نقدم لكم الجزء الأول من مقابلة عرضت في بودكاست تاريخ حرب الأغوار Guerrilla History Podcast بتاريخ 27 جانفي. تم تحريرها لتيسير القراءة وتصحيح بعض الأخطاء.
ترجمة خاصة لموقع انحياز: آلاء عبد الله
هنري هاكاماكي: موضوعنا اليوم هو المسألة الزراعية ومكانتها في نضالات التحرر الوطني. كنا قد تحدثنا في السابق عن مختلف نضالات التحرر الوطني في البرنامج، ولكننا لم نتطرق كثيرًا إلى المسألة الزراعية بشكل عام أو فيما يتعلق بنضالات التحرر الوطني هذه بشكل خاص. ماكس، هل يمكنك أن ترشد مستمعينا الى ماهية المسألة الزراعية؟
ماكس أيل: المسألة الزراعية هي أداة تأطيرية نستخدمها لتسليط الضوء على العديد من العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والجندرية التي تتواجد في مناطق غير حضرية – وهذا يشمل بطريقة أو بأخرى المناطق الريفية أو المرتبطة بها. ليس هناك شيء فوق هذا الإطار العام. إنه عدسة تسلّط الضوء على بعض العمليات والعلاقات للتركيز عليها بشكل واضح، تحديدا كطريقة لتصحيح وعكس التركيز التاريخي المفرط على النضالات الحضرية وأشكال السياسة التي تحدُث في المدن وفي النضال من أجل السلطة داخل الدولة. وبما أن هيئات الدولة والهيئات السياسية تتمركز تاريخيًا في المدن، فإنّ ذلك يضفي -بطبيعة الحال- انحيازًا حضريًا لمجموعة واسعة من الاستقصاءات الاجتماعية والسياسية. لذلك، فإن المسألة الزراعية ليست مجرد إطار عام، بل إطارًا لإعادة التأطير، إنه إطار تتغير ملامحه ومعالمه مع مرور الوقت، اعتمادًا على ما يرغب الناس في تسليط الضوء عليه وما يستطيعون تسليط الضوء عليه. لذا فإنه يتوسع بشكل فعلي بمرور الوقت، حيث تفرض المزيد من النضالات إبراز جوانب مختلفة مما يحدث في المناطق الريفية.
بريت أوشاي: الآن بمجرد أن لدينا هذه الفكرة الأساسية ، أتساءل: لماذا كانت مسألة الزراعة مهمة جدًا بالنسبة للحركات الثورية بشكل عام ومركزية جدًا في تاريخ الحركات الماركسية وحركات التحرر الوطني بشكل خاص؟
ماكس ايل: حتى عندما كانت المسألة الزراعية تُطرح لأول مرة من قبل إنغلز في غرب أوروبا، كان هناك سؤال سياسي مُلحّ وهو: كيف يجب على الأحزاب أو المثقفين أو المنظمين السياسيين أو السياسيين الحضريين التوجه بشكل أساسي، أو في البداية، إلى هذا الكم الكبير من السكان الريفيين؟ هذه هي المسألة الزراعية الأساسية: كيف يجب التوجه سياسيًا إلى الكتل الجماهيرية الغفيرة التي لم يتم تنظيمها بشكل فعال من قبل اليسار. لذلك في أي بلد توجد فيه نسبة كبيرة من السكان يعيشون في المناطق الريفية ، تظهر مسألة الزراعة أو يجب أن تظهر بشكل عضوي تقريبا، ولذلك فإن هذه المسألة قد أظهرت نفسها تاريخيا بشكل عضوي تلقائي، ببساطة لأن هؤلاء هم الناس الذين يجب استحضار مطالبهم واحتياجاتهم وذاتياتهم الاجتماعية والسياسية حين نسعى إلى تحقيق الثورة الاشتراكية، ومحاولة توحيد قوى الثورة الاشتراكية من خلال إما تشكيل الدولة الما بعد كولونيالية أو الما بعد ثورية، ومن خلال التحول الثوري الاجتماعي والاقتصادي.
كما أنّ المسائل الزراعية تُعَدُّ مركزية في الشمال بشكل أقل وضوحا، وذلك بسبب التحولات السكانية التي ذكرتُها للتوّ، اذ تمت ملاحظة انتقالات كبيرة للسكان من الريف إلى المدن. وبالتالي، يقول الكثيرون إن شمال المتوسط لا تطرح لديه مسألة زراعية ، مما يخفي جوانب مركزية من النضال السياسي في الشمال. أولها مسألة التضامن: يحبّ الجميع استخدام هذه الكلمة: التضامن. لكن نادرا ما يتم التأكيد على التضامن عندما يتعلق الأمر بكيفية مقاربة المسألة الزراعية في دول الجنوب. في الواقع يحيلنا ذلك على مهمة سياسية مترابطة في الشمال، من جهة. ومن جهة أخرى، فإن مسألة التحرر الزراعي في دول الشمال قد تمت تسويتها فقط أو تم توفيقها على أساس عمليات المراكمة البدائية المترابطة والنيوكولونية المستمرة التي تحتاج في الواقع إلى تجاوزها من أجل إيجاد حلول عادلة لجميع أنواع التناقضات الاجتماعية على مستوى العالم.
ملاحظة المترجمة: التراكم البدائي مصطلح نجده في الترجمات الماركسية التقليدية (دار التقدم موسكو) ويعني آلية الانتزاع الأول لملكية أراضي “العالم المتوحش” ومصادرتها من طرف الغزاة الرأسماليين الغزاة. وهو ما ساهم في تركيز رأس المال في بداياته.
التراكم الأولي مصطلح نجده في التراجم الماركسية الأحدث عموما hétérodoxe . ورغم أن الكتّاب الذين يعتمدون “أولي” عوضا عن “بدائي” ترجمة لـ”primitif” يتبنون كون التراكم الـ”primitif” كآلية لتراكم رأس المال لا يقتصر على المرحلة التاريخية الأولى للرأسمالية على شكل خصخصة الممتلكات العمومية، غزو الفضاء… فيتم اعتماد ترجمة التراكم الأولي للإشارة إلى ظاهرة أعمّ. ورغم كون ترجمة “تراكم أولي” أكثر علمية في هذا السياق إلا أنني اخترت اعتماد مصطلح “تراكم بدائي” لأنها من حيث استرار المعرفة المراكمة أصحّ وذلك لاعتمادها في التراجم الماركسية الأولى.
عدنان حسين: نعم، لاحظت أنك قمت بعمل كبير على مستوى شمال افريقيا بشكل خاص. وأعتقد أن هذا سيشكل نقطة تركيز جيدة من أجل فهم مقاربة حركات التحرر بشمال افريقيا وتجارب الانعتاق الوطني وصراعاته على اختلافها لمسألة الأرض، وكما تعلم، للمسألة الزراعية. وأعتقد أن الحديث بهذا الصدد يحيلني على كتاب فانون “معذبو الأرض”. وكما تعلم، فإنه -كما يتضح لنا بلا شك- يتحدث عنها في بعد أوسع. ولكن بالطبع، فإنه يستشهد بالتجربة الجزائرية ويستحضر منها الأمثلة لأنه كان قد خاض شخصيا غمار تجربة النضال الوطني الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. ولكني أتذكر في الفصل الأول حتى، يقول “الفلاحون، الناس في الريف، مصدر قلقهم الأساسي هو الأرض والخبز. هذا كل ما تعنيه الثورة. ويجب أن يكيّف من يمارسون السياسة سياستهم مع هذا الأمر.” ويولي فانون اهتماما كبيرا للفرق بين التوجهات السياسية الحضرية والصراع الأوسع في الريف، والذي كانت جبهة التحرير الوطني الجزائرية متميزة في تنظيمها له خلال معظم فترة الصراع في الريف. لذا أتساءل عمّا إذا كنت تستطيع التحدث عن النموذج الجزائري وكيفية مقاربة المسألة الزراعية في هذا الإطار. وربما إذا سنحت الفرصة، يمكننا النظر في الاختلافات في تجارب أخرى مثل تونس والمغرب التي تميزت بمسار وتاريخ مختلفين. ولكن دعنا نبدأ بالنموذج الجزائري.
ماكس ايل: في الجزائر نقف على مسار عنيف للغاية من أجل نقل ملكية الأراضي الاستعمارية، التي تتطلب في المقام الأول فرض علاقات الملكية الاستعمارية وسيادة الاستعمار الاستيطاني- أي القدرة السياسية على فرض حكم ملكية رأس المال الغربي على أرض أجنبية. طوال القرن التاسع عشر، كان للفرنسيين الكثير من المشاكل في فرض علاقات الملكية. وهذا هو السبب في أنهم دمّروا البلد. لقد محوا نصف سكان الجزائر من الوجود في خضم عملية بسط السيطرة الاستيطانية الاستعمارية الرأسمالية على البلاد. وبالطبع فإن الاستيطان الاستعماري هو دائما وضرورة استيطان رأسمالي، ولكنني استعمل هذه المصطلحات عمدا لأنه قد تم إفراغ الاستعمار الاستيطاني من أبعاده المادية بنجاح إلى درجة أن المنظّرين المعاصرين لا يعتبرون الجزائر نموذج استعمار استيطاني. يمكننا تجاهل هذا السؤال، ولكن إذا افترضنا أن نظرية الحركات الوطنية هي المعيار، فسيكون هذا موقفًا سخيفًا تمامًا. ولكن على الرغم من ذلك، يمكننا العثور على هذا الموقف في الأدبيات. بعد ذلك، استخدم الفرنسيون الجزائر بطريقتين. الأولى: أصبحت مخرجًا لحل التوترات الاجتماعية في فرنسا نفسها. لذلك، كانت فرنسا قادرة على شحن جزء كبير من سكانها، لتزويدهم بما يريده الفلاح الجزائري، وهو الأرض – وتم توفير الأراضي للطبقات الفرنسية الدنيا من خلال عملية الاحتلال الرأسمالي للأراضي، والاستيلاء على الاكتشافات البدائية، وبالتالي كانت فرنسا قادرة على الزراعة فعليًا في الجزائر. ثم أنتجوا الكثير من السلع التي تم شحنها لتحقيق أرباح كبيرة. وكان الفرنسيون في الجزائر منتجين رئيسيين للنبيذ، ومنتجين صغارا للزيتون، ومنتجين رئيسيين للحبوب. وتم إنتاج هذه السلع في مزارع كبيرة حيث كانت هناك بروليتاريا ريفية جزائرية كبيرة تم طردها من الأراضي. كان هناك أجزاء أخرى من البلاد حيث بقي الجزائريون على أراضيهم الخاصة، وبالتالي تم تحويلهم إلى شبه بروليتاريا (semi-proletariat)، أي إجبارهم على العمل كعمال في بعض فترات العام، وفي بعض الأوقات الأخرى جعلهم يتلقون ما يكفي من الطعام من الأراضي الزراعية المعاشية (الكفاف) التي يملكونها.
وحتى يتحقق التراكم البدائي الفرنسي للأراضي، بغية تخفيف التوترات الإجتماعية و =مراكمة فائض القيمة بين يدي طبقة المستوطنين البيض، حتم الإطار الأساسي للملكية الرأسمالية للمستوطنين بالجزائر تفقير و تهميش السكان الجزائريين و تحويلهم إلى بروليتاريا أو إلى أشباه بروليتاريا (semi-proletarianization) أو حتى ابادتهم ببساطة. هذه العمليات كانت مترابطة فيما بينها ومتزامنة مع تحويل القيمة من الأراضي الجزائرية إلى أراضي فرنسا. لذلك هذه هي الملامح الأساسية لمسألة الاستيطان الزراعي في الجزائر كما ظهرت عند اندلاع الثورة عام 1954. وتجدر هنا إضافة شيء ما، فمن الشائع أن فانون كان يكتب عن الجزائر في كتابه “معذبو الأرض” وأعتقد أن السبب في ذلك أن الناس لم يسمعوا قط ببلد اسمه تونس. هناك دون أدنى شك مقاطع يتحدث فيها فرانز فانون بوضوح عن معاملة السجناء الجزائريين في المستشفى النفسي. هذا يعني بلا شك أنه يتحدث عن الجزائر. ولكن عندما يتحدث عن الطبقة الوطنية البرجوازية والوعي الوطني، إذا درس شخص هذه الفترة من تاريخ تونس، والتي درستها لأنني كتبت أطروحتي حولها، وبما في ذلك قراءة معظم خطابات الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة من الفترة ما بعد الاستعمارية بين عامي 1955 و 1970، فإنه يدرك أنّ فانون كان، بسبب وجوده في تونس، يتفاعل مع بورقيبة بشكل واضح. يمكن العثور على نفس التعبيرات “المعركة من أجل التحرر تصبح معركة ضدّ التخلف”، وهذه عبارة الحزب الدستوري الجديد، الحزب الحاكم في تونس.
هذا كان -عمليا- شعارًا للحزب الدستوري الجديد يكرره بورقيبة مرارا في خطاباته. لذلك كان فانون ينتقد تونس بشدة دون أن يذكر تونس كثيرًا. لماذا؟ أولاً، بسبب المستوى التجريدي العالي الذي كان ينتهجه.
السبب الثاني، ربما يكون ناتجًا عن الحاجة إلى المناورة كمناصر لحركة التحرير الوطني الجزائرية بوجود مأوى آمن في تونس كقاعدة خلفية مترددة للنضال الوطني الجزائري. لذلك كان لديك هذه الجوانب المتداخلة.
والآن فلنعد إلى الجزائر، ما أقصده هو أن عملية البلترة غير الكاملة (semi-proletarianization) والتفقير الممنهج للشعب الجزائري كانا السبب في جعل فانون يطرح المسألة بهذه الصراحة. فقد قال بأنّ الناس يريدون الخبز والأرض – الناس يريدون الأرض كوسيلة للحصول على الخبز. ولهذا السبب يعتبر فانون شخصية مركزية في التفكير حول المسألة الزراعية. والشيء الغريب هو أن تركيز فانون على الأرض قد تم استبعاده أساسا من الجزء الأكبر من الكتب النظرية التي تتحدث عن فانون في الوقت الحالي.. أعتقد أن الناس يقدرون تجريده النظري واستخدامه لمصطلحات هيغلية وما إلى ذلك، لأن المنظرين يحبون المفكرين الذين يصعب تفسير كتاباتهم حيث يمكنك جعلهم يقولون ما تريد.
هناك تركيز قليل نسبيًا على شيء كان فانون يخبرنا به بوضوح تام. فقد قال “نعم ، الأرض ، هو ذا ما يريده الناس هناك”. ولذلك فمن الواضح أن هذا ما تم قمعه في الحديث عن فانون لأن الأساس المركزي الفعلي، الأساس المادي المركزي للهيمنة البيضاء على مستوى العالم هو العلاقات الاستيطانية في ملكية الأرض وتحويلها فيما بعد إلى علاقات ملكية نيوكولونيالية. نعرف هذا من شعب الـPatnaiks ونعرفه أيضًا من والتر رودني ومن إيريك وليامز، نعرف أن الثروة المستمدة من الأرض، بل الملكية المباشرة للأرض، هي الأساس المركزي للتراكم على مستوى العالم وأنها تحتفظ بمكانة مركزية مطلقة.
إذا لم تواجِه عملية النهب والسرقة هذه، هذا التناقض الرئيسي المستمر، ستستحيل عليك مقاربة هذه المسألة على نحو جدّي. ومن المفهوم أنّ طيفا من اليسار التوافقي لا يريد الخوض في هذه المواضيع أو لا يرى غرابة في إغفالها في المقام الأول، رغم كون هذه الظواهر هي التناقض الاجتماعي المركزي الأساسي على مستوى العالم، ورغم كونها تتجلى كمحور مركزي لكل النضالات الثورية حول العالم اليوم.
هنري هاناكاني: لنتحدث قليلا عن تاريخ انتفاضات الفلاحين التونسيين، لأنه وكما قلت يبدو أن الكثيرين لم يسمعوا بتونس. بما أنك ملم بهذا الموضوع أكثر من غيرك هل لك أن تحدثنا قليلاً عن تاريخ انتفاضات المزارعين في تونس؟ لأنه حسب فهمي البسيط، شهدت تونس موجتين من انتفاضات المزارعين، إحداهما تأثرت بشكل كبير بالمسألة الزراعية، بشكل صريح، والأخرى كانت جذورها ناصرية. هل أتمثل الموضوع على نحو جيد؟
ماكس ايل: لنقل أن فهمك أصح من تمثل الغالبية الساحقة من سكان الكوكب للمسألة. ولكن اسمح لي بإجراء بعض التعديلات على فهمك بما أننا نتناول موضوع أطروحة الدكتوراه التي أحرز فيها تقدما بطيئا.
ولكن في الواقع، أودّ أولا التفكير في المسألة الزراعية التونسية كجزء من مسألة زراعية عربية مرتبطة عضويا ومتصلة، وهي مسألة زراعية عربية شاملة نشأت كردّ فعل على تهديد الإمبريالية ورأس المال الاستيطاني ورأس المال الاحتكاري، أي القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتشابكة التي كانت تقود عمليات النهب والاستغلال على مستوى العالم. لذلك، كما تعلم، فإن أول انفجار للكفاح المسلح في تونس، خصوصا الكفاح المسلح للريفيين التونسيين والذي تأجج في شرق تونس في أواسط وأواخر الأربعينيات كان حدثا قادحا. وقد كان هؤلاء الريفيون المتمردون يثيرون حفيظة الاستعمار إلى درجة أنه لم يتح لنا فرصة التأريخ لنضالاتهم ولا الاطلاع على تاريخ حقيقي لهم. وهذه حالة أخرى يفرض فيها الاقتصاد السياسي لعملية بناء المعرفة نسقا ابستمولوجيا معينا. لذلك لم يؤرخ لهذه النضالات كما يجب. هذا إلى جانب كونها انتفاضات ريفية لم نعتد الكتابة عنها خاصة في الأكاديميا التونسية في ظل النيوكولونيالية.
أما المثير للاهتمام فهو أن شقا من فلاقْة زرمدين قد تم القبض عليهم وقتلهم أثناء محاولتهم الوصول إلى فلسطين. ثم أرسلت تونس عددًا كبيرًا جدًا من المقاومين بالنسبة لحجمها كبلد. لقد أرسلت نسبة هامة من المقاومين الشمال-افريقيين الذين ذهبوا أو حاولوا الذهاب لنصرة فلسطين. كان هؤلاء المقاومون جزءا من المسألة الزراعية. ذلك أنهم كانوا يسيرون ليصارعوا الواجهة السياسية لرأس المال الاحتكاري والتروستات الصهيونية، لقد كانوا يقاومون الاحتلال الاستيطاني الصهيوني للأراضي. هذا ما كانوا يناهضون هناك.
لذا، كانت مقاومتهم في قلب المسألة الزراعية العربية. ويمكن القول بأن حرب الفلاحين العرب قد اندلعت في وجه الاحتلال والاستعمار الاستيطاني المدعوم من القوى الغربية في المنطقة العربية. وقد شكل هؤلاء المقاومون الجناح الأكثر فاعلية داخل الجبهة الفلسطينية بعد أن دلفوا إلى فلسطين عن طريق سوريا. ويعود الفضل للمقاومين الذين تلقوا تدريبهم في سوريا، بما في ذلك بعض الضباط الذين كانوا يتلقون تدريبًا في سلاح الجو، في تكوين نقاط البداية والنواة الأولى للنضال الوطني التونسي عندما عادوا إلى تونس بعد تعبئتهم من الجبهة السورية إلى فلسطين. أما تاريخ ما بعد ذلك بقليل فيبقى غامضا إلى حدود اللحظة. يبدو أن قوى المقاومة بدأت في التحرك بشكل شبه مستقل في عام 1950، ولو بتشجيع في خطابات الديكتاتور المستقبلي الحبيب بورقيبة. كانوا يتحركون في الريف، ويقومون بتكوين روابط بين بعضهم البعض، ويتحركون صعودًا وهبوطًا في جنوب شرق البلاد والداخل.
ويرجح أنهم كانوا يعدّون مخازن للأسلحة. وكانوا يبنون شبكات لوجستية استعدادا لحرب شعبية في الوقت المناسب. ثم آن الأوان في عام 1952. هذه هي الانتفاضة التي نسميها “انتفاضة الفلاقة”، وهي كلمة كانت في ذلك الوقت مهينة. لقد كانت تعني قاطع الخشب، لكنها استُعيدت بشكل أساسي خاصة في أعقاب ما يسمى بالثورة التونسية. بين عام 1952 و1954 انتشر الكفاح المسلح في كامل البلاد التونسية منتقلا ببطء من الجنوب إلى الشمال ومستهدفا بشكل ممنهج المتعاونين مع الاستعمار الذين كانوا يتمتعون بثروة أو جاه كبيرين مما يشير إلى أن المتعاونين مع الاستعمار كانوا يشكلون طبقة اجتماعية.
وكان المقاومون يستهدفون بشكل منهجي المستوطنات الاستعمارية. لا يمكن أن أعرف على وجه التحديد ما كانوا يناضلون من أجله، بما أن الغالبية العظمى كانت ببساطة تنادي برحيل فرنسا. وعلى أي حال، إذا ما كنت تريد رحيل الفرنسيين لأنهم يحتلون أرضك، فليس مهما كيف تصوغ هذا المطلب. إنها مسألة زراعية بطريقة أو بأخرى، إنها حرب تحرير وطنية، ومحور التناقض المركزي هو ملكية الأرض والسيادة عليها، بغض النظر عن ما اذا صغت هذه الإشكالية بمصطلحات تقنية دقيقة أم لا. هذا كل ما في الأمر. هناك أماكن أخرى تمظهرت فيها النظرية بصورة أوضح. لن نختلف في أنه لا يجب أن نبخس النظرية أهميتها. لكن غياب هذه النظرية لا يجب أن يبخس المسار السياسي الذي كان آخذا في الاتضاح في الريف التونسي قدره. حيث تم استهداف المستوطنين بشكل ممنهج وحيث أبدى المقاوون خوفا واضحا من المكننة التي كانوا يربطونها بالاغتراب عن الأرض، فكلما تقدمت المكننة ازداد اغترابهم واكتمل مسار البلترة غير الكاملة التي يمرون بها وفقدوا قدرتهم على العمل في الأرض.
كما تبلور وعي واضح مرتبط بخطاب فرحات حشاد، هذا المثقف العضوي الرائع ابن الحركة النقابية التونسية والذي اغتالته عصابة اليد الحمراء الفرنسية في عام 1952. وفهم الفرنسيون تماما أن اللعبة انتهت، وأنهم سيضطرون إلى المساومة أو التنازل عن نوع من السيطرة السياسية، وهو التنازل الذي أرادوا أن يحدّوا منه. كانوا يأملون ويتفاءلون كثيرا بقدرتهم على الحد من خسارتهم للسيطرة السياسية التي سيتم التنازل عنها، أو على الأقل إبطاء عملية التنازل هذه. وكانت هذه المنازعات مستمرة منذ عام 1954 على الأقل حتى عام 1964. ولكن في الواقع، تلك الفترة وبعدها هي تاريخ النيوكولونيالية. إنها معركة مستمرة حتى اليوم.
ما أقصده هو.. هناك شارع باريس مثلا، هناك سفارة فرنسية قابعة على الشارع الرئيسي وهناك دبابات أمامها لحمايتها. كما يوجد مركز ثقافي فرنسي يحتل جزءًا كبيرًا من وسط مدينة تونس، ويتم التعامل معه على أنه أرض سيادية فرنسية. ويمتلك السفير الفرنسي منزلا في واحدة من أرقى الضواحي في تونس، حتى إنني لا أعلم على وجه التحديد مدى مساحته، ولكنه ضخم جدا ومحاط بجدار يبلغ علوه الخمسة أمتار.
المغزى من هذا كله هو أن بورقيبة لعب دور الوسيط في تفكيك هذه الانتفاضة انطلاقا من نوفمبر 1954 بوعد بالحصول على الحكم الذاتي الداخلي. لذلك، استخدمها كنقطة رافعة للضغط على الفرنسيين للاستسلام للحصول على الحكم الذاتي الداخلي للتونسيين، ثم تفككت هذه القوى جزئيا. وكان ذلك في نوفمبر وديسمبر 1954. كانوا يسلمون أسلحتهم لفِرق من المفاوضين كانوا غالبًا ما يرتبطون بالاتحاد العام التونسي للشغل، لأن الاتحاد كان لديه مصداقية وطنية أكبر حتى من الحزب. لذلك كانوا قادرين على لعب دور وسطاء موثوق بهم لطلب تسليم الأسلحة بطريقة لا يمكن للحزب، ولا يمكن حتى للفرنسيين أن يفعلوها. تم تفكيكهم إذن. ذهب بعضهم إلى الجزائر على الفور وشاركوا في النضال هناك. إذ لم يروا تمييزًا سياسيا بين النضال المسلح للتحرير في تونس والنضال المسلح للتحرير في الجزائر. وأما الآخرون فقد تخلوا عن الأسلحة القديمة، وهذا لا يزال غير واضح في الأدلة المكتشفة حتى الآن. أعتقد أنهم قالوا “حسنا، ليكن.. نتخلى عن هذه الأسلحة، ولكننا سنحافظ على شبكاتنا اللوجستية ونحافظ على أجزاء من شبكاتنا التنظيمية وسنبدأ في القتال مرة أخرى في عام 1955”. لذلك، في أوائل عام 1955، كانوا يستعدون بالفعل لحرب تحرير وطنية جديدة. لذلك، قبلوا بفعالية إسقاط أسلحتهم لمدة ستة أسابيع، مما يعني بشكل أساسي أنه ليس من الواضح إلى أي مدى كانوا يتوقعون أن ما كانوا يفعلونه كان وداعًا للأسلحة بشكل نهائي.
تقريبا في سبتمبر 1955، بدأ صالح بن يوسف -بعد حضوره لمؤتمر باندونج وتعرفه على الناصرية- ، ومعه مجموعة من المثقفين والمنظمات السياسية العربية العابرة للحدود مثل يوسف الرويسي وغيرهم- في التحريض للمضي قدمًا نحو الاستقلال الكامل لتونس، وهذا ما أصبح معروفا باسم انشقاق بورقيبة وبن يوسف. وفي هذه النقطة، انطلق التمرد اليوسفي مرة أخرى في نهاية عام 1955. وعندما اضطر بن يوسف إلى الفرار إلى ليبيا في بداية عام 1956، اندلعت المعارك بين الثوار والقوات الفرنسية وآلياتها العسكرية في المقام الأول. حاربوا المتمردين في جميع أنحاء الجنوب، وكانت بعض القرى تحت حظر التجوال أو مدمرة تماما. وبحلول يونيو 1956 ، كان الأمر قد انتهى في الغالب. ومع ذلك ، استمر التمرد وظل ينشط من هذه الشرارات.
كانت الاضطرابات تتفجر في أحيان كثيرة في فترات مثل 1956 و 1957 وربما 1958. مرة أخرى ، وكان لها امتداد ميداني بين غرب تونس وشرق الجزائر. هذه لم تكن حدودًا واضحة في ذلك الوقت فكان يمكن للناس أن يتنقلوا بينها بكل بساطة، وكان يسهل عليهم أن يواصلوا المقاومة في مناطق أخرى، وللجزائريين أن يأتوا لمواجهة الاستعمار في تونس. كان هذا أمرا معتادا. لذلك كان حراك التحرر الوطني يشهد مدا وجزرا، يبدأ، يتوقف بطريقته الخاصة إلى أن سوّى الاتفاق الجزائري-الفرنسي وضعيتهم الخاصة. لذلك تقف على ملامح هذا الصراع المستمر على الدوام. أما ايديولوجيا فإننا لا نعرف بما فيه الكفاية لنتحدث. ولكنهم كما تعلم كانوا يحاربوبن من أجل الكرامة، ضد تغريب (alienation) الفرنسيين لبلدهم، ضد التحكم الفرنسي في بلادهم. كانوا يقاومون المستعمر المسيحي.
كان بن يوسف ناشطا أكثر منه مثقفا ينتج نصوصا مكتوبة، لكن من المؤكد أنه قد كان هناك الكثيرون ممن يعتقدون في ضرورة إحداث وحدة عضوية بين كل حركات المقاومة المسلحة في شمال أفريقيا المغاربي، بين المغرب والجزائر وتونس مؤمنين بأنها الطريقة الأمثل لمعارضة النفوذ الفرنسي في المنطقة، وبأنها الطريقة الأضمن لاسترجاع السيطرة السيادية على مسار التنمية. بدأ بن يوسف على الأرجح منذ أواخر سنة 1955 في استبطان بعض من أفكار باندونغ حول جهود التنمية الوطنية والتأميم الكلي للأرض والتحكم الاقتصادي للبلدان مثلا من خلال التحكم في الرسوم الجمركية وغيرها. وكان هناك مايوحي إلى أن هذا ما كان سبب الخلاف بين اليوسفيين والبورقيبيين. كان الخلاف حول هذا السؤال: هل ستطردون الفرنسيين أم لا؟ أي، هل تنوون إيقاف تعشيش الفرنسيين في أراضيكم التونسية أم لا؟ لقد كانت هذه مسألة مركزية بالطبع، إنها الجانب الزراعي لمسألة التحرر الوطني. أي أنها تجيب عن التساؤل التالي: أي شق من الوطنيين سيمتلك الحق في السيطرة على القوى الإنتاجية الوطنية المركزية – الأرض. ولم يقوموا بتصويرها بهذه الدقة، ولكن هذا بالضبط ما يتحدثون عنه في الأساس.