول…

    اقتصاد سياسي