نفس العدو هنا وهناك: يد تقصف وتغتال ويد توقع اتفاقيات

02/10/2024

جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من عام 1967 حتى عام 2000.

بدها طول نفس…” شيرين أبو عاقلة

اغتالت الهمجية الغربية البيضاء سماحة السيد حسن نصر الله، سيّد المقاومة. اغتالوه ونحن هنا في تونس وفي كلّ مكان لا تُتاح فيه امكانية الصراع المباشر مع العدوّ نشعر بالعجز والوهن لعدم القدرة على الاشتباك. أو هذا ما نظن. لأنّ ما لا يجب أن ننساه هو أنّ الكيان الصهيوني هو كيان غربي استعماري. وما لا يجب أن ننساه كذلك هو أنّ الكيان الصهيوني يحارب ويقصف ويقتل بأسلحة أمريكية وأوروبية وغطاء ديبلوماسي أمريكي وأوروبي وبروباغندا إعلامية تقودها أعتى المحطات في هاته الدول. ما من أحد يشكّ أنّ لحظة انتهاء أهميته الاستراتيجية كقاعدة متقدّمة للغرب في منطقة ذات أهمية كبرى، من ناحية المسالك التجارية والثروات الغازية والبترولية، سيقطع الأوّل دعمه لهذا الكيان ليصبح أمل الحياة لدى الثاني  يقاس بالأشهر، إن لم نقل بالأسابيع.

إلّا أنّ  ذلك لن يحصل في المدى المنظور: ما تزال المنطقة  محوريّة بالنسبة للتجارة العالمية، وما تزال  تزخر بالثروات البترولية والغازية التي مازال الاقتصاد العالمي مرتكِزا عليها. كما أنّ إيران اليوم صارت لاعبا مهمّا في التوازنات السياسية العالمية. وفي المطلق، لم يعوّدنا الغرب على ترك شبر من العالم خارجا عن سيطرته، والكيان الصهيوني يمثل الضمانة المُثلى للسيطرة على المنطقة العربية. وبقطع النظر عن ذلك الموقع الاستراتيجي، فإنّ تواصل الحروب يجعل من الكيان الصهيوني من أكبر محرّكي صناعة الأسلحة. وجود ذلك الكيان مهمّ بالنسبة للامبريالية وأيّ حديث عن “تكلفة” (بالمعنى الاقتصادي) يتكبّدها الغرب بسببه هو من قبيل الأوهام. وهل من داعٍ هنا للتذكير بمقولة بايدن الشهيرة بأنّ الأموال التي تُصرف سنويّا على الكيان هي أحسن استثمار تقوم به الولايات المتحدّة على الإطلاق. إذن لن تتخلّى الامبريالية عن الكيان الصهيوني… لكن! حتى وإن أخبرتنا معادلة رياضية ما بأنّ ذلك سيحصل كحتميّة تاريخية فإنّ شروط تحقّق إنسانيتنا لن تكتمل إن بقينا مكتوفي الأيدي ننتظر لحظة انهيار ذلك الكيان السرطاني، إنسانيّتنا التي تُحتّم علينا أن نتعاطف مع المظلوم ونثور ضدّ الظلم.

وإن كانت منطلقاتنا أخلاقية وعاطفية، وبعض الشعور بالتماهي مع من نرى انتماء مشتركا معهم، فإنّ هذا لا يمنع التحليل الموضوعي المتجرّد من التأثيرات. أن نرى الكيان الصهيوني كقاعدة متقدّمة للامبريالية يحتّم علينا إذن أن نرى الامبريالية ومختلف تمثّلاتها عدوّا. لا فقط عدوّا بالمنطق الماركسي المتداول بأنّها قطب في التناقض  الرئيسي بينها وبين الشعوب، بل كذلك كعدوّ ملموس أكثر، أي عدوّ يهدّد يوميا بالقصف والقتل حياتنا وحياة من نتماهى معهم. يحتّم علينا إذن أن نرى هاذين الشكلين من العداوة كوجهين لعملة واحدة، وجه يمكن أن نرى فيه بايدن أو ترامب أو شولتز أو ماكرون، ووجه آخر نرى فيه أحد النكرات التكنوقراط من مسؤولي وكالات التنمية أو التعاون الألمانية أو الفرنسية أو أحد المسؤولين الإقليميين للبنك العالمي أو صندوق النقد أو أحد السفراء من هاته الدول… وجه يقتلنا بهمجية القنابل والرصاص، ووجه يقتلنا بنار الاتفاقيات والإصلاحات الهادئة… وجه الاستعمار المباشر، ووجه الاستعمار الناعم.

عن هذه الحالة الاستعمارية الناعمة، يقول الباحث في السياسات الأفريقية إيفيريستو بينييرا أنّ الدولة بصفة عامة في أفريقيا هي دولة استعمارية، حيث أنها في الأصل صنيعة الدول الاستعمارية ببُناها الإدارية وحتى منطق اشتغالها. وكلّ دولة أفريقية حاولت يوما ما الخروج عن السياق الاستعماري تعرّضت للتدخل المباشر عبر الحرب أو عبر الاغتيالات والانقلابات (لوممبا في الكونغو، سيلفانوس أوليمبيو في الطوغو، كوامي نكروماه في غانا، طوماس سانكارا في بوركينا فاسو…). يصف  الشاعر تميم البرغوثي، في سياق حديثه عن معاهدة إنشاء الدولة المصرية، هذه الاتفاقية (وغيرها ممّا يُسمّى اتفاقيات استقلال) بأنّها  عبارة عن أوسلو مصر، وأنّ لكلّ دولة عربية أوسلو الخاصّ بها التي بمقتضاها تتحوّل إلى إدارة كولونيالية بالوكالة <<تضمن الارتهان الاقتصادي والتنسيق الأمني>>. ولا نظنّ الرئيس قيس سعيّد يخالفهما الرأي بما أنّه دائما ما يُعلن أنّ سياسته هي حرب تحرير ويدعو الجميع في جهاز الدولة ووسائل الإعلام العمومية إلى الانخراط في هذه الحرب.

المطلوب منّا إذن هو مواجهة حالة الاستعمار هذه ضدّ العدوّ المشترك هنا في تونس وفي فلسطين ولبنان، ولو كان الوجه الذي يعكسه لنا هذا العدوّ في مرآة موقعنا في المنطقة مختلفا هنا وهناك. وإن كان السلاح هناك هو الاشتباك المباشر مع العدوّ بالقذائف والصواريخ والبنادق، فإنّ صراعنا هنا هو مع الاتفاقيات الاستعمارية وإملاءات مؤسسات التمويل الدولية وسياسات الإصلاح الهيكلي المتواصلة. وذلك إن لمصلحتنا المباشرة أو حتى لتحسين شروط الصراع هناك بالضغط هنا على مصالح الامبريالية. إلاّ أنّ الواقع اليوم يقول عكس ذلك، بل إنّنا بتنا نساهم في حلّ  المشاكل التي تواجه الدول الأوروبية: من جهة،  اتفاقيات حول الهجرة تغلق الباب أمام المهاجرين لدخول الأراضي الأوروبية وتحمّل عواقب السياسات التي يفرضونها على دول أفريقيا والجنوب عموما، وعواقب الحروب والانقلابات والانقلابات المضادّة التي يفتعلونها هنا. ومن جهة أخرى  من أجل أن تبقى القارة في حالة وهن وتشظّ ليسهل نهب ثرواتها المنجمية والمعدنية وينعم الرجل الأبيض بالسيارات الكهربائية والهواتف الذكية. من هناك اتفاقيات حول ما يسمّى “الانتقال الأخضر”، وهي اتفاقيات يتمّ من خلالها  تسليم أراضينا للمستثمرين الأجانب لبناء المحطات الشمسية إمّا ليبيعوا لنا الطاقة التي ينتجوها من “شمسنا” أو ليصدّروها شمالا عبر الربط الكهربائي ألماد (ELMED) والمشاريع المشابهة التي ستأتي لاحقا، ونكون بهذا حققنا الانتقال الأخضر الأوروبي ودفعنا ثمنه ديونا وفواتير كهرباء بثمن السوق الأوروبية. كما ستُستغلّ هذه الحقول من اللوحات الشمسية في مشاريع إنتاج الهيدروجين (الذي يسمّى جزافا أخضرا) لننقذ أوروبا من ارتهانها للغاز الروسي… يمكن تعداد الأمثلة إلى ما لا نهاية، وهذه الاتفاقيات تصل حدّ تفاصيل ما يفترض  أنّها  سياسات داخلية   كـالتشغيل ، بل وحتى مجال الحماية المدنية حيث تقرضنا الوكالة الفرنسية للتنمية أموالا نشتري بها تجهيزات فرنسية على الأغلب ونحرّك بذلك عجلتها الاقتصادية. كلّ هذا من أجل معالجة مخلّفات التغيّر المناخي التي نشهدها والتي كانت فرنسا وبلدان الشمال من أكبر المتسبّبين فيه.

نحن إذن أبعد ما يكون عن  أن  نساند القضية الفلسطينية أو أن نساهم حتى في الضغط لتحسين موازين القوى، بل إنّنا  نساهم اليوم في تخفيف الضغط على الإمبريالية في البعض من قضاياها الاستراتيجية مثل الهجرة والطاقة. كما نأخذ القروض من هذه الوكالة أو تلك ونُشغّل خبراء من بلدانهم ليقولوا لنا ما يَصلحُ لبلداننا ونقتني تجهيزاتهم وننشّط اقتصاداتهم. هذا حالنا وحال أغلب الدول العربية التي تمضي هي كذلك الاتفاقية تلو الأخرى مع الامبريالية مثل ليبيا ومصر والمغرب والأردن وغيرها. 

هذا الواقع يؤكّد أكثر أنّنا ما زلنا نتحرّك تحت شروط السياق الاستعماري الناعم ومازلنا محكومين في قراراتنا بأولويات ومصالح الدول الامبريالية. بطبيعة الحال، يبقى للنظام هامش واسع من الحرية في إدارة الشأن المحلّي ضمن  حدود لا يجب أن يتجاوزها. وكأنّ لسان حال الامبريالية: هل تُريدونها ديمقراطية انتخابية أم استبدادا واضح المعالم؟ لكم التقييم حسب موازين القوى وحالة الغضب أو الرضا الشعبية وإقرار ما يجب، لكن الإصلاحات يجب أن تمرّ. هل تريدونها عيشا هنيئا للجميع في كنف المحبّة والمودّة أم  تريدونها تجييشا للفئات الوسطى والهشّة ضد الفئات الأكثر هشاشة: لكم ما تريدون، لكن لا تتركوا قوارب الهاربين تقرَب سواحلنا. تريدون تحالفا بين جهاز الدولة والبرجوازية الكمبرادورية وحالة تداخل بين المال والسياسة والأعمال أم تريدون الإلقاء ببعض هؤلاء في السجن في ما تسمّونه حربا ضد الفساد؟ لكم ما تريدون، لكن لا تنسوا أن تُواصلوا “تحسين مناخ الاستثمار” وإتاحة جميع التسهيلات أمام الاستثمار الأجنبي من سهولة تحويل أرباحه ويد عاملة بخسة الثمن وقانون شغل غير ملزم لمواطنينا المستثمرين لديكم. وبالخصوص، عليكم اليوم أن تنخرطوا في استراتيجيتنا للانتقال الطاقي، فقد تسبّبنا في الكارثة المناخية لكنّنا سنستغل صحراءكم لإنتاج طاقتنا النظيفة ونستغل مياهكم لإيجاد بديل للغاز الروسي. يمكنكم حتى أن تتركوا تلك الشرذمة تنادي وتحتج ضد الكيان وترفع الشعارات المعادية له ولأمريكا، لكنّكم لن تُصدروا قانونا لتجريم التطبيع… لكم استقلالكم لكن هذا الاستقلال له حدود… وإن تمّ التجاوز فهو إعلان حرب علينا…

هذه شروط المعركة والصراع محلّيا مع الامبريالية. لكن الإشكال هو في صعوبة ترجمته على أرض الواقع، فليس عندنا جنود بزي عسكري أوروبي متمركزين في أراضينا كي نقول: “هذا هو العدوّ، وبسبب هذا العدوّ نعيش الأزمة الاقتصادية والهشاشة الاجتماعية”. ولم نصل بعد لتلك المرحلة أين نرى حقولا من اللوحات الشمسية التي تستغل أراضينا وشمسنا لتصدير الكهرباء إلى أوروبا بينما نعيش نحن تواترا لانقطاع الكهرباء (إمّا بسبب غلائه بما أنّنا سنندمج في السوق الأوروبية للكهرباء، أو  لعدم وجود قدرة الإنتاج الكافية التي تلبّي حاجياتنا بعد أن تلبّي حاجياتهم أو بسبب أزمة مالية مُفتعلة مثلما تعيشها شركة الكهرباء الوطنية)… وأين نرى وحدات تحلية المياه تملأ سواحلنا من أجل الهيدروجين “الأخضر” وحنفياتنا شحيحة لأسباب أو لأخرى… هذا دون الحديث عن سياساتنا الزراعية وأيّ غذاء سننتج… هذا التشكّل للبنى الاقتصادية والإنتاجية لم ينضج بعد كي نقول: “هذا هو العدوّ الذي يقتل إخوتنا هناك هو نفسه الذي نجوع ونعطش ونقسّط الكهرباء بسببه”. لكن كما قلنا أعلاه: لن ننتظر.

لكن: ماهو أفق الممكنات في ظل مناخ عامّ إمّا مُخدّر لا يبالي أو دفعه ترذيل السياسة خلال عشرية الانتقال إلى تبنّي سردية الرئيس بأنّ مشاكلنا هي فقط الفساد والمحسوبية والمضاربة والاحتكار وينظر بعين شامتة لكل من زُجّ بهم في السجن ويعتبر ذلك قمّة الانتصارات؟ لنا العودة إلى أقوال من سبقونا في الحلم بعالم أرحب يتم فيه القضاء على الظلم والاستغلال والقتل والتهجير وسبقونا في النضال من أجله… من غرامشي ذو العزيمة المتفائلة، وهو قابع في زنزانته، مرورا بجورج حبش المُحاصر بالأنظمة العميلة والذي حدّد لكلّ فينا موقعه من الصراع ومهامّه، وصولا إلى شيرين أبو عاقلة التي صدحت بالحقيقة حتى آخر نفس. وإن خفي العدوّ فإنّ الحدود التي وضعها بين ما يقبله من شكليّات وما يرفضه من إجراءات تمسّ  بمصالحه واضحة للعيان، وإن توارى عن أنظارنا من رسموا تلك الحدود، فإن حرَسها بيّنون.

مقالات ذات صلة

  • تونسيون يحتفلون بالرد الإيراني على الكيان الصهيوني

    تجمّع العشرات من المواطنين مساء اليوم الثلاثاء، أمام المسرح البلدي بالعاصمة تونس، وذلك احتفالاً «بالضربات الإيرانية على الكيان الصهيوني» ودعماً…

    الأخبار

  • «حبيبي» بيبي!

    بعد تحية وسلام وإجلال وإكرام لمقاومينا الأبطال في مخلتف الساحات الذين يقاومونك وأمثالك من غلاة الإجرام، أشكرك على ما قمت…

    رأي

    B9721670627z.1 20191121194754 000+gcjev8mp0.2 0
  • إلغاء الديون لا يكفي

    تحية من كيتو عاصمة الإكوادور، مركز العالم! أنا هنا مع مجموعة صغيرة من الزملاء من مختلف بلدان الجنوب لورشة عمل…

    اقتصاد سياسي

    Fadhel Site Web
  • حول مفهوم الامبرياليّة اليوم

    بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة الامبرياليّة، "اخترنا لكم" هذه المقابَلة المُترجَمَة مع المفكّر الماركسي الهندي برابهات باتنايك. وقد أجراها معه موقع…

    اقتصاد سياسي

    Cambodia Rice Farming