“الإنتاج الثقافي هو أداة قوية يمكنها كتابة تاريخ الثورات والتحولات الاجتماعية، فهو يشكل مرآة تعكس واقع الشعوب وآمالها وطموحاتها.” – إدوارد سعيد
“ياه يا الميدان كنت فين من زمان،معاك غنينا ومعاك شقينا وحاربنا خوفنا ودعينا،ايد واحده نهار وليل ومفيش معاك شئ مستحيل،صوت الحريه بيجمعنا خلاص حياتنا بقي ليها معنى..”
مطلع أغنية يا الميدان- كايروكي بالشراكة مع عايدة الايوبي
إن «الفعل الثوري» في كل أنحاء العالم لم يكن مجرد رغبة اجتماعية في تغير في البنية السياسية والاقتصادية فقط، بل هو بالأساس رغبة في خلق تغير جذري في البنية الرمزية للشعوب. ونعني بالبنية الرمزية كل الأشكال الفنية والتعبيرية التي تنتج المعنى في سياق تاريخي محدد.
ضمن هذا الافتراض النظري، نقدم لكم مقالاً يحاول رصد المسارات الثلاثة الكبرى التي يتنزل ضمنها مراحل تشكل «العقل الفني» لفرقة الروك المصرية ”كايروكي” التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، إلي يوم الناس هذا.
تعريف مادي بالفرقة الموسيقية:
تشكلت الفرقة سنة 2003، وتشكلت من عضوين رئيسيين هما المغني وعازف الغيتار [أمير عيد] ، وشريف هواري عازف الغيتار، ثم إنضم إلى الفرقة كل من ثامر هاشم (دارمز-الطبول), وآدم الألفي (باص غيتار), وشريف مصطفى عازف الأورغ.
كانت الفرقة في بدايتها تقدم أغاني الروك باللغة الإنجليزية في المقاهي والمطاعم والجامعات تحت إسم (النجم الأسود)، قبل أن يتغير إسم الفرقة إلى الاسم الحالي الذي رافق صعودهم الفني [كايروكي]، وهو اسم مركب من لفظين هما [كايرو أي القاهرة]، و “كاروكي” (نوع من الغناء يغني فيه المغنون الهواة أغنية بمصاحبة لموسيقى مسجلة مع استعمال مصدح وعرض كلمات الأغنية على شاشة أمام المغني).
جينيالوجيا كايروكي
إن نقطة الانطلاق في فهم مسار ”كايروكي” التي نعرفها اليوم لا توجد في مسار تشكل واحد، وإن كان تشكلها فنيا بالأساس، فإن هذه الفرقة هي تشكل شبابي يعبر عن فترة زمنية محددة وعن جملة من الإشكالات التي يعاني منها المجتمع المصري في تلك الفترة (العشرية الأولى من الألفية الثانية).
فشخصية أمير عيد بوصفها شخصية مركزية في تشكل الفرقة، تعكس بشكل مباشر الوضعية التي تشكلت ملامح هذه المجموعة الموسيقية الشبابية.
إن الصداقة هي الأساس الذي ربط معظم أعضاء الفرقة و هذا ما يؤكده أمير عيد في أكثر من مناسبة ومن ضمن ما يشكل هذه الصداقة هو تشارك هؤلاء الأصدقاء في الكفاح لسنوات من أجل أن يستمر حلمهم بالغناء معا. فليس من قبيل الصدفة أن تستمر الفرقة لما يقارب العشرين سنة وأن تقضي قرابة ثمان سنوات دون أي أرباح تذكر سوى حفلات صغيرة في المقاهي و النوادي أو بعض الأعمال التجارية لصالح ماركات.
إن هذا اللقاء بين أصدقاء تجمعهم وضعيات اجتماعية متشابهة في علاقة بالدراسة وبإشكاليات الاندماج الاجتماعي هو ما شكل البنية النفسية التي نحتت “جينيالوجيا كايروكي” والتي ستحافظ على هذه الثيمات الأساسية وتتطور من خلالها. وخصوصا إبان المد الثوري في مضر (25يناير 2011) الذي منحهم فرصة الظهور في الساحة مجازيا و ماديا.
صوت حرية يطلب زعيما
إثر صيف 2009 دخلت فرقة “كايروكي” فيما يشبه الموت السريري، حيث غادر بعض أعضائها مصر، فيما غرق بعضهم الأخر في هموم اليومي، وكان سبب كل هذا هو مشاغل الحياة، ونقص الموارد المادية للفرقة.نتيجة لهذه الحالة من الموت السريري للفرقة، مر أمير عيد باكتئاب حاد ورفض تقبل هذه النهاية الدرامية لحلمه كما يقول.
لكن هذه الوضعية لم تستمر كثيرًا بفضل إصراره على تحويل حالته النفسية إلي عمل فني تحت إمضاء كايروكي. وهذا ما جعله ينتج في تلك السنة أغنية ‘ديناصور‘ التي كانت أغنية موجهة لنقد الخطاب الرسمي في مصر وهذا ما يعنبر مجازفة في ذلك الوقت.
في تلك السنوات، وخصوصا أثناء [الموجة الثورية العربية] كانت كايروكي تصارع من أجل أن تجد هوية مناسبة لنفسها، وهذا ما نجحت فيه حيث لم يتأخر صوت هذه المجموعة ليرفع نشيدًا مناسبا للسياق التاريخي، ومع الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الفن في المنعرجات التاريخية الكبرى للأمم. في ميدان التحرير، وبين الجماهير الشعبية المطالبة بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية، يوم 10 فيفري 2011، كانت أغنية صوت الحرية تملأ الفضاء، هناك حيث يلتقي الزمن بالأبدية، والفن بالتاريخ، وكايروكي بالهوية المناسبة التي أعادت لها الروح، وصنعت لها مجدها الذي كان قريبا من النهاية.
هوية خاصة يقول عنها أمير عيد أنها «حلم جميل، كان ممكن أن يصير حقيقة..”
اعتبر العديد من شباب «ميدان التحرير» أن أغنية صوت الحرية هي التعبير الفني عن الثورة، وهي الأغنية التي على إثر صدورها بيوم أعلن حسني مبارك تنحيه عن منصب رئيس الجمهورية.
توجد تجارب مشابهة لأغنية «صوت الحرية» في عديد البلدان العربية التي شهدت موجات ثورية، نذكر منها أغنية الفنان التونسي «الجنرال» في تونس والتي صدرت أياما قبل الإطاحة برأس النظام، وهي أغنية بعنوان “رايس البلاد“.
تجاوزت أغنية «صوت الحرية مليون مشاهدة على اليوتيوب، وصارت الأغنية [وثيقة فنية وتاريخية] يترافق غناؤها بصور أمير عيد و رفاقه بين الجماهير الثائرة. وهذا ما جعلهم يواصلون إنتاج أغان ذات منحى ثوري وسياسي، حيث أنتجت الفرقة أغنية مشتركة مع عايدة الأيوبي تحت عنوان «يا الميدان» وهي أغنية تحتفل وتتغنى بالدور المركزي الذي لعبه ميدان التحرير، وبعد ذلك أصدروا مجموعة أغاني في نفس هذا السياق الثوري والاحتفالي، لعل أهمها أغنية «مطلوب زعيم» وهي الأغنية التي تبدأ بالخطابات التي تعلن موت [رؤساء مصر] منذ أحمد نجيب، مرورا بالزعيم جمال عبد الناصر، مرورا بالسادات، وصولا إلي لحظة إعلان تخلي حسني مبارك عن الرئاسة.
في هذه اللحظة بالذات يبدأ أمير عيد بالمشي في الشارع والغناء :
“مطلوب زعيم، لشعب طول عمرو عظيم، لشعب كان فاعل زمان لكنو هان، حتى إنو صار بإيدينا كبار وإيدين صغار، مفعول بيه بيقسموه ويفرقوه، ويقطعو في عين إلي جابو و جاب أبوه، عشان يموت أو ينتهي..مطلوب زعيم..”
لقد كانت كايروكي في تلك اللحظة صوتًا لحالة العجز التي تعيشها الموجة الثورية، فعبرت من خلال أغنية عن ما ينقص الشعب في تلك اللحظة، هناك حيث عجزت الساحة عن إنتاج زعمائها، فتم السطو عليها وتحويلها إلي إعادة إنتاج للنظام.
زمن التكرار ورغبة في الهروب
مع خفوت المد الثوري، وانحسار المعركة الشعبية، وتحولها إلي صراع سياسي دموي بين فلول نظام الدولة العميقة والإخوان، تحولت كايروكي إلي «جزيرة» مقاومة فنية، تمزج جمالية الكلمة وبساطتها، وبين عناصر موسيقى الروك، وهذا المزج شهد انتشارًا واسعًا في تلك الفترة في مصر والوطن العربي بمجمله (المربع، مسار اجباري، الخ). فما الذي يميز كايروكي عن غيرها من فرق موسيقى الروك في الوطن العربي؟ ما الذي ينحت هوية خاصة لهذه الفرقة الموسيقية؟
بالإضافة لهذا التزامن الذي جمع الزمن الفني لكايروكي، بالزمن الثوري للشعب المصري، والذي تجسد في مجموعة من الأغاني والألبومات، نذكر منها (صوت الحرية، مطلوب زعيم، يا الميدان، احنا الشعب، السكة شمال..)، كان هناك عوامل أخرى لطرافة هذه المجموعة وتميزها.
في الألبوم الأول الذي أصدرته كايروكي سنة 2012، والذي كان تحت عنوان «وأنا مع نفسي قاعد» والذي يحتوي على عشر أغاني، نجد أن الفرقة، وفي وسط الزخم الثوري، تتجه ناحية التعبير عن حالات وجودية يعيش الشاب المصري الذي يعاصر زمن الأنترنات، والذي عاش طفولته في زمن سابق للأنترنات، هذا التشظي الهواوي تعبر عنه كايروكي في هذا الألبوم بشكل مباشر وغير مباشر، فهي تراوح بين التعبير عن حالة الاغتراب والتيه في أغاني بعينها (تايه، وأنا مع نفسي قاعد)، لكنها تقترح وضعيات مقاومة لهذا التشظي والاغتراب (الملك، لو كان عندي غيتار، بكره الشمس تطلع”
في الألبوم الثاني، الصادر سنة 2014، الذي يتخذ من «السكة شمال» عنوان له، تأخذ الفرقة منحى سياسي، متمرد، حيث تعبر أغنية «السكة شمال» عن الروح الثائرة التي يعبر عنها هذا الألبوم، يقول في كلمات الأغنية ما يلي [بس بلدنا موش عوزانا، وبتدينا على قفانا»، هذا التعبير عن مرارة الواقع وعن غضب الشباب في تلك الفترة، وخيبتهم إبان المد الثوري يتواصل طيلة أغاني الألبوم، نذكر منه (ياما في الحبس مظاليم، غريب في بلاد غريبة، الخط داه خطي، إعادة نظر”
في الألبوم الثالث لكايروكي، والذي كان يحمل عنوان «ناس وناس»، كانت الثيمة الأساسية للألبوم هي التنوع والقدرة التي تتمتع بها كايروكي لتقدم أكثر من نمط موسيقي، إضافة لهذا التنوع، تنقلنا كايروكي من خلال جملة من الأغاني في الألبوم إلي موجة جديدة، و وجه أخر للفرقة، هناك حيث يحضر الحب خافتًا في الأسلوب، مشعًا في الكلمات والصور، وهذا ما عبرت عنه أغاني هذا الألبوم بطرق مختلفة (الساموراي، نعدي الشارع، والله ما عايز)
صدر بعد هذه الألبومات التي ذكرناها ألبومات أخرى (نقطة بيضا 2017/أبناء البطة السوداء2019) رواحت فيهما كايروكي مكانها، حيث تناسبت هذه الأغاني مع فقدان الترابط بين الزمن الفني والزمن الاجتماعي، أو للدقة يمكن القول أن الوضع السياسي والاجتماعي المتسم بالركود والرتابة، دفع بكايروكي ناحية تكرار نفسها بشكل مبالغ فيه نوعا ما، وهذا ما دفع بالفرقة ناحية إصدار ألبوم جديد تحت عنوان «روما 2022» يعبر عن التيه الهووي الذي تعاني منه الفرقة في هذه اللحظات.ألبوم نجد فيه بعض الرتابة “الجمالية” التي تحكي وتسرد لنا مشاعر التيه والاغتراب (بسرح وأتوه – نجم-نفسي أحبك) والتي تكررت بشكل كبير في أغاني الفرقة. ونجد فيه أيضا ثيمة ترتبط بهاجس المدن البعيدة (روما/كوستاريكا) ربما كتعبير عن رغبة بالهجرة لمكان بعيد يتسع فيه الواقع للحلم والغناء، وللعيش، حتى وإن كان هذا العيش في “كوستاريكا” التي هي عنوان لإحدى أجمل أغنيات الألبوم.
إن هذه الخيبة والانتكاسة التي تظهر في الرتابة التي صارت عليها كايروكي ليست سوى الوجه الأخر لعملة الواقع الاجتماعي و السياسي الذي فقد حيوته وصار أقرب لبركة اسنة. في هذا الإطار تحاول كايروكي أن تجعل من فنها وسيلة ليعيش سيزيف سعيدا في هذا الزمن الراكد..وهذه مهمة الفنان عندما يفقد الواقع السياسي والاجتماعي حيويته ويفقد الفن طاقته الإبداعية.