جيل الألفية: البحث عن ضوء آخر النفق

بقلم عيادي العامري
باحث في قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، ومشارك في تأسيس المقهى الفلسفي، ناشط اجتماعي وسياسي.



“وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق، تدعونا لكي ننسى ألما عشناه”

كلمات من أغنية عهد الأصدقاء

” نردّ على من يقول إن في آخر النفق نورا، نعم، إنه قطار قادم نحونا”

سلافوي زيزاك

داخل «أسوار» الفردوس الضائع، هناك، في العشرين سنة الأخيرة من الألفية الثانية، وُلد هؤلاء الذين سنكتب عنهم، إنهم “جيل الألفية الثالثة”، كما يتم توصيفه بشكل من الاتفاق العلمي، هذا الجيل الذي ولد بين سنتي 1981 و1996

لكلّ جيل خصائصه وتجربته ومعايشته التي تكون مشتركة والتي تشكل نسيجه الأخلاقي والمعرفي والنفسي، وهذا ما يجعله يتخذ شكلا معينا مختلفًا عن الأجيال التي تكبره، والأجيال التي تصغره. هذه المقدمة النظرية، التي تبدو بسيطة واضحة المعالم، هي التي تمنح هؤلاء الذين يشتركون في فترة الولادة التي حددناها صفات وسمات مشتركة نفسيا وثقافيا واقتصاديًا وسياسيا، وهذا ما سنحاول تسليط الأضواء عليه في هذا المقال، مع التركيز على هذا الجيل داخل السياق الثقافي التونسي والعربي.

1- ازدواجية جغرافية وفردوس مفقود

لجيل الألفية جغرافيتان مختلفتان تمامًا، إحداهما في الطفولة، عندما كان العالم عبارة عن الفضاء الجغرافي المرئي والواقعي، أمّا الجغرافيا الأخرى كانت مرتبطة بالأساس بتلك الثورة التقنية التي تزامنت مع  بدايات مرحلة المراهقة لهذا الجيل، والتي تطورت بنسق تصاعدي (الهواتف، الهوائيات، الانترنت الخ).

إن الجغرافيا الواقعية التي وُلد هذا الجيل داخلها كانت جغرافيا بسيطة وآمنة، وهذا ما جعل من ’جيل الألفية‘ يحظى بطفولة هادئة ومتوازنة. ولهذا الهدوء والتوازن تأثيرات كبيرة تتعلق بكونه الجيل الأخير الذي يعرف محيطه بشكل جيّد، وهو الذي ترعرع داخل المحيط المحلي الذي يقطنه بشكل مباشر ودون وسائط تسلبه هذا الاندماج.

إذ تشهد الساحات العامة وبيوت الجيران وأسطح المنازل والشوارع على طفولة هذا الجيل، الذي غنم من طفولته كلّ إمكانيات العلاقات الاجتماعية المفعمة بالتجربة الحسية والحركية مع أقرانه، في الشارع والقرية والحي.

صورة لأطفال يلعبون كرة القدم في الشوارع (ظاهرة كانت منتشرة بكثافة في طفولة جيل الألفية الثالثة)

هذا الامتلاء الذي تشكله الطفولة الهادئة والمتوازنة لهذا الجيل يأخذ منحى أكثر عمقًا وارتباطا بالمشترك الذي يتميّز به  فيما يتعلق بانفتاحه في بداية الألفية الثالثة على مرجعيات (كرتونية) خلقت حسا فنيا وأخلاقيا موحَّدا، في تونس وفي الوطن العربي. وقد خلّد من خلاله نوعا من الذاكرة المشتركة.

شكلت قناة ’سبيستون’ والقنوات الكرتونية المشابهة لها جزءًا أصيلًا  في نحت طفولة هذا الجيل، وذلك عبر عروض من إنتاج عربي و«دبلجة» الرسوم المتحركة اليابانية والأوربية وتحويلها إلي غذاء ثقافي نشأت داخله عقول وقلوب هذا الجيل. ليغادر هذا الجيل بشكل تدريجي جغرافيا الواقع ناحية جغرافيا جديدة ذات طابع عربي في حدودها اللغوية، وذات طابع هجين في حدودها الثقافية.
ستزداد  هذه الازدواجية الجغرافيّة  عمقًا ووضوحًا مع  التحولات التقنية والرقمية التي شهدت طفرة مع بداية الألفية الثالثة. هناك نجد أنّ الهواتف الجوالة بدأت تشكل (فردانية) ذلك المراهق(ة) في ذلك الوقت، كما تَعزّز هذا الجانب الفردي والخاص بالأفراد في الجغرافيا الرقمية الجديدة التي نشأت مع الصعود التاريخي للمنصّات الرقمية، وخاصة تطبيق ‘فيسبوك’ في ذلك الوقت. اذ حقّق الأخير نسب نمو غير مسبوقة بفضل شغف هذا الجيل وفضوله الذي دفعه ليبدأ اكتشاف جغرافيا أخرى مختلفة عن الجغرافيا التي عاش فيها طفولته.

صورة أيقونية لإحدى شخصيات قناة ’سبيستون’

كانت هذه الجغرافيا الرقمية رحلة جديدة لهذا الجيل، لكنها وإن بدأت بدافع الفضول إلّا أنها نحتت فيه شكلا جديدا من الاغتراب الذي فصله عن محيطه من ناحية، فيما  عمّق شعوره بالوحدة والانعزال من ناحية أخرى. فالفضاء الرقمي له قيم مختلفة جذريا عن قيم جغرافيا الواقع، هناك حيث يبدو العالم شاسعا بشكل لا يُصَدَّق، ويبدو الفرد فيه ذرة رمل في صحراء لامتناهية، هناك حيث تنشأ الروابط وتنتهي بسرعة مخيفة.

إضافة لهذا الشعور بالعزلة والوحدة والهشاشة العلائقية، تُنمّي جغرافيا التقنية الميل إلي المقارنة مع الآخر (الغربي بالخصوص) ويخلق هذا الشعور بالمقارنة في نمط العيش والامتيازات  شعورا حادًا ودائما بعدم الرضا وعدم قبول الواقع. هناك وُلدت تشوهات أساسية داخل هذا الجيل، اذ أحدث هذاا الازدواج الجغرافي  شعورا بالانفصال بين طفولة هادئة ومتوازنة وبين مراهقة وشباب مضطرب ومليء بالوحدة والتفكك العلائقي والاغتراب الاجتماعي والانتهاك الاقتصادي.

جيل الصدمات، من سؤال الهوية إلى سؤال السياسة

ترتسم  في أذهان هذا الجيل، خاصة  العربي منه والذي نشأ داخل إطار دولة الاستقلال الحديثة ومشروعها الهجين فيما يخص القيم واللغة وغيرها من المسائل، عديد الصور التي تشكّل أساسا في طرح علاقتنا مع الآخر.

من ضمن هذه الصور تلك المتعلقة بعلاقتنا مع الغرب ورمز الهيمنة العالمية (الولايات المتحدة الأمريكية بالخصوص)، وقد  تمثلت في صورتين رئيسيتين.

أولاهما: صورة انهيار برج التجارة العالمية (11سبتمبر 2001)، في ذلك اليوم المحفور في ذاكرة جيل الألفية. اذ هناك شاهدوا لأول مرة طبيعة العلاقة العدائية بين ثقافتين.  لم تطرح صور 11 سبتمبر سؤال العلاقة مع الآخر فحسب ، بل طرحت أيضا على هذا الجيل سؤالا يخصّ هويته. فبين شعور الفخر بالانتماء لحقائقه المطلقة التي ترعرع داخلها والتي ترفض عنجهية المهيمن، وبين شعور ما بالذنب أن ننتمي لهوية عربية إسلامية صارت مصدرا للإرهاب، وتهديدا لصاحبها قبل أن تكون للآخر، صارت ملامح العربي، وأسماؤه، كافية لوضعه على لائحة المشتبه بهم.

صورة للحظات انهيار برج التجارة العالمي (11 سبتمبر 2001)

تعزز سؤال هذا الجيل عن الهوية في صور أخرى، اخترنا منها تلك الصورة الأيقونية التي لن تمحى من عقول هذا الجيل، وهي صورة ذلك الأب الذي يخبئ ابنه من نيران آلة الإجرام الصهيونية. ينتهي ذلك المشهد بمقتل الابن (الشهيد محمد الدرّة في 30 سبتمبر 2000) وهو بين أحضان أبيه، ليرسخ شعورا عميقا لدى هذا  الجيل العربي بالأسى وبالإحباط، لكنّ هذا الإحباط سيكون في موقع تكذيب في مناسبات لاحقة  مع كلّ ردّ فعل تنجزه المقاومة في فلسطين أوفي لبنان أيضا، خاصة خلال “حرب تمّوز” في   2006.

مجموعة صور للحظات الأخيرة للشهيد محمد الدرة في أحضان والده. (30 سبتمبر 2000)

يوجد العديد من الصور التي خلقت أسئلة الهوية في أذهان هذا الجيل العربي، وهذه الأسئلة تحوّلت إلى  سيرورات تاريخية صغيرة وجدت جزءًا من إجابتها في الانتفاضات العربية. اذ أعادت الأخيرة  صياغة السؤال لهذا الجيل في شكل وعي تاريخي بمطالبه التي حولت الإحباط إلى  شعور حاد بإمكانية الخروج من حالة العطالة التاريخية التي تعيشها دولنا.

أزمة الجيل من أزمة الدولة

تحدّدت أهداف هذا الجيل في طفولته داخل فضاء سياسي كان قد بلغ شيخوخته مع نهاية طفولة هذا الجيل. لقد كانت بداية الألفية الثالثة إعلانًا سياسيا واجتماعيًا على نهاية صلوحية عقل سياسي موروث من دولة الاستقلال.

تكمن المفارقة هنا في أن جيل الألفية الثالثة كان قد حدّد مطامحه العملية بشكل « رومنسي » من خلال جيل الآباء المؤسسين، الذي نشأ وترعرعت أحلامه في خضم بناء مشروع الدولة الوطنية. حينها كانت أحلام ذلك الجيل متطابقة مع حاجيات الدولة التي تسعى لبناء مؤسساتها الصحية والتعليمية والقضائية والإدارية والخ.

بلغت الدورة اكتمالها مع بداية الألفية الثالثة، قبل أن تعلن هذه الدول نهاية مشروعها وتحوُّلها من دول تقدّم الرعاية الاجتماعية، وتوفر الحد الأدنى للحياة الكريمة وتحرص على دور المصعد الاجتماعي في تحقيق نوع من العدالة، إلى دولة حامية ترتكز بالأساس على أجهزة قمعية (بوليس-جيش-سجون) وعلى وظيفة وحيدة هي جمع الجباية.

تعزّز هذا التحول في وظيفة الدولة بفعل جملة من التحولات، منها ما هو متعلق بسياقات العولمة والتبعية الاقتصادية ومنها ما هو متعلق بطبيعة السلطة الاستبدادية المتفسخة التي أنشأت ‘كرتالات’ عائلية حاكمة في معظم الدول العربية، وعلى رأسها الدولة التونسية.

إن أزمة هذا الجيل في الازدواجية التي يعيشها بين أحلام الطفولة (الوظائف التي تمثل حلم هذا الجيل : طبيب، أستاذ، معلم، محامي الخ)، وبين ما يتطلبّه الواقع اليوم من أشكال جديدة للعمل ولتحقيق المكانة الاجتماعية. هذه الازدواجية لم تكن في حقيقتها سوى تعبيرًا عن أزمة في المجال السياسي الحيوي، نعني بذلك فضاء الدولة.

عبّرت الانتفاضات العربية التي حدثت مع سنوات شباب هذا الجيل ( بين 15 و30 سنة عمر هذا الجيل حينئذ) عن رغبة في حلّ التناقض الذي يفصل بين رغباته  و”فنتازماته” (تهويماته)، وبين واقع هذه الدول العربية التي فشلت في تقديم إجابات واضحة المعالم، فتحولت إلى ثكنات عسكرية وإلى  مجرّد حدائق خلفية للمراكز الامبريالية.


صورة لأحد الشباب العربي الثائر في مواجهة الشرطة وهو يرفع أحد الشعارات

جيل لا يملك سوى الشعور بالحنين

لهذا الجيل سمة قد يشاطرها مع غيره من الأجيال، لكنه يبالغ في إظهارها بشكل مثير للانتباه، فهو الجيل الذي ما إن يفقد إيمانه بما يفعله في حاضره حتى يعود سريعًا لرحم الطفولة. تظهر هذه العودة بأشكال متعدّدة، ولعلّ أهمها، ولعه الشديد بأغاني الطفولة التي يحفظها عن ظهر قلب.

يمثّل هذا الحنين للطفولة جزءًا من ردّ فعل هذا الجيل على “ساديّة” الحاضر الذي يعايشه، فهو جيل لم يحقق اندماجا جيدًا بين طفولته وشبابه. كذلك لم يستطيع أن يحقق الاندماج مع التغيرات التقنية والتكنولوجيا الحاصلة، فظلّ عالقًا ما بين عالمين.

إن هذا الموقع بين عالمين منفصلين لن يجد حله إلا في أشكال من الهروب. وتتجلّى هذه الأشكال، التي تحقق هذا الانفلات من الإنهاك والانتهاك الذي يشعر به هذا الجيل،  في المستويات العالية من استهلاك المواد المخدرة والكحولية ومضادات الاكتئاب، وفي الرغبة الشديدة التي تميّز هذا الجيل  في الهرب  بعيدًا في الجغرافيا وفي التاريخ بأشكال فنية وأخرى ذات منحى تدميري.

إن الهروب الذي يسعى إليه هذا الجيل، وبأشكال مختلفة، ليس سوى تعبيرًا منه عن حيرة عميقة وشعور حاد بالاغتراب تجاه الانفصال بين واقعيْن. وقد عبّرت عن ذلك  إحدى أغاني الطفولة التي تقول : « في عالم غريب وقعنا، في عالم الأرقام ضعنا، كيف الخروج، كيف الخروج، من أين الطريق؟ ».فشَلُ هذا الخروج سواءٌ  في شكله الجماعي (الانتفاضات)، أو  في شكله الفردي (الهجرة وغيرها من أشكال الخلاص الفردي) يجعل من المفارقة سمة هذا العصر  بالنسبة لهذا الجيل المنبوذ سياسيا ونفسيا. فهل يكون هذا الجيل مجرد تضحية تاريخية في سبيل المرور من عالم قديم إلى  عالم جديد شجاع، على حدّ تعبير عنوان رواية ديستوبية للروائي الانجليزي آلدس هاسكلي؟ أم أنّ ثمّة لهذا الجيل الذي يشارف على نهاية “قوته الحيوية/سنوات الشباب” ما لم يقله بعد.


تصميم صورة المقال: تسنيم الولهازي

اكثر قراءة

  • رأي | المشاريع الخاصة بين لابس الجزمة والحافي الباحث عن حذاء ولابس حذاء الباحث عن جورب

    ينبغي أن نكون دائما على حذر مما يتم الترويج له من مقولات تتعلق بمقومات النهوض الإجتماعي،  ومن الواضح والأكيد أن…

    ثقافة وفنون

  • العمارة وبيت الصفيح

    لم يكن في الأمر أي خطأ، ولا كان في تلك الحركة المشهودة تعديا على أحد. فقط الجيران البلداء لم يكونوا…

    ثقافة وفنون

  • من غزّة المكلومة: حيدر عيد يغنّي لسماح ادريس في ذكرى رحيله

    تقديم من هيئة تحرير إنحياز: رغم ما يحيط به من قصف وقتل ودمار ودماء ودموع، لم ينس المناضل والفنّان والمثقف…

    ثقافة وفنون

  • كرة القدم: لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء

    كرة القدم: لعبة الفقراء التي سرقها الأغنياء ما الذي يدعو الحزين إلى الغناء؟ وما الذي يأتي بشاعر مثلي إلى احتفال…

    ثقافة وفنون