لا للتهويل… عن فهم شهادة أبو العبد

04/08/2024
الشهيد إسماعيل هنية أثناء الإبعاد في مرج الزهور بجنوب لبنان

إسماعيل هنية أثناء الإبعاد في مرج الزهور بجنوب لبنان

شهادة أبو العبد

تمكّن مجرمو الكيان من اغتيال إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، بمقر إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران فجر يوم 31 جويلية المنقضي. وكان هذا الإستهداف بالتزامن مع إغتيال فؤاد شكر القائد العسكري بحزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت.


أتى الاستهداف بعد عودة نتنياهو من زيارته لأمريكا وتلفيق حادث مجدل شمس، الذي حمّل الإسرائيليون مسؤوليته لحزب الله اللبناني، رغم أنّ الحزب نفى ذلك. إن المنطق والعقل يفترض ذلك أيضا لأن أهل مجدل شمس يقعون في منطقة محتلّة لازال يرفض أهلها الكيان والانتماء له. حيث أنّه من واجب المقاومة استمالتهم لا معاداتهم.

يُعتبر التهديد بالاستهداف المزدوج ضربة قوية جدّا للكيان، إلاّ أن قراءتنا تُقرّ بأثرها النفسي وبما تُخلّفه من صدمة ورعب أكبر من أثرها العمليّاتي.
لكي نفهم الاغتيال ونُقدّر الموقف يجب أن نفهم الوضع جيّدا، وسيحاول النص التذكير بشيء من البديهيات حول الموضوع.


داخل أمّتنا الكبيرة وعلى امتدادها هناك خطّ للمواجهة وخطّ للمهادنة وتثبيت الأمر الواقع. على أنّه يجب التنبيه أنّ الخطّ المهادن هو الخط الحاكم عربيا وهو المهيمن والمسيطر منذ 1948. وأنّه يتحكّم بالمقدّرات ويمنع تكوّن القوى الشعبية المقاومة وحشدها للتحرير.


يتطلّب خطّ المهادنة لا فقط التوقف عن شعارات التحرير ولكن إعادة ضبط المجتمع والاقتصاد والسياسة بشكل يُضعف حظوظنا في المُواجهة. بمعنى أنّه يُمنع علينا عربيا العمل على فك الارتباط الاقتصادي بحيث تبقى اقتصاداتنا في وظيفة تزويد مصانع العالم بالعمّال والمواد الأولية، وإبعادنا عن التصنيع. وبالتالي، كلّما تأخرنا في الانطلاق في التصنيع واختيار الأسلحة المقاومة المناسبة كلّما ضعفت حظوظنا في المواجهة.
 لا تستغرب، لماذا نتحدث عن المواجهة من هنا، من تونس.  فسواء كنت في ليبيا أو تونس أو المغرب فأنت لست بعيدا عن المواجهة، بل أنت جزء منها غصبا عنك. هذا قدرك كأن تُولد بقصور طبيعي أو مرض عضال في جسمك. وما عليك إلاّ أن تُكافح ضدّه، ولفهم هذا وجب أن نفهم أيضا ماهية العدو.


ما إسرائيل؟


إسرائيل ليست فكرة يهودية أو صهيونية فقط، بل إمبريالية أيضا. فهي امتداد نسيجي للغرب زرعه بيننا ليقوم بالكثير من الوظائف. فهذا الكيان هو أكبر قاعدة عسكرية للغرب في المنطقة، وهو لا يقاتل بقواه الذاتية فقط؛ بمعنى أنّ من يحاربه لا يحارب دولة الكيان فقط، إنما الغرب كلّه، بما يعنيه ذلك من قدرات علمية وتقنية وتدميرية راكمها الغرب طوال 500 عام منذ أن وطأت أقدام كريستوف كولمبس أرض القارة “الأمريكية”.

إنّ الغرب يحرم جميع بلدان العالم  (إلاّ التي تدور في فلكه) من تأسيس صناعتها وبناء أسلحتها ومقدّراتها وتحرمها من السلاح النووي، إلاّ أنهم حرصوا على إعطاء الكيان أقوى أسلحة جو في التاريخ وقدموا له القنبلة النووية منذ الستينيات ولا يتوقّفون عن مدّه بالذخائر والمواد الأولية، وهذا ما يحدث في كلّ حرب لا الآن فقط وبالتّالي فإنّ التفوق التسليحي ليس بجديد.

ومن هنا فإنّ له وظيفة محدّدة أيضا، وهي لجم قوى النمو والتطور والتحرر في الوطن العربي. وقد مارس الكيان ذلك بالحرب العدوانية والتآمر. فقد اعتدى الكيان مع فرنسا وبريطانيا على مصر في 1956 ودعم الكيانات العربية الوظيفية للاستعمار وساهم بقمع ثورة ظفار وثورة اليمن في الستينيات (قبل حرب 1967)، إضافة لتحالفه غير العلني مع القوى الحاكمة التي فككت الصناعات العربية وعمقت مأساة التبعية عندنا، وتتكامل وظيفته مع المؤسسات المالية الدولية التي تغرقنا في المديونية وتساهم في استنزاف مقدراتنا وثرواتنا وتدمير جامعاتنا وكلّ ماهو هو مشترك في بلداننا.

كما أنّ الكيان مهتم ومشغول بفكرة “الجدار الحديدي”، وتعني أن يبني في عقول العرب والمسلمين جدارًا حديديا يمنعهم من قتاله. وذلك برفع كلفة القتال إلى حدود مؤلمة جدّا عبر قتل الأطفال والنساء واستعمال قوة نارية كبيرة جدا ضدّ كل من يقاتله وباستعمال الطائرات واحدث الأسلحة ومن هنا أتت فكرة “عقيدة الضاحية”، التي تبناها قائد أركان جيش العدو في 2006، والتي تعني تدمير المنشآت المدنية أيضا كي تؤلّب شعب المقاومة ضدّها.

لذلك، وجب أن نفهم قوّة الكيان بما أنها يد الغرب الرأسمالي المستعمر الضاربة في بلداننا. ولذلك فإنّ أغلب الأقمار الاصطناعية والمعطيات والخبرات القتالية الإجرامية  في عمليات الاغتيال، إضافة للدعم التقني والاستخباري الغربي غير المحدود، مُسخّرة له حصرا ليقوم بمهمّته.
فقد هاجم الكيان، بعد اختراق أجواء بلدان عربية وبالتعاون مع الغرب عبر تاريخه، مفاعل تموز العراقي ومنشأة دير الزور في سوريا وأخيرا مصافي الحديدة النفطية في اليمن، واغتال قادة فلسطينيّين في أوروبا وتونس ولبنان ودبي، أي أن هذه الحرفة ليست جديدة عليه. أضف إليها أنّ القائد إسماعيل هنيّة ليس متخفّيا بل يوجد في مكان معلوم تفرضه عليه طبيعة مهمّاته الدبلوماسية في السفر والتنقل والحشد.
ولذلك من الطّبيعي أن تنجح هنا أو هناك عمليّة اغتيال.

نعود لخط المهادنة وخط القتال. مع ولادة جدّية لخطّ القتال في بلداننا تبيّن أنّ مُقارعة الكيان أمر ممكن، هو أمر صعب لكنّه ليس مستحيلًا. وسيصبح أسهل لو أنّ خطّ المواجهة في بلداننا تكون له القدرة على تحييد خط المهادنة وحشد عد أكبر من المقدّرات والعتاد والرّجال للنزال المتواصل.
وضربة مؤلمة مثل هذا الاغتيال المزدوج تُعطي الجرأة لخطّ المهادنة كي يتخلى عن مسؤولياته التاريخية ويدعونا مرة أخرى للاستسلام. وهذا الأمر مهمّ هنا، أي أنّه عوض الانخراط في المواجهة (القتالية، الحضارية) فهو يُروّج لأن نعطي للكيان ما لم يأخذه بالقتال.

منذ بدأت الجولة الأخيرة سعى الكيان وداعموه للحصول على ردع من نوع ما، فتهاوي حصونه يوم السابع من أكتوبر وتجرّأ الحزب من جنوب لبنان على إعلان المواجهة يوم الثامن إسنادا ودعما لغزة هو تجاوز لخطوط الردع التقليدية، حيث أن المواجهة مع الحزب تحصل داخل فلسطين المحتلّة لأول مرة منذ 1948. وهذا لمن يعلم خرق استراتيجي كبير وإنجاز يُبنى عليه من أجل مواصلة مسيرة التّحرير. وبالتالي يجب أن نفهم أنّ العدو مجبر على التصعيد لهذا الحدّ وعلى اغتيال قادة كبار من اجل تسجيل نقاط كبيرة يُثبّت بها ردعه المتآكل تجاه كلّ من نهض لقتاله ولكسر إرادة المقاومة في كل مكان، ولكي يعطي لخطّ المهادنة في بلداننا الحُجّة  على عدم جدوى خيار القتال ويقوّي رصيدهم الرمزي في بلداننا ويسمح لهم بالتالي بمزيد التحكم في مصائرنا ويضعف مُعسكر المواجهة.

كلمة أخيرة تفرضها ردود الفعل

سعيت أن أبيّن أن قوة الكيان ليست قوة ذاتية فقط ولكنها من قوة الامبريالية وقوى الاستكبار في العالم. وبالتالي فإنّ مسألة تخوين الإخوة الإيرانيين على خلفية الاغتيال الأخير هو أمر مرفوض تماما. لأنّ العدو لا يَعْدَمُ قوة للوصول إليه ربما بمساعدة عميل من هنا أو هناك، وعوض التهويل على إخوتنا الإيرانيين وجب على المُزايدين أن يوفروا الدعم اللوجستي الذي قدمته إيران وأن يوفروا من بلدانهم مأوى وقاعدة يستقبلون فيها قيادة المقاومة ولا يضطرونها للذهاب نحو طهران، غير أنّهم اعجز من ذلك. هم ثرثارون حمقى يُردّدون عن بلاهة كلام العدو ويحسبون أنفسهم محسنين صنعا بذلك.
لقد قدّم الإيرانييون أعزّ الشهداء قبل هذه الجولة وتحمّلوا تبعات دعم المقاومة ولازالوا يتحمّلون، فإن لم يكن لنا سَهمُ في دعم المقاومة فلنكفّ ألسنة حمقانا عنهم.


مقالات ذات صلة

  •  عن الحلم والكابوس زمن الحرب

    من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على…

    بلا حياد

    blank
  • تحرك أمام سفارة السلطة الفلسطينية احتجاجا على استهداف مخيم جنين

    نفّذ عدد من أعضاء تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين، اليوم الخميس، وقفة احتجاجية أمام سفارة السلطة الفلسطينية في تونس،…

    الأخبار

    blank
  • سقوط الأسد وإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط

    سوريا الجديدة... طريق مليئ بالألغام والمستقبل رهين ذكاء السوريين حتى نتمكن من تحليل الوضع في سوريا اليوم واقعيا، يتحتّم علينا…

    رأي

    blank
  • افتتاحية | عن صعوبة المرحلة وبعض دروسها…

    عندما كتبنا قبل حوالي شهرين ونصف عن "الأيّام المصيرية" التي تعيشها المنطقة العربية، لم نكن نتوقّع أن تتسارع الأحداث بهذه…

    افتتاحيّة, الموقف

    blank