ظهرت كلمة السّر في كل ما يتعلق بأسواق العمل كنتاج للمقاربة النيوليبرالية. مقاربة تقدس إلغاء حدود التسّليع وسرعة زوال الحدث والعقد قصير الأجل، وتجريد العمال من حقوقهم الأساسية وجعلهم سلعة في سوق العمل من خلال نزع كلّ حماية قانونية عن روابط العمل، أي” المرونة ” في كل ما يتعلق بالعلاقات الشغلية. وهو أثر مباشر لكل ما أحدثته النيوليبرالية من سياسات على صعيد تفكيك الصناعات وما نتج عنها من تحولات من عمالة قائمة على النمط الصناعي إلى أخرى قائمة على نمط خدماتي، والذي أدّى بدوره إلى إضعاف التنظيمات التقليدية لليد العاملة. فمقاربة الدولة النيوليبرالية لأسواق العمل تعادي بالضرورة كل الأشكال التي من الممكن أن تضع قيودًا على حركة رأس المال. مما يدعونا للتساؤل كيف تبلورت هذه السياسات والتحولات على مستوى العلاقات الشغلية؟
التحولات في السياسات الاجتماعية
تطالب السياسات النيوليبرالية بتقليل كلفة الإنتاج وهو ما يؤدي بالضرورة الى تقليل (تنحيف) العمالة والأجور أو عدم زيادتها من خلال تقليل العمالة الدائمة ومحاولة الإعتماد أكثر ما يمكن على العمالة المؤقتة، وإنهاء أو تقليل ما تحصلت عليه الطبقة العاملة من حقوق ونجاحات في مجال الأنظمة الإجتماعية من خلال تعطيل ودحر آليات حماية الأجراء.
وهو ما يمكن ملاحظته من ارتفاع التوظيف غير الرسمي في العالم، ومن خلق وظائف محفوفة بالمخاطر وسريعة الزوال أنتجا تزايد متفاقم لمستوى اللامساواة الاجتماعية.
بالإضافة إلى ذلك، تمّ نقل كل مسؤولية عن رفاه وسعادة الفرد وإعادتها إليه، مع انسحاب الدولة من الخدمات التي كانت سابقا من أساسيات الليبرالية الملتزمة بتقديم وتأمين للخدمات الاجتماعية كافة، وفي مجالات مثل الرعاية الصّحية والتعليم، فتقلصت شبكة الأمان الاجتماعي لصالح نظام يؤكد على المسؤولية الشخصّية ويعزو الفشل دائما لقصور فردي ذاتي.
في هذا الإطار نشأت هشاشة العمل على مستوى العلاقات الشغليّة، التي تمثل الإطار التنظيمي لعملية استغلال قوة العمل، وما تعكسه من وضعيات اجتماعية غير مستقرة على مستوى العمل والدّخل وما ينتج بالتالي من استحالة تحصيل الحاجات الأساسية للعامل. ووظيفة الإيديولوجية السائدة في هذا المضمار إقناع العامل بأن وضعيته ستتحسن وأن مرونة العمل في صالحه وأن الانتداب الوقتي سيوفر له فرصّة انتداب قارّ في المستقبل، كلّما تحصّل على خبرة ومهارات مهنية عالية، وفي الحقيقة يُحتّم منطق المنافسة التقليص من إمكانية الانتداب المباشر للذين لا يتمتعون بخبرة واسعة لأنها يد عاملة مُكلِفة تقتضي تكوين ونفقات إضافية.
وتجد هشاشة العمل في تونس أساسها في البنية الإنتاجية الهّشة والمتخلفة والتابعة للاحتكارات العالمية وفي اندماج الدولة التونسية في الاقتصاد العالمي اعتمادا على نموذج اقتصادي قائم على جلب الاستثمارات الأجنبية التي تركزت أساسا في قطاع الصناعات المعملية الموجهة للتصّدير وترافقها مع ما اصطلح على تسميته بالإصلاحات الهيكلية الهادفة أساسا إلى ” خصخصة القطاع العام” وإفشال محاولات بناء سياسة اقتصادية وطنية. وتركزت هذه الاستثمارات في الصناعات الاستخراجية، وكذلك بعض فروع الصناعات الخفيفة لرخص اليد العاملة. وهو ما أدّى إلى هشاشة على مستوى تكوين العلاقة الشغلية، وقد تطلّب ذلك تدخل لإحداث تنقيحات في الإطار القانوني المنظّم ليتماهى مع حرية الاستثمار والعلاقات الشغلية المؤقتة.
الإصلاحات القانونية
أدخل تنقيح 1996 انقلاباً خطيراً على مبدأ الانتداب وأسٌسه، إذ المبدأ أن يكون الانتداب على أساس عمل قارّ مستقر والاستثناء أن تكون العلاقات الشغلية مؤقتة إذا توفرت شروطها. لكن تنقيح 1996 سوّى وماثل بين الانتداب القارّ والانتداب لمّدة محددة، أي الانتداب المؤقت، ووسّع نطاقه، من خلال إضافة الفصل 6-2 والفصل 6-4 الذي أدخل تقنية عقود الشغل محددة المدة، وهو ما شرّع للمرونة والانتدابات غير القارة، خاصة في ظل تعدد الحالات المتاحة للمؤجر للانتداب لمدة محددة أو دون توفر حالة من الحالات المذكورة على أساس الاتفاق، على ألا تتجاوز مدة عقد الشغل الأربع سنوات.
وهذا النوع من العقود هو الانعكاس لبنية اقتصادية هشّة، والوجه الآخر للسياسة الاقتصادية الجديدة القائمة على الهشاشة وعدم الاستقرار في العلاقات الشغلية.
وقد قدّم رئيس الجمهورية مشروع قانون يتعلق بتنظيم عقود الشغل ومنع المناولة بتاريخ 15 مارس 2025، والذي يمنع إمكانية إبرام عقود الشغل لمدة محددة من حيث المبدأ إذا كان العمل قارّا وضيقا من الحالات الاستثنائية التي يمكن الالتجاء فيها الي عقود محددة المدة. وهي حالات وردت على سبيل الذكر. وبنظرة أولى، يعتبر هذا القانون ثورة تشريعية وقانونًا حمائيًّا يضمن استقرارا مهنيًّا للعامل. ولكن، وكما أشرنا سابقا، فإن العلاقات المهنية ماهي إلا نتاج للبنية الاقتصادية، لذلك فإن مجرّد تنقيح القوانين، على أهميته، لا يعتبر بمفرده كافيًا للقضاء على هشاشة العمل، فالهشاشة في بنية العلاقات الإنتاجية، والعلاقات الشغلية هي النتيجة وليس العكس. فإلغاء العقود المحددة المدة لا معنى له إذا كانت الوظيفة ذاتها غير قارة، وإذا كانت لا توفر دخلا كافيًا ومستقرًا.
ومن مظاهر هشاشة أو مرونة العمل كذلك العلاقات الشغلية الهشة الناتجة عن برامج التشجيع على التشغيل أو ما يسمي بـ “برامج الإعداد للحياة المهنية”
تتنوع هذه العقود ويرتفع عددها كلما احتدّت المنافسة وارتفعت البطالة، وتنظمها ترسانة من القوانين أحدثُها الأمر الحكومي عدد 542 لسنة 2019 المؤرخ في 28 ماي 2019 والمتعلّق بضبط برامج الصندوق الوطني للتشغيل وشروط وصيغ الانتفاع بها، وهي عبارة عن عقود محددة المدة حددت المدة القصوى للانتفاع بها بإثني عشر شهرا، ويمكن تجديد أو تمديد فترة الانتفاع بصورة استثنائية لمدة أقصاها سنة.
تتمثل هذه العقود في برنامج “عقد الإعداد للحياة المهنية”، برنامج “عقد الكرامة”، برنامج “عقد الخدمة المدنية”، ويستفيد من خلالها أرباب العمل من يد عاملة رخيصة، إذ يتم إعفاؤهم من الضمان الاجتماعي لتتكفل به الدولة تشجيعا لهم على تشغيل طالبي الشغل، إضافة إلى الاستفادة من المساهمة في تغطية تكاليف التكوين، وتترك لهم الحرية في الانتداب أو عدمه إثر نهاية العقد، ولم يشر الأمر إلى الحصول علىأجر، بل أشار فقط إلى منحة شهرية يتكفل الصندوق بجزء منها حسب نوع العقد في حين أن المنتدب سيقوم بكل المهام التي يمكن أن يقوم بها أي عامل عادي، وبذلك يتم تجنيد أعداد هائلة من الطاقات الشبابية في عمل مجاني بواسطة مثل هذه البرامج. ويتمايز برنامج “عقد الإعداد للحياة المهنية” بأنه غير موجه لفئة محددة، فهو يعطي الفرصة لأرباب العمل لاستغلال كل فئات الشباب من حاملي الشهادات العليا أو من ذوي المؤهل التقني السامي، أو شهادة معادلة، أو ذوي المستويات التعليمية أو التكوينية الأخرى. وتعد هذه التقنيات وسيلة فعّالة لجعل الشغل غير قارّ وغير مكلف بالنسبة لأرباب العمل.
ظاهرة عقود الشغل الثلاثية
وتتمثل في تداخل ثلاث أطراف في العلاقة الشغلية، العامل، المؤسسة التي تنتدبه، والمؤسسة التي تستعمله. وأهم نموذج لهذه العلاقة المناولة، سواء كانت مناولة يد عاملة أو مناولة عمل، ورغم تعريف المشرّع لعقد الشغل بأنه عقد ثنائي الطرفين فقد تفاقمت مسألة التشغيل في إطار العقود ثلاثية الأطراف في سوق الشغل في إطار مناولة اليد العاملة وتعتبر هذه العلاقات الثلاثية عملية تحيّل أولا للتهرّب من الأعباء الاجتماعية المترتبة على العلاقة الشغلية وثانيا عدم المساواة بين العمّال في نفس المؤسسة من ناحية الأجر والمنح والامتيازات من ترقيات وترسيم..
ونظرا لأن المشرع التونسي لم ينظّم مناولة اليد العاملة فإن المنهج السليم يتطلّب منّا في مرحلة أولى تمييز مناولة اليد العاملة عن غيرها من المؤسّسات القانونيّة المشابهة لها، لذلك يجب أولا تمييز مناولة اليد العاملة عن مناولة العمل أساسا.
وتختلف شروط تأسيس شركات المناولة من دولة إلى أخرى بحسب التوجّهات الاقتصادية وبحسب العائلات القانونية التي تنتمي إليها والنظم القانونية، فمثلا في النظام الانجلو-سكسوني حيث لم يٌقنن قانون الشغل نلاحظ أنّها معترف بها ولا توجد قيود وشكليّات لممارستها ونجد هذه المرونة مثلا في إنجلترا وأيضا في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى خلاف ذلك في الأنظمة الجرمانية والتي يعتمد قانونها أساسا على التقنين نلاحظ أنّ شركات المناولة مثلا فرنسا لا يمكنها أن تمارس نشاطها إلا بعد الحصول على ترخيص مسبق وهو ما يضفي نوعا من الرقابة عليها من طرف الدولة، أمّا في ألمانيا فقد حدّد المشرّع مجال توظيف اليد العاملة حيث حصر انتدابها للقيام بأعمال وقتية تفرضها حاجة الشركة المستفيدة لزيادة طارئة في حجم العمل.
وعلى المستوى الوطني لم ينظم القانون التونسي مناولة اليد العاملة كما أشرنا، مكتفيا بتنظيم مناولة العمل. ولم يعرّف المشرّع التونسيّ مناولة العمل، ولكنه نظمّ بعض أحكامها بالفصل 28 وما بعده من مجلة الشغل في إطار مؤسّسات اليد العاملة الثانويّة، ونظم الإجارة على الصنع في مجلة الالتزامات والعقود في الفصول 866 وما بعدها، إلى جانب العديد من القوانين الخاصّة المنظّمة لقطاعات معيّنة على غرار الفصل 20 من القانون عدد 33 لسنة 2004 المؤرخ في 19/04/2004 المنظّم للنقل البرّي الذي سمح بإبرام عقود مناولة مع ناقلين خواص لتقديم خدمات النقل العمومي الجماعي وكذلك الأمر المؤرخ في 22 أفريل 1989 المتعلق بتنظيم ميدان الصفقات العمومية والذي خوّل للإدارة إمكانية الالتجاء إلى تقنية المناولة شريطة الحصول على الموافقة المسبّقة وهو ما يسمّيه الفقه “المقاولة من الباطن” أي أن يحيل المقاول الأصلي ( المناول ) بعض الأعمال أو الخدمات المناطة بعهدته إلى مقاول آخر يكون في العادة أكثر تخصّصا .
وقد استخلص الفقهاء من أحكام الفصل 28 من مجلّة الشغل أن” الصيغة القانونية لمؤسّسة اليد العاملة الثانوية تشمل شكلين من عمليّة توفير اليد العاملة وهما:
إسداء الخدمات وذلك ما يُستنتج من خلال عبارة “لتقديم بعض المصالح”
ومناولة العمل وذلك ما يُستنتج من خلال عبارة “لتنفيذ بعض الخدمات”
وفي الحالتين تعهد، بواسطة عقد، المؤسّسة المستفيدة أو المقاول الأصلي إلى مؤسّسة أخرى وهي المقاول الثانوي أو المناول القيام بعمل ما عوض أن تتولاّه بنفسها عن طريق عمّالها، وفي كلتا الحالتين فإنّها لا تضع عمّالا على ذمّة المؤسّسة المستفيدة وإنّما فقط تقدم عملا لفائدة هذه الأخيرة. وذلك سواء بإسداء خدمات معيّنة كعمليّات الصيانة والتنظيف والتصرّف والحراسة، أو بالقيام ببعض الأشغال والأعمال المتعلّقة بإنتاج المؤسّسة مثل صنع منتوج معيّن لفائدة هذه المؤسّسة.
ومن أمثلة مناولة العمل في تونس نجد نشاط الحراسة الذي نظّمه المشرع التونسي بموجب القانون عدد 81 لسنة 2002 المؤرخ في 3/8/2002 المتعلق بممارسة الأنشطة الخصوصية المتعلقة بالمراقبة والحراسة ونقل العملة والمعادن الثمينة والحماية البدنية للأشخاص، وهي كلّها أنشطة تتعلّق بإسداء خدمات متعلقة بأنشطة ثانوية بالنسبة إلى المؤسّسات طالبة الخدمة.
فمؤسّسة الحراسة مثلا تتعهّد بإنجاز مهام الحراسة بالمؤسسة المستفيدة عن طريق عمّال تنتدبهم للغرض. لكن لو فرضنا أنّ مؤسّسة الحراسة تعهّدت بتوفير عمال مختصين في الحراسة للعمل لدى المؤسسة المستفيدة وتباشر هذه الأخيرة بنفسها أعمال الحراسة والإشراف على العمّال ففي هذه الوضعية نكون إزاء مناولة يد عاملة لكون مؤسّسة الحراسة لا تلتزم بإنجاز خدمة الحراسة.
وبذلك يمكن تمييز مناولة العمل عن مناولة اليد العاملة حال أنّ هذه الأخيرة لا تلتزم بإنجاز أيّ عمل وإنّما تنتدب “اليد العاملة” بصفة وقتية وتضعها على ذمّة المؤسّسة أخرى.
بالإضافة إلى عدم تنظيم مناولة العمل التي فرضتها العلاقات الهشة لبنية الإنتاج، نصّ الفصل 280 من مجلّة الشغل في فقرته الأولى على منع التشغيل عن طريق الوساطة، وأضاف بأن انتداب العمّال، سواء كانوا قارّين أو غير قارّين، يكون عن طريق مكاتب التشغيل العمومية أو مباشرة” وهو إجراء يمنع المتاجرة بالعمّال واستعبادهم، وهو وواقعيا ما نجد شركات مناولة اليد العاملة تقوم به. واقتضى الفصل 285 من المجلة ذاتها منع هذه الطريقة في التشغيل عندما نصّ بأنه قد “أُلغيت مكاتب التشغيل الخاصة سواء كانت بأجرة أو بدونه”.
وبالرجوع لمشروع قانون تنقيح مجلة الشغل سابق الذكر في خصوص منع مناولة اليد العاملة، يتّسم المشروع بالسطحية والتسرّع في التعامل مع مسألة عقود الشغل ولا ينبع من إستراتيجية تهدف للتغيير مالم يترافق مع رؤية متكاملة لعلاقات الإنتاج والخيارات الاقتصادية. فرغم إيجابية الإلغاء الصريحة لمناولة اليد العاملة فقد حافظ على تنظيم مناولة العمل دون إحاطتها بما بكفي من الضمانات، خاصة مع ضعف الأجهزة الرقابية للدولة، حيث كان من الأصلح حصر مجالات عملها في أنشطة معينة على سبيل الحصر وإخضاعها لترخيص مسبق لمزاولة نشاطها من وزارة الإشراف، وإخضاعها لرقابة لاحقة.
وبذلك يمكن أن نخلص إلى أن الإشكال الحقيقي في كل ما يتعلق بهشاشة العمل يكمن على مستوي البنية والتوجهات الاقتصادية فمناولة اليد العاملة مثلا كما بيّنا لم تكن مُقنّنة لكنها نتاج للبنية الاقتصادية، وحتّمتها بنية الإنتاج لاستغلال قوة العمل وتحقيق مزيد من الربح بأقل التكاليف. فلا يمكن الحديث عن محاربة هشاشة العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية في ظَل بنية اقتصادية تابعة تخضع لتوصيات البنك الدولي للضغط على كلفة الإنتاج ومنع الانتدابات في الوظيفة العمومية، من خلال التغيير في الإطار التشريعي فحسب، فكل تغيير على مستوي العلاقات الشغلية يمرّ حتما عبر مراجعة الخيارات الاقتصادية وإرساء اقتصاد بتوجيه شعبي.