فلنتّفق أوّلا على تسمية الأشياء بمسميّاتها: إنه صندوق التعويض وليس صندوق الدعم.
فلنتّفق أوّلا على تسمية الأشياء بمسميّاتها: إنه صندوق التعويض وليس صندوق الدعم1
. وهذا في حدّ ذاته مؤشر على ماهية هذا الصندوق والمُراد ببعثه. لم يكن بادئ الأمر وحتى بعد سنوات من إنشائه مرتبطا بمفهوم دعم الطبقات المفقرة، بل هو آلية لتعديل الأسعار عبر التعويض إمّا للمنتجين أو الموّردين. إن أردنا الحديث بلغة الخبراء، فهي آلية تُعنى بالعرض ولا تُعنى بالطلب. وقد تمّ إنشاء آلية التعويض2
في تونس لأول مرة بقرار من سلطات الاستعمار بمقتضى أمرٍ عليّ أصدره الباي في 28 جوان 1945 على إثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق العالمية بسبب الحرب التي شارفت آنذاك على نهايتها. أما عن صندوق التعويض بصورته الحديثة، فقد تمّ إنشاؤه سنة 1970 على إثر المرور من سياسة استبدال التوريد في فترة التعاضد نحو سياسة النمو عبر الصادرات وتحرير الأسواق. وكان من البديهي أنّ هذه السياسة ستؤدّي إلى تحرير الإنتاج الفلاحي من ناحية ومن ناحية أخرى إلى التعويل أكثر فأكثر على الأسواق العالمية من أجل المنتوجات الأساسية، وبذلك تعريض السوق الداخلية إلى الهزات التي يمكن أن تحصل لها بسبب اهتزازات الأسواق العالمية.
إذن، في الأصل لم تكن آلية التعويض مرتبطة بـ “إعانة الفقراء والفئات الهشة”، بل كانت تهدف أكثر إلى حماية المجتمع من السوق واهتزازاتها، وكما سنرى كذلك من أجل توجيه هاته السوق نحو إنتاج غذائي متوازن للجميع. ففي السبعينيّات كان المجتمع ما يزال متجانسا بعض الشيء ما عدى بعض الملاكين الكبار والبرجوازية القديمة وكبار الموظفين الذين حوّلتهم سياسات نويرة إلى “قيادات صناعية”3
.
إلاّ أنّ الخطاب الشائع اليوم حول آلية التعويض انحصر في مستويين: المستوى الأول هو مستوى “كلفة” هذا الصندوق على المالية العمومية، وكأن المالية العمومية ذات كيان وأهداف منفصلة عن العيش الكريم للناس. والمستوى الثاني هو أن التعويض هو آلية دعم للفئات الفقيرة. وقد بدأ هذا الخطاب منذ أوائل الثمانينيّات، أي زمن تسلّل “توافق واشنطن” إلى الأذهان المُسيّرة للدولة. وذلك بعد أن مهّدت عشرية نويرة الأرضية الفكرية لذلك بتكثيف لغة الانفتاح وتشجيع الاستثمار وبداية دخول منطق تحرير السوق، لتتحوّل أولوية الحاكمين من تحقيق الأمان الاجتماعي للجميع إلى الحفاظ على ما يسمّونه التوازنات الكبرى للدولة (أي نسب التضخم والتداين وعجز الميزانية وغيرها…). ومن هناك انتقلنا من الحديث عن التعويض كآلية سياسات عمومية إلى خطاب “الدعم” المُكلِف لميزانية الدولة والذي لا يُوجَّه إلى مستحقّيه.
في أصل التعويض: مكوّن أساسي من السياسات العمومية الغذائية
انطلقت سياسات التعويض في صورتها الحالية سنة 1970، مع الانتقال من فترة التعاضد البنصالحيّة إلى مرحلة “الانفتاح” النويريّة، وكان لها أهداف أساسية ثلاث4
: الهدف الأول كان السيطرة على التضخم. فقد كان الحفاظ على نسب متدنية من التضخم من شروط نجاح تلك السياسة لتكون اليد العاملة التونسية تنافسية بين نظيراتها في بلدان الجنوب الأخرى. من ناحية كان ذلك لجلب الاستثمارات الأجنبية في إطار الانفتاح على الاستثمارات الأجنبية، ومن ناحية أخرى كان للضغط على التكاليف ودعم تنافسية البضاعة التونسية في السوق العالمية ودعم الوجهة التونسية في سوق السياحة العالمية وغيرها من الأنشطة الموجَّهة للحريف من وراء البحار. أمّا عن الهدف الثاني لسياسة التعويض فقد كان الحفاظ على المقدرة الشرائية لسكان المناطق الحضرية، ما سيسمّى لاحقا بالطبقة الوسطى: ركيزة النظام لدى بن علي والعمود الفقري لخطابات جميع المكوّنات السياسية الرسمية منذ الثورة – وحتّى “الثورية” منها – لما تشكوه “قدرتها الشرائية” من “تدهور” منذ سنين.
لكن الهدف الأساسي من صندوق التعويض كان تحقيق تغذية متكاملة ومتوازنة للجميع، وكانت أولى لبنات السياسات الغذائية في تونس. فقد كان الهدف من صندوق التعويض في هذا المجال هو توفير الغذاء اللازم بأسعار في متناول الجميع من ناحية، لكن من ناحية أخرى كان أداة بيد السلطات لتوجيه السوق في هذا المجال. ففي تقرير أنجزه المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية سنة 2017 5
، نرى أن تدخل الصندوق في جمع الحليب مكّن من تحسين ظروف عيش جزء كبير من سكان الأرياف وكذلك في نشأة صناعة وطنية لتحويل الحليب الطازج. كذلك إثر فقدان البطاطا في صائفة-رمضان 1977، تدخل الصندوق عبر دعم بذور البطاطا وتمكّنت بذلك الدولة التونسية من تحقيق إنتاج جيّد حتى الوصول إلى تصديرها. من ناحية أخرى مكّن صندوق التعويض من توفير غبار الصوجا (“الكونسنتري”) وحبوب الذرة ممّا ساهم في صعود قطاع تربية الدواجن وفي توفير اللحوم البيضاء والبيْض بأسعار في المتناول وبكميات وافرة، وممّا مكّن كذلك من إتاحة أغذية ذات قيمة عالية من البروتينات. هذا علاوة على ضمان المداخيل لمنتجي الحبوب، خاصة الصغار منهم، عبر التعويض لفارق سعر الكلفة من أجل الإبقاء على أسعار منخفضة في المجال.
من الواضح إذًا أنّ صندوق التعويض لم يكن في بداياته معنيّا بتحسين ظروف عيش الطبقات المُفقَّرة من الشعب، فالمجتمع كان في غالبه متجانسا ولم يكن هناك معنًى لمنطق الدعم السائد حاليا في اختصار مهام صندوق التعويض كآلية ذات دور اجتماعي بحت. فقد كان التعويض أداة بين أيادي السلطات لتوجيه الإنتاج نحو مواد غذائية أساسية من أجل غذاء متوازن للجميع. وذلك عبر ضمان المداخيل في مجالات معيّنة تُمكّن الخواص من الاستثمار دون مخاطرة وصغار الفلاحين من مواصلة نشاطهم دون خوف من تقلّبات السوق مع ضمان تسويق منتجاتهم6
. لم يكن إذا صندوق التعويض معنيّا إلاّ بجانب العرض، لا بجانب الطلب، ولم تكن غايته بتاتا تحسين المقدرة الشرائية للفئات الهشة بل كان آلية تخطيط لتحويل موارد الإنتاج نحو المصلحة الجماعية في غذاء متوازن.
من التعويض إلى الدعم
شهدت بداية الثمانينيّات تغييرا في التعامل مع صندوق التعويض. فمع أزمة الديون التي شهدتها بلدان الجنوب في تلك الفترة بدأ تدخل صندوق النقد في سياسات هاته البلدان من أجل مزيد تحويل اقتصاداتهم نحو هدف توفير العملة الصعبة اللازمة. أتى هذا التدخل معتمدا على إطار نظري يوصي بالتعديل في مجالين اثنين: الأول هو السياسة المالية والدفع نحو انكماش الطلب عبر الترفيع في نسب الفائدة المديرية وتقليص الطلب عبر السيطرة على القروض المسداة للاقتصاد وفرض سياسة التقشف على الدولة. والمجال الثاني هو التحوير في هيكلة الاقتصاد من أجل توجيه الاستثمارات نحو القطاعات المُصدّرة في إطار ما يعرف بنظرية الامتيازات المقارنة7
. وقد كان من أهمّ الإجراءات المتخذة في هذا المجال هو التخفيض في سعر صرف العملة المحلية لكي تنخفض أسعار المنتوجات المحلية مقارنة بالأسعار العالمية، ويتجّه بذلك الاستثمار المحلي نحو البضائع التي يتمّ تصديرها إلى السوق العالمية، بما أنّها ستدرّ أرباحا أكثر.
ويتنزّل إلغاء صندوق التعويض كذلك في هذا المجال الثاني. إذ أنّ التعويض يُحدِث تشويشا في الأسعار، أيّ أنّ سعر المنتوجات المنتفعة بالتعويض يكون منخفضا مقارنة بسعر التكلفة بينما لا يتضرّر المنتجون بذلك، بل على العكس فهم ينتفعون ممّا بدأ تسميته آنذاك في أدبيات صندوق النقد بـ “الريع”، وتتركز إذًا هذه الاستثمارات في مجالات لا تنفع إلّا سكان الداخل. بهذا المنطق، فإنّ إلغاء صندوق التعويض سيمكّن من إظهار “حقيقة الأسعار” وعليه سيدفع المستثمرين إلى توجيه مواردهم نحو قطاعات أكثر ربحية. وهي ستكون وجوبا القطاعات الموجّهة للتصدير نظرا لانخفاض الأسعار المحلية مقارنة بالأسواق العالمية، خصوصا بعد التخفيض في سعر صرف العملة. في كلمة: إنّ كلّ مجال يتمّ فيه تحديد الأسعار هو مجال يُقصى منه منطق السوق والربحية. وكلّما تقلّصت هذه المجالات ذات الأسعار المُحدَّدة كلّما توسّع السوق مكانها لاستخلاص هوامش الربح.
من هنا بدأت محاولات السلطات التونسية لإلغاء صندوق التعويض، وتمّت محاولة في ذلك الاتجاه في قانون المالية لسنة 1984 ممّا أدّى إلى انتفاضة الخبز. هذه الانتفاضة دفعت السلطات إلى التراجع، لكن بصفة جزئية. فقد بدأت منذ ذلك الحين بالترفيع التدريجي في الأسعار إلى أن تمّ إلغاء التعويض نهائيا سنة 1996 في المواد التي لا تنتفع بها كثيرا الفئات المفقّرة، وهي السكر المكعّب وعلف الماشية والزيوت الحامضة واللحوم والسماد8
ولم يبق التعويض يشمل سوى الخبز والسميد والكسكسي والمقرونة والكرّاس المدرسي. إن عنى هذا التحوّل شيئا فهو يعني المرور من سياسة التعويض للمنتجين إلى الاكتفاء بسياسة دعم للطبقات المفقّرة. فقد فضحت انتفاضة الخبز حجم الهشاشة التي يعيشها المجتمع في أوائل الثمانينيّات، وهو ما دفع بالسلطة إلى التضحية بمعظم أهداف صندوق التعويض وإبقاء الجانب الذي يحقّق لها استتباب النظام: دعم الفئات المفقّرة حتى لا تعصف به ثورة جياع. وقائمة المواد “المدعّمة” خير دليل عن هذه الخيارات: أصبح الهاجس الوحيد هو إسكات جوع البطون، حتى بمواد ضارّة صحيّا.
من الطبيعي إذًا أن يتحوّل منطق التعويض إلى منطق الدعم، وبما أنّه صار دون أيّ وجاهة تُذكر ضمن السياسات العمومية، يصبح الهاجس الوحيد هنا هو كلفة الدعم. كلفةٌ ما فتئت “الحكومات المتعاقبة” تشتكي منها وتشكّل بمثابة “قميص عثمان”، بغاية القضاء نهائيا على الدعم.
عن “كُلفة” التعويض و “توجيه الدعم إلى مستحقيه”
في البداية كان صندوق التعويض مستقلا بذاته كسائر الصناديق التي تنشئها الدولة: لها مواردها الخاصة لتتصرف فيها حسب أهدافها. فصندوق التعويض كان يُمَوَّل عن طريق إتاوة خصوصية على المنتوجات البترولية والمشروبات الكحولية، كما تمّت إضافة إتاوة خصوصية على بعض منتوجات التوريد سنة 1978 9
تمّ إلغاؤها في 1981. إلاّ أنّ ارتفاع أسعار الموادّ الأساسية نهاية السبعينيّات بدأ يؤثر سلبا على توازنات الصندوق، إلى أن صارت الدولة مجبرة على تغطية العجز الحاصل عن طريق التمويل المباشر من الميزانية في شكل قروض مثلما حصل في عام 1980. إن دلّ ذلك على شيء فهو يدلُّ على استقلالية صندوق الدعم. ثمّ أتى صندوق النقد الدولي بتوصياته في بداية الثمانينيّات وكان ما كان نهاية عام 1983 وبداية 1984. وبما أنّ التوجه صار حينئذ نحو إلغاء صندوق التعويض، فقدْ فَقدَ مكانته كآلية من آليات السياسات العمومية مثله مثل عديد الصناديق الأخرى. فتمّ إلغاء بعض الصناديق وتمّ إلحاق ميزانية الصناديق المتبقية بميزانية الدولة في قانون المالية لسنة 1987، أي أوّل قانون مالية في عصر الإصلاح الهيكلي10
. وكان صندوق التعويض من بين هذه الأخيرة، فصارت مداخيل الصندوق تذهب مباشرة إلى خزينة الدولة وتتولّى الخزينة مصاريف الصندوق. وبدأنا ننسى رويدا رويدا أنّ بعض مداخيل الدولة هي مداخيل صندوق التعويض لكن لم ينس أحد أن مصاريف الصندوق صارت من مصاريف الدولة، ومن هنا تحوّلنا إلى الحديث عن كلفة هذا “الدعم”.
لكن لنعد إلى الزمن الحاضر: فقد ارتفعت نفقات التعويض إبّان الثورة وصارت الحاجة ملحّة بالنسبة للدولة لإيجاد موارد للصندوق. لذا قامت الدولة بإرساء عدّة إتاوات في قانون المالية لسنة 2013 من أجل تمويل هذه الحاجة الإضافية. فقد تمّ فرض إتاوة بـ1% من رقم المعاملات على الملاهي والملاهي الليلية غير التابعة للمؤسسات السياحية والمقاهي (الصنف الثاني والثالث) وقاعات الشاي ومحلات صنع المرطبات وكذلك إتاوة على السيارات ذات سعة الاسطوانة المرتفعة وإتاوة بدينارين على الإقامة بالنزل لكل فرد تجاوز 12 سنة على كل ليلة يقضيها، وأخيرا وليس آخرا إتاوة بـ1% على أجر كل أجير تجاوز مرتبه السنوي الخام 20.000 دينار أي من يفوق مرتبه الخام 1.666 دينار… أي تقريبا من يتجاوز أجره الشهري الصافي 1.300 دينارا، بلغة أخرى كل من نقول عنهم أنهم من “غير المستحقين إلى الدعم”… كلّ هاته الموارد الإضافية دخلت الميزانية ولكنهم يتحدثون إلى اليوم عن “كلفة الدعم”… ماذا كان مصير هاته الإتاوات إذا؟
التعلّة الثانية التي تردّدها الببغاوات الخبيرة هي “توجيه الدعم إلى مستحقيه”. حيث أنهم يرددون هنا وهناك أنّ الدعم الآن ينتفع منه من لا حاجة له به من طبقة وسطى ومطاعم ونزل ومحلات صنع المرطبات وغيرها… وهذا ما يزيد من “تكلفة الدعم”. إلاّ أنّ هذا الخطاب مردود عليهم، فعلاوة على أنّ الإتاوات التي تم فرضها في 2013 هي كفيلة لوحدها بتغطية خسائر كلّ ذلك “الدعم” الذي لم يوّجه إلى مستحقيه، فإنّ الدراسة التي قام بها المعهد الوطني للإحصاء ومركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية قد أفضت إلى أن الفئات المفقّرة (أي الخُمس من السكان ذوي المداخيل الأكثر تدنّيا) تنتفع سنويا بمعدّل 68 دينارا من الدعم لكل فرد بينما يتمتع الأكثر ثراء (أي الخمس من السكان ذوي الدخل الأكثر ارتفاعا) بـ 89 دينارا11
… أي أنّنا نُقيم الدنيا ولا نقعدها من أجل فارق 21 12
دينارا للفرد يتمّ تغطيته وأكثر عبر الإتاوة المفروضة على الأجور الأعلى من 1300 دينارا والتي تمكّن ميزانية الدولة من مبلغ 200 دينارا سنويا عن كلّ أجير على الأقل!
من زاوية أخرى فإنّ المسكوت عنه في خطاب “توجيه الدعم إلى مستحقيه” هو النظرة الفردانية للمجتمع واستبطان أنّ لكلّ شيء كلفة ويجب التعويض لمن ليسوا قادرين على أدائها. كأنّ قدرنا جميعنا أن تتقاذفنا أمواج السوق ويتمّ على هذا الأساس تصنيف الفئات المفقّرة كفئات فشلت في مجابهة هذه الأمواج وتمنّ عليها الدولة ببعض الدنانير لـ “دعمها”. الزاوية الميّتة هنا هي دور الدولة: هل هي دولة تترك الناس يواجهون مصيرهم بين أيادي السوق – المنعوتة زورا بالخفية – ويكونون فرائس للتشغيل الهش والنقل المكتظ والخطير على الأرواح والغذاء اللامتوازن والصحة والتعليم المهترئيْن وتكتفي بالتدخل في الحالات القصوى حتى لا يموت الناس جوعا؟ أم هي دولة تعبّر عن الإرادة في العيش الجماعي لتُحقّق العيش الكريم للجميع وتخطّط وتنفق من أجل ذلك ومن أجل ضمان الغذاء والسكن والصحة والتعليم والنقل وغيرها من الأساسيات؟
فلنطبّق نظرة “توجيه الدعم إلى مستحقيه” هذه مثلا في التعليم. فالجميع يتمتع بمجانية التعليم – على الأقل نظريا – من الابتدائي حتى التعليم العالي ومرحلة الدكتوراه. لكنّنا نعلم نظريّا13
وحتى ممارسةً14
أنّ الفئات المفقّرة لا تنتفع بمجانية التعليم هذه مثلما تتمتّع بها الفئات الغنية. فالانقطاع المبكّر عن الدراسة من ناحية ونسب النجاح في الباكالوريا والتركيبة الاجتماعية لغالبية من يلجون “الشُعب النبيلة” تؤكّد أنّ من ينتفع أكثر من غيرهم من مجانية التعليم ليست الفئات المفقرة، بل الفئات الأكثر ثراء وبنات وأبناء العائلات ذات رأس المال الثقافي المرتفع. إن طبَّقْنا منطق هؤلاء الببغاوات الإعلامية، لِمَا هذا التعميم لمجانية التعليم؟ ألن يكون أنجع بالنسبة للمالية العمومية أن تكتفي بدعم مالي للطبقات المفقرة ونلغي مجانية التعليم هذه؟
أخيرا، يتحدّثون كثيرا عن “تهريب” شاحنات كاملة للسلع التونسية المدعّمة نحو الخارج كدليل آخر على فشل هذه المنظومة وكيف أنّها صارت آلية تبذير… يجب هنا أن نعي أن الإشكال ليس في “الدعم” في حدّ ذاته، بل هو إشكال في سعر الصرف: طالما سيتواصل تدهور قيمة الدينار تحت تأثير توصيات صندوق النقد الدولي، فإنّ أسعار المنتوجات التونسية ستكون في كلّ الحالات أبخس بكثير من الأسعار المتعامل بها في بلدان الجوار. وحتى إن أُلغيَ الدعم فإنّ أسعار منتوجاتنا تلك لن ترتفع كثيرا في أسواق تلك البلدان.
في سبيل عقيدة السوق وحقيقة الأسعار
يمكن أن نستنتج إذًا ممّا قلناه أنّ الإشكال في آلية التعويض لم يكن يوما الكلفة أو عدم توجيهه نحو مستحقيه، لأنّ صندوق التعويض كان في الأصل مستقلا بذاته وله موارده الخاصة ولأنّ الدولة قامت فيما بعد بفرض إتاوات لتمويل هذا الصندوق. لكن كذلك لأنّ هاته الإتاوات ساهمت في إعادة الدعم إلى مستحقيه عبر نزع “فائض الاستفادة” ممّن “لا يستحقون”. المسألة هي مسألة سوق قبل كلّ شيء: فآلية التعويض، حتى في حالتها المترهلة اليوم، تساهم في ضمان هامش ربح مقبول للمنتجين في عديد المواد الأساسية. فتدخّل صندوق التعويض في إنتاج الحليب يمكّن المنتجين من فوائض هائلة في كلّ مشتقات الحليب من زبدة وأجبان تجعلهم في “وضعية ريْع” يواصلون نشاطهم على أساسها، ممّا يساهم في التواجد المكثف لهاته المواد في الأسواق وبأسعار ما تزال في المتناول نسبيًا. كذلك وبالخصوص فإنّ آلية التعويض في مجال الحبوب تساهم في ضمان المدخول المناسب خاصة للفلاحين الصغار، وتحقّق لهم الحدّ الأدنى من الأمان الاقتصادي بالتحديد المسبق للأسعار قبل بداية الموسم. كلّ هذا يُعتبر عائقا أمام توسّع السوق، وهو ما لا يرضاه النظام الفكري السائد اليوم لدى “مؤسسات بريتون وودس”، لكن كذلك لدى رُسُلها من خبراء ومعلّقين.
لا يجب أن نغفل عن أنّ إلغاء الدعم ليس فقط خطابا تونسيا بحتا بل هو اليوم تيّار يشق بلدان الجنوب، بعد أن أحكمت المنظمات المالية الدولية سطوتها على هذه البلدان بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي تسببت فيها الجائحة. فقد صوّت مثلا النواب الجزائريون في نوفمبر 2021 على إلغاء الدعم على المواد الأساسية تحت ضغط صندوق النقد الدولي. هذا المطلب هو إذًا مطلب قديم متجدّد وشامل لجميع بلدان الجنوب، وأينما لمح صندوق النقد فرصة للانقضاض فإنّه لا يتوانى عن ذلك.
في المقابل، لا يجب أن نَغفل كذلك عن أنّ آلية التعويض تُمثّل حاليا بعض الإشكال للمنتجين، بما أنّ الأسعار التي تحدّدها الإدارة للمنتجين هي أسعار منخفضة نسبيا ولا تمكّنهم من تحقيق مرابيح جيدة مثلما يمكن أن تدرّها عليهم نشاطات أخرى15
. إلاّ أنّ هذا الجانب هو كذلك مرتبط بتصوّر التعويض كـ “دعم” وهو إذا لا يندرج في إطار سياسات عمومية بل هو فقط كلفة، فكلّما تمّ تحديد أسعار أرفع كلّما زادت “كُلفة الدعم” ونعود إلى نفس الحلقة المفرغة عبر خطاب التخويف من هذه الكلفة. في المقابل فإنّ من يدعوننا اليوم إلى إلغاء آلية التعويض هم من أكبر الدول إنفاقا في هذا المجال، إذ يمكن أن نذكر على سبيل المثال ما يسمّى بالسياسة الفلاحية المشتركة الأوروبية التي تتمثل في التعويض للفلاحين لحثهم على الإنتاج في مجالات معيّنة، وخاصّة المجالات الأساسية للسيادة الغذائية: فقد دفعت بلدان الاتحاد الأوروبي سنة 2019 مبلغ 54 مليار أورو16
لدعم فلاحتها وتوجيهها نحو أهداف مرسومة سابقا. هم إذًا ينفقون من أجل سيادتهم الغذائية ويدفعوننا إلى رفع التعويض لتتحول أراضينا إلى مزرعة خلفية لديهم يزرعون فيها ما لذّ وطاب من الفراولة والكيوي.
إذن لن يكلّفنا “رفع الدعم” زيادة في نسب الفقر ومزيدًا من تدحرج “الطبقة الوسطى” فحسب. ما سيكلّفنا إيّاه ليس فقط زيادة مفاجئة في نسب التضخم17
. بل سيأخذنا إلى المجهول بالنسبة لما تبقى من سياسة غذائية: هل أنّ رفع التعويض عن أغذية وعلف الدواجن والمواشي وعن الحليب وعن الحبوب لن يدفع المنتجين – وخاصة الصغار منهم – إلى تحويل نشاطاتهم نحو إنتاج موادّ فلاحية أخرى لا فائدة لنا بها ولن نكون أصلا قادرين على شرائها؟ أيّ ضمانات لدينا بأن نحافظ على الحدّ الأدنى من السيادة الغذائية إن صارت أغلب أراضينا الفلاحية موجهة للتصدير وتستهلك كميات هائلة من المياه لا قدرة لنا على توفيرها لمدة طويلة؟ أيّ ضمانات بألاّ تغزونا الشركات الفلاحية-الغذائية العالمية العملاقة بمنتوجاتها المسرطنة وذات القيمة الغذائية المنخفضة؟
لا نعرف بعد ما يمكن أن يجنيه علينا إلغاء التعويض ومزيد الخضوع لعقيدة السوق ودوغما الامتيازات المقارنة التي تفرض علينا التخلي عن إنتاج غذائنا بأنفسنا لتموين السوق العالمية بما تحتاجه من زيوت وقوارص وتمور بأسعار بخسة والبقاء رهن تقلباتها للحصول على بعض الحبوب. لكن ما لاحظناه طيلة فترة الإصلاح الهيكلي وما عشناه خلال فترة الوباء وما سنعيشه من أزمة في الحبوب خلال الحرب على أكرانيا هي تجارب كفيلة بأن نقتنع نهائيا بأن لا مصلحة لنا في منطق السوق في مجالات حياتية مثل الغذاء. بل أكثر من ذلك: لا خلاص لنا سوى بإعادة تدخل الدولة تدخلا قويا في السياسة الفلاحية بتوجيه الإنتاج نحو الأساسيات التي توفر غذاءً كاملا ومتوازنا للجميع، والتعويض كان وما يزال آلية ناجحة لتحقيق ذلك.
1. سيقتصر هذا المقال على جانب التعويض الخاصّ بالموادّ الغذائية ولن يتطرّق إلى ما يسمّى بدعم الطاقة الذي لم ينطلق فعليا إلا في منتصف السنوات الألفين.
2. أنظر.ي
المقال القيّم للباحث محمد ضياء الهمامي <<Tunisie: Les B.A.BA de la caisse générale de compensation>>، موقع نواة في 29 ماي 2014.
3. “Capitaines d’industrie”
4. أنظر التقرير الذي أنجزه المعهد التونسي للإحصاء ومركز البحوث والدراسات الإجتماعية حول صندوق التعويض سنة 2013:
Analyse de l’impact des subventions alimentaires et des programmes d’assistance sociale sur la population pauvre et vulnérable
5. Slaheddine Makhlouf, La Caisse Générale de Compensation, Institut Tunisien des études stratégiques, 2017.
6. خصوصا بتدخل ديوان الحبوب لشراء منتوجات الحبوب.
7.
أنظر: صندوق النقد و ذاكرة الإصلاحات المفقودة: الأسس النظرية للإصلاح الهيكلي. موقع انحياز، ماي 2021.
8. أنظر تقرير معهد الإحصاء ومركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية المذكور أعلاه.
9. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1980.
10. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1987.
11. أنظر الصفحة 15 من التقرير المذكور.
12. بالتحديد 21,9 دينار.
13. خصوصا بعد كتابات بورديو
14. خصوصا أولئك الذين يدرّسون فيما يعبّر عنه بـ "الشعب النبيلة"
15.
Crise du lait: Une filière en perdition", Inkyfada, Septembre 2018"
16. ما يعادل تقريبا 0,4% من الناتج الداخل الخام لدول الاتحاد الأوروبي. هي قد تبدو نسبة ضعيفة مقرانة بميزانية صندوق التعويض في تونس (1,57% سنة 2019 بالنسبة للموادّ الغذائية). لكن لا يجب أن ننسى أمرين اثنين: اقتصادات بلدان الاتحاد الأوروبي متنوعة وذات صناعات تكنولوجية ذات قيمة مضافة مرتفعة تجعل المقارنة بيننا وبينهم متعسفة نوعا ما نظرا لتركيبات الناتج الداخلي الخام. من زاوية أخرى، لا يجب أن ننسى تأثير نزول سعر صرف الدينار الذي أدّى بصفة مباشرة إلى ارتفاع مبالغ التعويض نظرا لارتفاع الأسعار العالمية في السوق الداخلية التونسية.
17. وهذه فرصة لتنوير الخبراء كيف أنّ الإنفاق العمومي يمكن أن يقف سدّا منيعا ضد التضخم.