تُعدّ معركة “طوفان الأقصى” علامة فارقة في مسار الصراع العربي الصهيوني، إذ تمكنت المقاومة من قلب المعادلة عبر الانتقال من موقع ردّ الفعل إلى الفعل المباغت، واضعة العدو في مواجهة غير محسوبة. ومع أن إسرائيل فوجئت بحجم الطوفان وجرأته، إلا أنها لجأت سريعًا إلى استراتيجية مألوفة: استهداف القيادات المؤثرة في محور المقاومة، أمثال صالح العاروري ويحيى السنوار في فلسطين، وسماحة السيد حسن نصر الله وهاشم صفي الدين ومحمد عفيف في لبنان، وصولًا إلى قيادات إيرانية مثل الرئيس إبراهيم رئيسي وحسين أمير عبد اللهيان، بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني.
رغم قوة الضربة الأولى، سعت إسرائيل إلى إنهاء المعركة بتثبيت حدود محمية من ضربات المقاومة المستقبلية، محاولةً بذلك ترميم هزيمتها الكبرى في السابع من أكتوبر. وجاءت هذه الجهود في سياق سلسلة اتفاقيات سابقة، بدءًا من أوسلو وكامب ديفيد ووادي عربة، وصولًا إلى “صفقة نهر الليطاني” التي كُرّست ضمن اتفاقية 1701.
هذه الاتفاقيات، خاصة الأخيرة، مثّلت منعطفًا في مسار حزب الله بعد استشهاد القائد الاستثنائي سماحة السيد حسن نصر الله. فقد أظهرت تراجعًا سياسيًا للحزب وتنكّرًا لوصيته بضرورة توحيد الساحات وربط المسارات بين أطراف محور المقاومة. وبموجب هذه التفاهمات، ستظل الحدود الشمالية لفلسطين آمنة، شأنها شأن الحدود مع الأردن ومصر وسوريا.
لكن هذه الحسابات، وإن ضمنت للكيان الإسرائيلي البقاء على المدى القصير، تبقى بعيدة عن تحقيق هدفه في التمدد أو إنهاء المقاومة. فرحيل السيد حسن نصر الله، الذي كانت كلماته ومواقفه نبراسًا للمقاومين، مثّل خسارة كبيرة، ليس فقط للبنان، بل لكل الساحات التي تبكيه اليوم وتتذكر حكمته وشجاعته.
بعد غياب القائد… تحولات في محور المقاومة وتحديات أمام الشعوب
مع استشهاد القائد التاريخي لمحور المقاومة، ظهرت تحولات استراتيجية عميقة في خريطة الصراع الإقليمي. حزب الله، الذي شكل لعقود رأس الحربة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بدا كأنه تراجع عن بعض خياراته الاستراتيجية. فتخلّيه عن المقاومة النشطة، بعد فقدان القائد الرمز، جعل الحاجة إلى طرق الإمداد عبر سوريا أقل إلحاحًا، ما يفتح المجال لتغيرات جذرية في موقف الحزب تجاه دمشق.
مصير سوريا يبدو أكثر هشاشة في هذه المرحلة؛ إذ إن النظام الذي حماه السيد حسن نصر الله في أحلك الظروف قد يُترك لمصيره في ظل تغير الأولويات. السيناريوهات المتداولة تتحدث عن إغلاق جبهة الجولان عبر ضمها الكامل للكيان الإسرائيلي، مما يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مساحة أوسع للتركيز على مشروعه في الضفة الغربية، وخلق وطن بديل قد يضم “سوريا المفيدة” وأجزاء من الأردن.
رسالة المقاومة: الكفاح خيار استراتيجي لا يقبل التراجع
في مواجهة هذه التطورات، يوجه محور المقاومة رسالة واضحة: الاستسلام ليس خيارًا، ومقاومة الاستعمار كلفتها أقل بكثير من العيش تحت وطأة الهيمنة. الرد على كل دعوات الإحباط والاستكانة واضح: لا تسامح ولا تهاون مع محاولات كسر إرادة الشعوب.
المقاومة ليست مجرد خطاب حماسي، بل هي ضرورة وجودية لا تُطرح للاستفتاء. وتاريخ النضال الإنساني حافل بأمثلة تثبت أن الأمة دائمًا ولّادة. عندما حاولت قوى الاحتلال تقسيم لبنان بعد اجتياحه، ولدت من رحم المعاناة مقاومة من أشرس ما يمكن أن يوجد: حزب الله، الذي تحوّل إلى قوة كبرى. وحينما التفتوا إلى العراق لتفتيته، أنجب العراق الحشد الشعبي المقاوم. ثم جربوا مشروعهم بأقسى الأدوات العسكرية والاقتصادية والسياسية في اليمن، فكانت النتيجة انتصار المقاومة (أنصار الله)، التي لم تكتفِ بالحكم، بل أصبحت قوة إقليمية تتحكم في المضايق والبحار، وتؤلم الكيان الصهيوني اللقيط ومشغليه.
وإذا كان البعض قد شمت باستشهاد القائد، فإنهم سيبكون في النهاية. كما قال الله تعالى:
{كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ}.
هذا هو نداء التاريخ، ودرس المقاومة الذي سيبقى خالدًا في ذاكرة الشعوب.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي انحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.