برج البراجنة هو مخيّم فلسطينيّ يقع في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وهي منطقة معروفة بموالاتها لحزب اللّه. ها أنا أطأه لأول مرة في السادس من أفريل لأمضيَ فيه عشرة أيام، في إطار مشروع بحثيّ أُشرف على تنسيقه، ويهدف إلى توثيق واقع النساء المهاجِرات والمهَجَّرات في كندا ولبنان، وما تُطوِّرنه من سُبُل وآليّات لتجاوز مصاعبهنّ، إلى جانب توثيق الإستراتيجيّات التي تعتمدها الجمعيّات والمنظّمات التي قد يلجأن إليها بهدف مساعدتهنّ.
حاولت الجامعة إقناعي بخطورة الأوضاع في المنطقة وإعلامي بكل ما لن يتمّ تأمينُه والتكفُّلُ بمعالجته لو حصل لي مكروه “لا سمح الله”، وحثِّي على تأجيل السفر. ضحكتُ داخليّا، لو يعرفون ٱختلاف تقييمنا للخطر ولـ “لا سمح الله”، لو يعرفون خطورة الهدوء (النسبيّ) على أشخاص مثلي أكثر من خطورة المخاطر…
وصلتُ إلى بيروت وأنا في حالة غليانٍ وشبه جنون يلاحقني منذ الأسبوع الثاني من أكتوبر. جئتها بحثا عن معطيات بحثيّة وعن دفء إنسانيّ ومعنى سياسيّ، إلى جانب البحث عمّا يُعدّل من نسق دقّات قلبي ويرميني وسط أناسٍ يشبهونني ولو قليلا، أُناسٌ لا وقت لهم للوقوف على كل خطر ممكن ولا حاجة لأن أفسّر لهم لِما لستُ بخير. كما توقعتُ، وجدتُ ضالّتي. أمضيتُ ورئيستي في العمل، “ر”، عشرة أيام في المخيّم عند عائلة فلسطينيّة رأتْ النور فيه أو بالأحرى تَربَّتْ، مثل غيرها، على مشهد أسلاك الكهرباء البارزة والتي تكاد تُعانق برك المياه التي تملأ المخيّم. النورُ قصّة أخرى في المخيّم وفي لبنان كله…
وجدتُ أناسا يُصبحون ويُمسُون على أخبار غزّة، يأكلون ويضحكون سويّة دون أن يُطبِّعوا مع ما يحصل فيها. وجدتُ نساءً يتكلّمن بالكثير من الأنَفة عن معاناة شعبهنّ لا عن معاناتهنّ الخاصة، وعن قيمة القناعة وأهمية المقاومة. جميعهنّ، وجميع الرجال الذين تحدثتُ معهم، يتحدث.و.ن، دون أن أسألهم، باستمرار عن العودة. أغلبهنّ غير منتظمات سياسيا وكلهنّ ينتقدن بشدة جميع الفصائل الفلسطينية في المخيّم، التي يصفها بعضهنّ بالمرتزقة، حتى تلك التي تقود المقاومة في غزّة. “هناك أمر وهنا أمر”، أسرّت لي أم يوسف.
الحركة فيه شبه دائمة وأصوات مفرقعات الأطفال وتزمير السيّارات والدراجات النارية وصرخات مناداة زيد وعمر وفاطمة وكاميليا تملأه.
ارتسمتْ ابتسامة على مُحيّاي ما إن وطأتْ قدمايَ وعجلاتُ حقيبتي المخيّمَ. البيت الذي سأسكنه وأتشاطر غرفةً منه مع “ر” متوسطُ الحال والحجم، أثاثُه قديم، لا ماء ساخن أو صالح للشراب فيه، وعادة ما يتعالى منه صراخ الأخت على أخيها أو أمها أو على القطط وصراخ الأخ على ابنه الذي يزوره أحيانا وصراخ الأم وهي تنادي ابن زوجها “ع” لكي يقضي لها حاجة وسباب وشتائم الجميع طوال الوقت، دون أن يؤثر ذلك على حُبّ أفراد العائلة لبعضهم البعض. “ع” هو الرجل الوحيد الذي يُطلَب منه أن يقوم بشيء في البيت. النساء يعملن ويجلِبْن المال ويُعنين بشؤون البيت من طبخ وغسيل وتنظيف وٱعتناء بالقطط وتحضير للقهوة مرّات في اليوم. يقمن بكل ذلك ويضعن فنجان القهوة لا على الطاولة بل في يد طالبها الذي تُحَقَّق كلّ رغباته وطلباته دون أن يتحرّك من مكانه قيد أُنمُلة.
القهوة تجمع العائلة وكلّ من زُرته/ا في المخيّم. القهوة العربيّة دون سكّر.قوبِلتْ زيادتي لماء الزّهر بالاستغراب أوّلاً ثم بالـ “آه، واللّه فكرة مش بطالة!” بعدها.
أن تتقاسم ألمَ وقعِ وآثارِ الإبادة والأخبار عن غزّة مع فتًى مدلّل يتوقّع أن تخدمه النساء طوال الوقت، مع تطبيعٍ تامّ مع الأمر من هؤلاء، كان شديد الصّعوبة بالنسبة لي. أحسستُ في العديد من الأحيان بالرغبة في صفعه، كما أحسستُ برغبة في صفع الجميع كلّما قيل كلام عنصريّ عن بقيّة الأقليّات الإثنيّة والقوميّة في لبنان عموما وتلك التي تتقاسم معهم رقعةً من المخيّم خصوصا (السريلانكيين والفيليبنيين وخاصّة السوريّين)، وما أكثر تلك المرّات ! الكلُّ به علّةٌ والتعميمُ هو القاعدةُ وٱعتراضي وجدالي عادةً ما كان يُجابَه بـ “إحنا مْنِعرف، ما إحنا إلي عايشين معاهم”. دَورُ المنظّمات الدوليّة في خلق أو على الأقلّ ترسيخ هذا الخطاب العنصريّ، النّاتج خاصة عن تنافس مستمرٍّ على موارد محدودةٍ، كبيرٌ. لذا، كلما ٱشتدّ حنقي، كنت أقول لنفسي : أولئك أجدرُ بالصفع من هؤلاء…
ثالثُ يوم في المخيّم. حلّت العادة الشهريّة كضيف مُتوَقَّع لكن غير مرغوب فيه. بعضُ الألم والكثير من محاولات التكيّف في ظلّ ملوحة الماء وغياب الماء الساخن. طلبتُ فوطة صحيَّة من “ه” التي سارعت بمدّي بالعديد منها، من أحجام وماركات مختلفة. لدهشتي، تمّ الأمر أمام أخيها، مُصاحَبًا بحديث قصير بيننا عن العادة الشهريّة والبيولوجيا وثمن الفوطات. كان الأمر غريبا حيث أنّ هذا النوع من الأحاديث عادةً ما يُشكّل تابوها لا يقع التّداوُل فيه إلا بين النساء. واصل الفتى المُدلّل احتساءه للقهوة وتصفّحه لهاتفه دون أن يُثير الأمر لا ٱستغرابه ولا ٱستهجانه. سأكتشف بعدها العديد ممّا يُمكن وصفه بعدم الإنسجام في الكثير من ممارسات وعادات العائلة.
كنتُ في البيت بصدد تعلّم التطريز الفلسطيني بعد يوم عمل طويل عندما سمعنا بضربة إيران التي استهدفت الكيان الصهيوني. أصابت العائلةَ والمخيّمَ عموما حالةٌ من السعادة والأمل بقلب موازين القوى، تُرجِمت بالدعاء المتواصل والحديث عن عودة قريبة “إنشاللّه”.
“تْخيّلي إنّو بِينك وبين بلدك حاجز. ما إحنا رُحنا عالجنوب وشفنا فلسطين قريبة-بعيدة. يا اللّه شو حلوة بلدنا…”، قالت “خ” بتأثّر وهي تنفخ ما تيسّر من دخان سيجارتها وتلعن من كان السبب.
أجل، تخيّل/ي لو أنه بينك وبين بلدك التي تراها بعينيك حاجزًا يمنعك من أن تكون/ي فيها ويضطرّك أن تعيش/ي في رقعة ضيّقة قليلا ما تُحسّ/ين فيها بكرامتك وبالإنتماء إليها…
“رحْ تِرجعي معنا”، استطردتْ “خ” بابتسامة واسعة، وكان ذلك من أجمل ما قيل لي في حياتي.
بقيَت أنظارنا وقلوبنا معلّقة بشاشة التلفاز وسمِعنا سويّةً نبأ إغلاق مطار رفيق الحريري. كانت تختلجني أحاسيس متعدّدةٌ في نفس الوقت، من بينها القلق، خاصة مع عدم ٱنقطاع ٱبنتها “ه” عن نقل وقراءة الأخبار بصحيحها ومُزيّفها بصوت عالٍ لا مفرّ من سماعه، لا ينقطع إلّا لحظة ملء رئتيها بدخّان الأرجيلة.
الغلطةُ الأولى في التّطريز.
باب البيت مفتوح كعادته والقادمون من جيران وأقارب وأصدقاء لا يتوقّفون رغم تأخر الوقت، والشأن السياسيّ مُتدَاوَل بين الصغير والكبير دون أهميّة تُعطى أكثر لمعلومات ورأي رجل على ٱمرأة أو كبير على صغير.
أعدتُ الغُرزةَ وقرّرتُ أن أستريح من تعب اليوم والعادة الشهريّة وثقل الهواء والأخبار المزيَّفة في غرفتي التي سأنام فيها لوحدي لأوّل مرّة منذ مجيئي. طبعا، لم يمنعني ذلك من التفكير حتى الإجهاد. هل هي حرب تحرير؟ هل تُصعَّد الأمور؟ هل يقف العدوان على غزّة أخيرا؟ بمَ يمكن أن أكون مفيدةً لو بقيتُ هنا؟
أمي وأختي وصديقتي المقرَّبة وشابٌّ لم تُحدَّدْ علاقتي به بعد قلقون/ات وتصلُني رسائل متعددةٌ منهم/نّ. القليل من الناس يعرف أنني هنا. هكذا أفضل، قلتُ لنفسي.
نمتُ على وقع هتافات الغزاويّين/ات في الفيديوهات ودعاءِ أمي في آخر رسالة صوتيّة بعثت بها لي.
يوم غد، لا أخبار خلال السّويعات الأولى ولا وقت للتفكير أو لتصفّح هاتفي : بعضُ العمل ليس ٱغترابا.
أوّل الظهر أعادتني إحدى النساء إلى عالم القلق وتعقّب الأخبار بسؤالها عمّا سأفعله لو أنني علقتُ في لبنان وقامت الحرب. أجبتُ : “سأقاوم معكم/نّ”. ضحكتْ وٱستطردتْ : “إي واللّه، ما تخافيش إحنا سوى”. ضحكتُ بدوري وفتحتُ هاتفي. عاد المطار إلى الحياة وبرمجةُ رحلتي لم تتغيّر.
غادرتُ المخيّم وبيروتَ بأمل أكبر في المقاومة مصاحَبٍ باقتناع راسخ بأنّ المعارك متعدّدة، وبحنقٍ لا يوصف تُجاه النظام الأبويّ والعنصريّة المقيتة، تقريبا بنفس درجة حنقي على الصهيونيّة والرأسماليّة. ايييه “بدّها طول نفس” كما يُعلّمنا الأعزّاء والعزيزات في غزّة وفلسطين.
غادرتُ بيروت بعد أن ضحكتُ أخيرا من القلب دون إحساس بالذنب وطربتُ لسماع اسمي يُنطَق كما أُحبّ. غادرتُها مُحمَّلة بالقصص والحكايات والهدايا، وبعد أن ٱزدادت قدرتي على الصبر درجة وعلى التطريز درجات.
تركتُ بيروت ورئتاي مليئتان دخانا لم أختر ٱستنشاقه وأذناي تطنّان بشتائم كنتُ أُفضّل عدم سماعها وحاولتُ ٱنتزاع وقعِها عليّ ومن جسدي مع أوّل حمّام ساخنٍ أخذْتُه بعيدا، لكنّني غادرتُها أيضا بعد أن تعرَّف لساني على مذاق النّعنع والطّماطم الذيْن كَبرا بحُبّ الشمس والذي ما فتئ يرفض كلَّ ما يُحاكيهما دون أن يَمُتّ لهما بِصِلةٍ طوال سنين الغربة.
أخيرا، غادرتُها وقلبي وعقلي وكلُّ مافيَّ مقتنع أكثر من أيّ وقت مضى بآنيّةِ العودة وٱنتصار المقاومة لا محالةَ.