بقلم غسّان بن خليفة،
تُعدُّ قضيّة ما يُعرف بـ”هنشير ستيل” بجمنة مثالاً آخرًا على الأسئلة الصعبة التي نجحت انتفاضة 17 ديسمبر في طرحها، لكن دون أن تستطيع الإجابة عليها. فهنا أيضًا يتعلّق الأمر بصراع على الأرض بين داود وجالوت. صراعٌ بين مستغلّين خواص كبار تدعمهم الدولة بقوانينها وسلطاتها المحلّية، ومواطنين يرون أنّهم أولى باستغلال “أرض أجدادهم” والاستفادة، ومدينتهم، من مداخيلها. هو إذًا نزاع على الأرض يعيد طرح السؤال “الايديولوجي”، الذي كان يُفترض أن تحسمه “الثورة”، لو نجحت: أيّهما أولى؟ الصالح العامّ أم الربح الخاصّ؟
تذكير بالوقائع
يوم 12 جانفي 2011، في عزّ الانتفاضة الشعبيّة ضدّ نظام بن علي ، توجّه العشرات من سكّان مدينة جمنة إلى ما يطلقون عليه ’هنشير ستيل’ (نسبة إلى الشركة التونسيّة لصناعة الحليب المعروفة اختصارًا بـ’ستيل’) وسيطروا عليه، ليضعوا بذلك حدًا لـ “المظلمة التاريخيّة” بحقّهم.
فإلى حدّ ذلك التاريخ، كانت الدولة تُسوّغ الهنشير (كلمة مجهولة الأصل وتعني الضيعة الشاسعة)، الواقع على أطراف مدينتهم، على وجه الكراء إلى مستغلّيْن اثنيْن. نجح أبناء المدينة بسرعة في استعادة “أرض الأجداد” التي طالما حلموا باسترجاعها. استقدم المتسوّغان، اللذان يتّهمهما أبناء المدينة بالفساد وبالاستفادة من محاباة السلطة السابقة، الجيش من ثكنة ڨبلّي ليعيد لهما “أرضهما”. إلاّ أنّ القيادات العسكريّة خيّرت عدم مواجهة المئات من أبناء المدينة الذين اعتصموا قبالة الهنشير طيلة ستٍ وتسعين يومًا دعمًا لقرار استرجاع الأرض.
وبانسحاب الجيش، وفي ظلّ غياب قوّات الأمن، استقرّ الأمر للجُمنيّين، بقيادة الرابطة المحلّية لحماية الثورة، وشرعوا في استغلال الأرض. ومنذ أربع سنوات تُشرف جمعيّة حماية واحات جمنة – المشكّلة أساسًا من الأعضاء السابقين لرابطة حماية الثورة التي حلّت نفسها إثر انتخابات 2011 – على استغلال الهنشير بشكل تطوّعي، نيابة عن كلّ مواطني المدينة. والأهمّ أنّه خلافًا للماضي، صارت المداخيل توزّع بين أجور العمّال، الذين ارتفع عددهم، وبين تعزيز إنتاجية الأرض ودعم مشاريع تنمويّة لصالح أبناء جمنة. وهو ما يضعنا أمام أوّل تجربة “تأميم شعبي” في تونس: انتقلت فيها سلطة استغلال أرض فلاحيّة من يد رأس المال الخاصّ إلى يد المجتمع المدني، وتحوّلت بفضلها المداخيل من أرباحِ في جيوب حفنة من الأثرياء إلى مشاريع تحسّن حياة عامّة الناس.
جذور القضيّة
تعود مطالبة أبناء جمنة بهنشر ستيل إلى ما قبل دولة الاستقلال. إذ يقول الجمنيون أنّ المستعمر الفرنسي افتكّ أرضهم، كما حصل في باقي جهات البلاد، ومنحها لأحد كبار الفلاحين الفرنسيين. وإثر جلاء المستعمر، حاول أهل المدينة استرجاع الأرض، ودفعوا نصف المبلغ المطلوب منهم (ما يعادل ألف 80 دينار) للوالي الأسبق أحمد بللونة. إلاّ أنّ الدولة اختارت في منتصف الستّينات أن تحوّل أموالهم إلى مساهمات، لم يغنموا منها شيئَا، في مشاريع جهويّة أشرفت عليها، مثل شركة نزل “الواحة” وشركة “سكاست”، التي استغلّت الضيعة، وغيرها. سنة 1975، أجبرت الدولة مجلس الوصاية على أن يفوّت لها في الأرض، ومن ثمّة استغلالها من شركة ’سوداد’ (الاختصار الفرنسي لـ ’شركة التطوير الفلاحي والتمور’)، وهي فرع لشركة ’ستيل’.
إلاّ أنّ المؤسّسة العموميّة أفلست، وقرّرت السلطة سنة 2002، التفويت فيها للخواص على وجه الكراء لمدّة 15 عامًا.
شبهات فساد
وكان المنتفع الأوّل من التفويت مقاول البناء عادل بن عمر بالمبروك وأبناؤه، من مدينة ڨبلّي، الذي اكترى الجزء الأكبر من الضيعة ومساحته 111 هكتار، بمعلوم سنوي يساوي سعر 333 قن و13 كغ من القمح الصلب بالنسبة للخمس سنوات الأولى (ويضاف إليه كلّ خمس سنوات قيمة حوالي 125 قنطار أخرى)؛ ما يعني أنّ معلوم كراء السنة الأولى لم يتجاوز 9734 دينار. أمّا المتسوّغ الثاني فكان الهادي شرف الدين (وهو شقيق الزيتوني شرف الدين، المتفقّد العامّ السابق للحرس الوطني وأحد المتهمّين في قضايا شهداء الثورة) الذي اكترى بنفس التعريفة قطعة الأرض الأصغر ومساحتها 74 هكتارًا.
تُعدّ معاليم الكراء المنخفضة من الحجج التي يقدّمها أبناء المدينة للتدليل على الفساد الذي شاب صفقة الكراء. لكنّ السيّد حسين مقداد المدير الجهوي للشؤون العقاريّة بولاية ڨبلّي، أكّد لـ ’نواة’ أنّ تلك هي المعاليم المعمول بها، والتي تُضبط سنويًا بأمر وزاري. وهو يقرّ بأنّ ربطها بأسعار القمح الصلب، كما هو معمول به في الأراضي الفلاحية بالشمال الغربي، لا يتناسب مع خصوصيّة الجنوب، الذي تنتج أراضيه التمور، ذات الأسعار المختلفة. ويضيف أنّه ممّن يقترحون تغيير هذا المعيار.
وفي كلّ الأحوال، لا يتوقّف مواطنو جمنة كثيرًا أمام “قانونيّة” معلوم الكراء. ويدفعون بعدم مشروعيّة أن يتسوّغ أحدهم أرضًا يمكن لكلّ هكتار فيها أن يتسّع لما يقارب الـ 150 نخلة، وأن تنتج كلّ منها، حسب أعضاء الجمعيّة، ما قد يبلغ قيمته 200 د، وبالتالي إنتاجًا جمليًا يمكن أن يدرّ سنويًا حوالي 3 ملايين دينار.
من الربح الخاصّ إلى الصالح العامّ
لم يكتفِ أبناء جمنة بالتنظير. إذ نجحوا منذ استرجاعهم الضيعة في الترفيع من انتاجيّتها. بل وضاعفوا الأرباح السنويّة، التي كانت بمعدّل 450 ألف دينار سنويًا، حسبما أفادنا به السيّد محسن المزغنّي، أحد مساعدي المتسوّغ السابق رضا بن عمر بشركته للمقاولات، لتصل إلى 1800 ألف دينار بالنسبة لموسم سنة 2014. وذلك حسب ما ورد في تقرير مدقّق الحسابات الخارجي الذي تكلّفه جمعيّة الدفاع عن واحات جمنة سنويًا بمراقبة تصرّفها المالي في الضيعة.
إلّا أنّه، وعلى غير المعتاد، لا يستفيد مستغلّو الضيعة الجُدُد من مداخيلها. بل يقول أعضاء الهيئة المديرة للجمعيّة، المشرفة على استغلال الضيعة كما لو كانت مجلس إدارة شركة، أنّهم متطوّعون ولا يتقاضون مقابلاً عن عملهم. أمّا عن أوجه صرف المال، فإلى جانب ما يتطلبّه العمل من تجهيزات وفواتير مياه الريّ وأجور عمّال وغيرها، فإنّ الجمعيّة تصرف جزءًا هامًا منه في تمويل مشاريع تنمويّة لصالح أبناء المدينة. ومن أهمّها، كما عدّدها السيّد علي حمزة أمين مال الجمعيّة: بناء سوق مُسقّف وسط المدينة؛ بناء وحدات صحّية وتهيئة جزء من الساحة في المدرسة الابتدائيّة الكبرى بجمنة؛ بناء قاعة مطالعة وقاعة للأساتذة في مدرسة النجاح الابتدائيّة؛ إنجاز ملعب حيّ؛ دعم للمساجد وللمدرسة القرآنية، دعم مالي لمركز المعاقين المتخلّفين ذهنيًا؛ دعم المهرجان الثقافي والاعتناء بمقبرة المدينة. وقد تأكّد فريق موقع ’نواة’ من صحّة هذه المعلومات عبر زيارة عددٍ من هذه المشاريع والحديث إلى بعض شهود العيان. يُضاف إلى ذلك، دعم عدد من المشاريع الأخرى بالجهة، خارج جمنة، منها: جمعيّة الطفل المتوحّد بڨبلّي، جمعيّة مرضى السرطان بڨبلّي والمدرسة الابتدائيّة بڨفصة وغيرها من الأمثلة التي ذكرها لنا أمين مال الجمعيّة.
أمر ثانٍ يُحسب لأعضاء الجمعيّة: نجاحهم في الترفيع من عدد العاملين بالضيعة. فمن 20 عاملاً قارًا و60 موسميًا بالجزء الأكبر للضيعة (حسب ما أفادنا به محسن المزغنّي) سنة 2010، صارت الأخيرة، بجزئيها، تشغّل حوال 130 عاملاً أغلبهم قارّين (يتوزّعون بين إداريين وعمّال فلاحيين إلى جانب 3 نُظّار). كذلك، رفّع أعضاء الجمعيّة من أجور العمّال. فمن 10 دنانير سنة 2011، ارتفع الأجر اليومي للعامل إلى 13.5 د.
كذلك يشدّد أعضاء الجمعيّة على أنّهم يعملون على إحياء الأرض واستصلاحها، على عكس المتسوّغ السابق. فالأخير ” لم يكن يهتمّ سوى بالنخلة والماء، أمّا بقيّة الأعمال الضرورية من مداواة واقتلاع للأعشاب الطفيليّة فلا يعطيها حقّها”، كما يؤكّد علي، وهو أحد العمّال القدامى الذين كانوا يشتغلون بالضيعة قبل “استرجاعها”.
يفنّد رضا بن عامر، المتسوّغ السابق للضيعة، الاتّهام الموجّه إليه بإهمالها. إذ أكّد، في اتصال هاتفي مع ’نواة’ (وقد حاولنا أن نسجّل معه مقابلة مصورة لكنّه قال أنّ أوقاته لا تسمح)، أنّه كان ملتزمًا بتنفيذ ما ورد في الدارسة التي قدّمها لوكالة التنمية الفلاحيّة، ضمن ملفّ طلب تسوّغ الضيعة. بل وأضاف أنّ الأخيرة كانت تعتبر ضيعته “نموذجيّة”. إلاّ أنّنا لم نستطع التأكّد من صحّة أقواله رغم اتّصالنا بالمندوب الجهوي للتنمية الفلاحية بولاية ڨبلّي السيّد فائز مسلم. إذ نفى المسؤول إطّلاعه على تقارير المراقبة السنويّة التي تشرف عليها لجنة وطنيّة، تتكوّن من والي الجهة وممثّلين عن وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية ووكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية. وقد أوضح لنا السيّد مسلم أنّ “وكالة النهوض” هي المسؤولة الأولى عن مراقبة المستثمرين الفلاحيين لكونها من تسند إليهم منح الدعم لما ينجزونه من أشغال لتطوير ضيعاتهم. إلاّ أنّنا لم نستطع الحصول على أيّ معلومة مفيدة تُذكر عند اتّصالنا بالسيّد الهادي بن علي، المسؤول عن الوكالة بالولاية، بما في ذلك حول معايير إسناد المشاريع التي سألناه عنها. إذ تحدّث إلينا، كما السيّد مسلم، بتحفّظ شديد، وتعلّل بأنّه عُيّن في منصبة حديثًا وبأنّ القرار يُتّخذ على مستوى مركزي بالعاصمة. وحول سؤالنا عن مدى التزام المتسوّغ السابق بما رسمه من أهداف في الدراسة التي قدّمها، لم يوفِ السيّد بن علي بوعده معاودة الاتصال بـ ’نواة’ لتقديم المعلومات المطلوبة.
العوائق القانونيّة
يعتبر رضا بن عامر أنّ أعضاء جمعيّة الدفاع عن واحات جمنة هم مجرّد “عصابة” من اللصوص، يقودهم رئيسها الطاهر الطاهري (أستاذ متقاعد ومناضل حقوقي يساري)، وقد سبق له أن رفع ضدّه قضيّة، رفضت محكمة ڨبلّي النظر فيها. وما يزال المتسوّغ السابق متمسّكًا باسترجاع الأرض أو بأن تعوّضه الدولة عنها، ورفع في الغرض قضيّة ثانية ضدّ وزارة الشؤون العقاريّة، التي سوّغت له الأرض في عهد الوزير الأسبق رضا ڨريرة. الاّ أنّ المحكمة ظلّت تؤجّل البتّ فيها المرّة تلو الأخرى. أمّا أعضاء الجمعيّة (وأغلبهم ناشطون سياسيون من خلفيّات متنوّعة وأساتذة ومعلمّون من أبناء المدينة) فهم يبدون واثقين من أنّهم سينتصرون “بالقانون” بعد أن انتصروا على الميدان، كما أكّد على ذلك طارق الرحموني، المسؤول الإداري بهيئة الجمعيّة.
بيْدَ أنّ الجمعيّة تواجه وضعيّة قانونيّة معقّدة تحول دون حسمها المعركة لصالحها بعد. فالعقد المُبرم بين المتسوّغيْن السابقيْن والدولة مازال نافذًا حتى مارس 2017. واذا استثنينا محاولات الوالي السابق إقناع المسيطرين على الأرض بتقاسم استغلالها مع المتسوّغيْن السابقيْن – وهو ما رفضته الجمعية – فإنّه يمكن استنتاج غياب الإرادة السياسية لحلّ هذا الملفّ. إذ يتحدّث الطاهر الطاهري بمرارة عن لقاءاته بوزراء أملاك الدولة المتعاقبين منذ 14 جانفي، وبزعماء سياسيين وعدوه بـ”إرجاع الأرض بقرار سياسي مثلما افتّكت بقرار سياسي”، منهم المنصف المرزوقي وحمّه الهمّامي. إذ أنّ جميعهم أكّدوا له مشروعية مطالب أبناء المدينة ووعدوا بالمساعدة لكنّهم لم يفعلوا شيئًا.
هذه الوضعيّة منعت الجمعيّة من استغلال الضيعة على أحسن وجه. وأبرز مثال على ذلك عدم تمكّنها من صرف التغطية الاجتماعيّة لعمّالها، بحكم عدم تمتّعها بالصفة القانونيّة التي يحصرها القانون في الشركات. لكن أعضاء الجمعيّة تجاوزا نسبيًا هذا الإشكال عبر إضافة مبلغ 1.9 د إلى الأجرة اليوميّة للعمّال، على أن يقوم هؤلاء بصرفه مباشرة في حسابهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. كما فشلت محاولة الجمعيّة تكوين شركة للتصرّف في الهنشير، لاصطدامها برفض سكّان المدينة. وذلك رغم التعهّد الكتابي للمسيّرين بعدم تمتّعهم، وأبناؤهم، بأرباح الضيعة.
لا بدّ كذلك من الإشارة إلى المفارقة الصارخة التي تطلّ برأسها في قضيّة الحال. فرغم عدم الاعتراف القانوني للدولة وسلطاتها المحلّية باستغلال الجمعيّة للضيعة، الاّ أنّها لا تمانع في أن تموِّل الأخيرة مشاريع ترميم أو بناء تقام تحت اشرافها، كما هو الحال في حظائر البناء بالمدارس أو المهرجان الثقافي أو سوق المدينة وغيرها. بل ربّما لا نبالغ إذا قلنا أنّ الجمعيّة صارت تتمتّع، بفضل قدراتها الماليّة الكبيرة، بثقل سياسي وازن في المدينة. وهو ما ينضاف إلى ما لمسناه من احترام ودعم واسعيْن من قبل العديد من الجُمنيّين، وقد تجلّيا بوضوح مرّات عدّة، كان آخرها السنة الفارطة عند مثول رئيس الجمعيّة وعضوين من هيئتها أمام محكمة قبلّي، بعد أن رفع ضدّهم أحد المتسوّغين السابقين قضيّة اتّهمهم فيها بـ “الاستيلاء على ملك الغير”. ولا شكّ في أنّ السببيْن المذكورين سلفًا يفسّران إحجام السلطة حتّى اليوم عن تنفيذ ما تراه “شرعيًا” بالقوّة، أي إرجاع الضيعة الى المتسوّغين السابقين.
مخارج تشريعيّة ممكنة
بدأ الواقع الجديد الذي فرضته الجمعيّة، بنجاحها في الاحتفاظ بالضيعة طيلة الأربع السنوات الماضية، يدفع حتّى بعض المسؤولين المحلّيين إلى تبنّي وجهات نظر غير “أرثودوكسيّة”. فرغم تحفّظه، لاحظنا في حديثنا مع السيّد حسين مقداد، المدير الجهوي للشؤون العقاريّة، تقبّلاً ضمنيًا لفكرة إمكانيّة فسخ عقد الكراء مع المتسوّغين السابقين. إذ ينصّ العقد المبرم معهما في فصله عدد 15 على إمكانية أن تسترجع الدولة الأرض قبل حلول الأجل “لإنجاز مشروع مصرّح به ذو مصلحة عموميّة”. كذلك لاحظنا في حديثنا مع السيّد فائز مسلم، المندوب الجهوي للتنمية الفلاحيّة انفتاحًا على فكرة أن يتمّ استغلال الضيعة في شكل تعاضديّة ينشئها أبناء المدينة.
لكن تجدُر الملاحظة أنّ ما تقوم به جمعية الدفاع عن واحات جمنة، يذكّر إلى حدّ كبير بمفهوم“الشركة الاجتماعيّة” المنتشر في البلدان الأنغلوساكسونية وفي ايطاليا وأمريكا اللاتينيّة. وهو يعني باختصار شركات تخضع لقوانين السوق الرأسماليّة، لكن تتمثّل غاية وجودها في خدمة المجتمع المحلّي، عبر تمويل مشاريع تُعنى بشكل أولويّ بالفئات الأكثر احتياجًا وتهميشًا. لكن رغم نصّ الدستور في الفصل 12 على مبادئ “العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتمييز الايجابي”، لا نجد بعد في التشريع التونسي قانونًا يشجّع على إنشاء هذا النوع من الشركات، أو على الأقّل يسهّل الأمر على المبادرين إلى بعثها.
أسئلة ضروريّة
رغم أهمّية ما أنجزته الجمعية، فإنّ الأمور ليست ورديّة وهناك عدد من الملاحظات والأسئلة التي يجدر طرحها:
لا يمكن القول أنّ الأمر يتعلّق بتجربة تسيير جماعي على “الطريقة الاشتراكيّة” التقليديّة. إذ لا يتمتّع العمّال بنفس صلاحيات القرار التي يمتلكها أعضاء الهيئة المدير للجمعيّة، ولا يشاركون بشكل ديمقراطي أو على قدم المساواة معهم في اتّخاذ القرارات التي تخصّ الضيعة. فهم يظلّون أجراء عند هؤلاء، لكن في ظروف عمل أفضل ممّا كانت عليه من قبل. كما أنّ عددًا منهم، خاصّة من قدامى العمّال، يتذمّرون من عدم إمكانية صرف الضمان الاجتماعي بشكل آلي من قبل مؤجّريهم بعد أن تعوّدوا على ذلك.
كذلك، رغم الدعم الواسع للجمعيّة سجّلنا انتقادات من بعض المواطنين الذين حاورناهم بوسط المدينة. إذ تساءل أحدهم عن مدى شفافيّة قرارات تمويل بعض المشاريع التنمويّة، كما انتقد عدم دوريّة الجلسات العامّة المفتوحة التي تعقدها الجمعيّة مع المواطنين لإطلاعهم على أوضاع الهنشير، وكذلك عدم الإعلان عنها بشكل كافٍ. الأمر الذي أجاب عليه الطاهري بقوله أنّ الجمعيّة تقدّم لأبناء المدينة كلّ سنة كشفًا بكلّ مداخليها ومصاريفها، وأنّه يمكن لأيّ كان طلب نسخة من التقرير السنوي الذي يعدّه خبير المحاسبات. وإن أقرّ الطاهري بأنّ الجمعية لا تدعو إلى جلسات مفتوحة إلاّ عندما “تتطلبّ الظروف ذلك”، فانّه أكّد على أنّه يتمّ في كلّ مرّة الإعلان عنها عن طريق سيّارة مجهّزة بمكبّر صوت، تجوب شوارع جمنة؛ وعبر تعليق إعلانات مكتوبة قرب “العيْن”، الواقعة بوسط المدينة، حيث تجري الاجتماعات العامّة.
وفي إجابته عن سؤالنا حول الضمانات التي ستحمي الجمعيّة، والضيعة، من تجاوزات الأفراد المسيّرين لها، وعن حظوظ تواصل آلية “التسيير الجماعي”، قال الطاهري أنّ أهمّ ضمان هو يقظة أبناء المدينة وتواصل التزام أعضاء الجمعيّة بالعمل تطوّعًا دون مقابل. أمّا من الناحية العمليّة فقد أكّد لنا مخاطبنا أنّه وبقيّة أعضاء الهيئة المديرة ينوون في أقرب الآجال التخلّي عن مهامهم وتركها لغيرهم من أبناء المدينة الراغبين في تحمّل المسؤولية. وأضاف أنّهم لا يمانعون في أن يتواصل استغلال الهنشير بأيّ طريقة كانت، ولو حتّى من خارج إطار الجمعيّة : “مثلا، عبر تعاضديّة البركة المملوكة لمواطنين جُمنيّين آخرين”. المهمّ بالنسبة لـ“أفضل يساري غير متحزّب في تونس”، كما وصفه ابن المدينة الكاتب محمّد كشكار، هو “أن لا يضيع حقّ أبناء جمنة مرّة أخرى”.
(نُشر المقال لأوّل مرّة في موقع نواة، بتاريخ 11 جويلية 2015)