“نعلم كلنا أن التنافس نشأ من الاحتكار الإقطاعي. وبالتالي، كان التنافس في الأصل عكس الاحتكار وليس الاحتكار عكس التنافس. لذا فإن الاحتكار الحديث ليس مجرد مضاد بسيط، بل هو بالعكس التوليفة الحقيقية […] إذن فالاحتكار المعاصر، الاحتكار البرجوازي، هو احتكار توليفي، نفي النفي، وحدة الأضداد. إنه الاحتكار في حالته النقية، العادية، العقلانية […] في الحياة العملية لا نجد فقط التنافس والاحتكار والتضاد بينهما لكن أيضا توليفة الإثنين وهي ليست وصفة بل حركة. ينتج الاحتكار التنافس، ينتج التنافس الاحتكار”. ماركس – بؤس الفلسفة
“لأن البرجوازية تحتاج للانفصال، لأنها تريد تشكيل أمة […] تريد فعل ذلك لأن التنافس الرأسمالي يرغمها على الاحتكار على أكبر امتداد ممكن منطقة أسواق واستغلال […] تنشأ الأمة بشكل طبيعي كمشترك من مصالح الطبقات البرجوازية. ولكن الدولة هي التنظيم الصلب الحقيقي للبرجوازية لحماية مصالحها. تحمي الدولة الملكية، وتهتم بالإدارة، وتنظم الأسطول والجيش، وتجمع الضرائب، وتبقي على الجماهير تحت السيطرة. “الأمم” أو بأكثر دقة: المنظمات النشطة التي تستخدم اسم الأمة، أي الأحزاب البرجوازية، ليس لديها غرض آخر سوى العراك من أجل انتزاع نصيب مناسب من التأثير على الدولة، والمشاركة في سلطة الدولة. بالنسبة للبرجوازية الكبيرة، التي تمتد مصالحها الاقتصادية لتشمل الدولة بأكملها وحتى بلدانا أخرى، والتي تحتاج إلى امتيازات مباشرة، ورسوم جمركية، ومشتريات حكومية وحماية في الخارج، فإن مشترك مصالحها الطبيعي، بدلاً من الأمة، هو من يُعرِّف الدولة وحدودها. لا يمكن أن تحجب الاستقلالية الظاهرة التي تمكنت سلطة الدولة من الحفاظ عليها لفترة طويلة بفضل النزاعات بين الأمم، حقيقة أنها كانت أيضًا أداة في خدمة رأس المال الكبير”. أنتون بانيكوك – الصراع الطبقي والأمة
“صناع فرنسا الأكبر يعتبرون بورجوازيين صغار بجانب منافسيهم الإنجليز […] في إنجلترا، تهيمن الصناعة؛ في فرنسا، تهيمن الزراعة. في إنجلترا، تحتاج الصناعة إلى التجارة الحرة، بينما في فرنسا، تحتاج إلى الحماية الجمركية والاحتكار الوطني إلى جانب الاحتكارات الأخرى”. ماركس – صراعات الطبقات في فرنسا
“إذا بدت البورجوازية الصاعدة تحرر الاقتصاد من الدولة، فإن ذلك يحدث فقط في المدى الذي تماثلت فيه الدولة القديمة مع أداة قمع طبقي في اقتصاد ثابت. قامت البورجوازية بتطوير قوتها الاقتصادية المستقلة في الفترة الوسطى من ضعف الدولة، في لحظة تجزئة السلطات الإقطاعية المتوازنة. ولكن الدولة الحديثة التي، من خلال الميركنتيلية، بدأت بدعم تطور البرجوازية، والتي في النهاية أصبحت دولتها في زمن ‘دعه يعمل، دعه يمر’، ستظهر فيما بعد بأنها مزودة بقوة مركزية في الإدارة المحسوبة للعملية الاقتصادية.” جي دبور – مجتمع الاستعراض
“خلال الفترة ما-قبل-الإمبريالية كان التنافس ضمن المراكز أيضا موضوعا لتنظيم الدولة. [مبدأ] دعه-يعمل لم يكن أبدا إلا إيديولوجيًا […] كانت الحمائية وسيلة أساسية، وشرطًا لعملية التحول الصناعي، التي لم تكن بمفردها لتقدر على الانتصار، في سوقها الوطنية نفسها، على المنافسة من الدول الأكثر تقدما. تفتقر البلاغة الليبرالية للإيديولوجيين المعاصرين للإمبريالية، الذين يدّعون أن الحمائية أبطأت التطور بسبب فرضها تكاليفا وتشويشات غير مواتية للاستمثال، تمامًا إلى المنظور التاريخي”. سمير أمين – الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية
ماذا لو قلنا إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن أبدا ليبرالية اقتصاديا منذ استقلالها إلى 1981 بل أنها المعقل التاريخي للحمائية والسياسة الصناعية؟ ماذا لو قلنا إن المعاليم الديوانية في بريطانيا كانت أعلى منها في فرنسا طيلة القرن 18 وخلال الثورة الصناعية إلى نهاية القرن 19؟ ماذا لو قلنا إن بريطانيا ثم ألمانيا بشكل أوسع كانتا سباقتين على فرنسا في الإصلاحات الاجتماعية لصالح العمال؟ ماذا لو قلنا إن معظم التاريخ الاقتصادي لبريطانيا الحديثة قبل النيوليبرالية المعاصرة هو تاريخ الحمائية ودعم الدولة وأن القوس الليبرالي الكلاسيكي انتهى بتراجع الإمبراطورية لصالح الولايات المتحدة وألمانيا؟ ماذا لو قلنا إن التطور الاقتصادي العظيم لكل من ألمانيا واليابان ارتكز على كرتالات مالية-صناعية عائلية مرتبطة عضويا بالدولة؟ ماذا لو قلنا إن فضائح الفساد المالي من أهم خاصيات الدولة اليابانية إلى اليوم؟ ماذا لو قلنا إن الصعود الاقتصادي لكوريا الجنوبية وتايوان لا علاقة له بسوق حر لم يكن موجودا بل ارتبط باقتصاد موجه من الدولة واحتكارت عائلية ضخمة؟
ملاحظات حول الرأسمالية والليبرالية والدولة والإيديولوجية
ماذا لو قلنا إذن أن الخطاب الاقتصادي المهيمن عالميا يروج لسردية لا تمت بصلة للتاريخ الحقيقي للرأسمالية بل أقرب للأسطورة؟لهذه الأقوال حتما تداعيات نظرية وسياسية كبيرة. لكن كيف تشكلت هذه السردية الكاذبة وصارت مهيمنة؟
منذ الانتصار السياسي للإمبريالية في ثمانينات القرن الماضي، لا شك أن أجسام هيمنتها الإيديولوجية خاصة في الإعلام والجمعيات والجامعة لعبت دورا مهما في إنتاج هذه السردية. ولا يحتاج الموظفون الإيديولوجيون لرأس المال الحديث فعليا أو مطولا عن التاريخ الاقتصادي بل بالعكس يكفي تجنب الحديث عنه. فبإعادة إنتاج الخطاب النيولبرالي المهيمن وربطه بالتطور الاقتصادي والبلدان “المتقدمة” يربط المستمع غير المطلع على تاريخها الاقتصادي (ولا شك أن جل الإعلاميين وحتى “الخبراء” الاقتصاديين يجهلونه هم أنفسهم) تقدمها بالسوق والتنافس والليبرالية.
لكن هذه السردية تجد مقبولية أيضا عند مناهضي الإمبريالية عموما والاشتراكيين وحتى الماركسيين. بالإضافة إلى تداعياتها السياسية والنظرية، يشكل استبطانها عائقا نفسيا وسبب قلق وأرق عاناه هذا الكاتب ويرجح أن عديد مناهضي الرأسمالية يشاركونه. إن كانت الدول الثرية، بلغت هذا التطور الاقتصادي بفضل السوق والتجارة الحرتين وتحفيز التنافس للخلق والإبداع والابتكار والتجديد فإن رفض الرأسمالية واقتصاد السوق هو رفض للتطور. هو أكثر من ذلك رفض مثالي صرف باسم قيم اعتباطية مثل المساواة أو العدالة أو تعاطفا مع الفقراء. وكما يقول ليبراليونا ويساريونا: يجب أولا “خلق الثروة” ثم قد يمكن تقاسمها. أما الاشتراكية فهي تقاسم الفقر!
بما أنه من المعلوم أن التطور الاقتصادي الهائل الذي شهده العالم قد حدث ضمن نمط الإنتاج الرأسمالي، فإذا سلمنا بأن الرأسمالية هي السوق الحر والتنافس وأن الاشتراكية هي التدخل الواسع للدولة، يصير من الصعب الرد بعقلانية (اقتصادية وتاريخية) على الخطاب النيولبرالي. لكن المسلمة الأخيرة هي تحديدا الخطأ النظري والتأريخي الذي يحمل فوقه كل هذا المأزق النفسي والسياسي.
هذا الخطأ هو الخلط بين الرأسمالية والليبرالية. يتعلق هذان المفهومان في الحقيقة بمستويات نظرية مختلفة. الرأسمالية هي الواقع الملموس لنمط الإنتاج الرأسمالي وهو نظام اقتصادي بدأ في التشكل منذ حوالي خمس قرون، كمرحلة جديدة من تاريخ المجتمعات الإنسانية. يندرج إذن مفهوم نمط الإنتاج الرأسمالي ضمن دراسة الاقتصاد والتاريخ والتاريخ الاقتصادي. بما أن الماركسيين يعتبرون أن هذه القاعدة الاقتصادية تؤطر تصرفات الأفراد والسياسة والأفكار والثقافة فالرأسمالية بالنسبة لهم هي كلية النظام الاجتماعي. تُستعمل عادة كلمة رأسمالية بالمعنيين: أولا بمعنى نظام اقتصادي أي مكان مصطلح “نمط الإنتاج الرأسمالي” الثقيل؛ ثانيا بمعنى الكلية الاجتماعية الملموسة عالميا أو داخل دولة. يتحدث الماركسيون بالمعنى الأخير عن “تشكيلات اجتماعية” رأسمالية (مختلفة) أو عن رأسماليات ورأسمالية عالمية (إمبريالية) هي تمفصل هذه الرأسماليات.
أما الليبرالية فهي فلسفة أي مجموعة مترابطة من الأفكار. تطرح رؤية للإنسان والمجتمع في مختلف أبعادهما بما في ذلك السياسية والاقتصادية التي تهم هذا النص. يأتي خلطها مع مفهوم الرأسمالية من فهم مثالي للتاريخ والعالم هو التالي: تشكلت الرأسمالية كتطبيق لأفكار الليبراليين. بالعكس وكما تعرف النظرية الماركسية بديهيا: تشكلت الليبرالية مع صعود المجتمع الرأسمالي. أكثر من ذلك: إن لم تعارض الليبرالية نمط الإنتاج الرأسمالي في حد ذاته فقد تشكلت في علاقة نقدية بواقعه الملموس وبعض جوانبه. صعدت الليبرالية ببساطة كنقد (رأسمالي، أي من داخل الرأسمالية) للرأسمالية الموجودة فعليا. ليس ثروة أمم آدم سميث احتفاء بواقع الرأسمالية البريطانية الذي عاصره بل هو نقد لاذع لسياسة الحماية والدعم المركنتيلية ولمفاهمات البرجوازية على العمال والمستهلكين. ينتقد دافيد ريكاردو هو الآخر في مبادئ الاقتصاد السياسي والجباية[1] نفس سياسات مساندة الإنتاج والتصدير وحضر التوريد المتواصلة ويدعوا إلى اعتماد التجارة الحرة.
يمكن الآن توضيح المكانة المختلفة للدولة والسوق والتنافس في الليبرالية كنظرية (ما يوصي به الليبراليون ونظرياتهم) من جهة وفي الرأسمالية كواقع تاريخي ومعاصر من جهة أخرى. ليس نمط الإنتاج الرأسمالي اقتصاد السوق والتنافس وعدم تدخل الدولة. لا يعني تراجع تدخل الدولة وتعميم التنافس أو اشتداده تقدم الرأسمالية ولا اشتغالها بأكثر نجاعة. كما لا يعني تدخل الدولة أو انتشار الاحتكار والتفاهم تقدم الاشتراكية وتراجع الرأسمالية أو اشتغالها بشكل أسوء.
الرأسمالية هي نمط الإنتاج القائم على مراكمة رأس المال، أي أن هدف عمليات الإنتاج هو تحقيق أكثر مال لصاحب وسائل الإنتاج مما صرف للقيام بهذه العمليات. عندما يُدفع المال من أجل عودة كمية أكبر منه يصبح رأسَ مالٍ. أما عندما يصرفه فرد مثلا لاقتناء حاجات استهلاك فهو وسيلة تبادل[2]. الفارق بين كمية المال الأولية وكمية المال العائدة بعد رسملتها الناجحة هو الربح. يمكن اختصار تعريف نمط الإنتاج الرأسمالي بالقول أنه النمط حيث يحدث الإنتاج بهدف الربح.
ليس الربط بين عمليات الإنتاج الرأسمالية وحاجيات المجتمع (الرأسمالي) “طبيعيا” أو تلقائيا بل هنا تتدخل آليات ومؤسسات وأجسام مثل السوق والعائلة والسلطة السياسية أو الدولة[3].
إن هذه الأطروحات الماركسية المجردة هي طبعا تكثيف لدراسة التاريخ الحقيقي للرأسماليات وعلاقاتها العالمية. تبين الدراسات التاريخية أيضا أن السوق سابق للرأسمالية ويذهب حتى البعض ومن بينهم ليبراليون للقول إنه في تناقض معها. يكتب المؤرخ فرناند برودال: “ألخص الأمر: نوعان من التبادل؛ واحد مباشر، تنافسي، كونه شفاف؛ الآخر أعلى، رفيع، مهيمن. لا تقوم نفس الآليات ولا نفس الفاعلين على هاتين النوعيتين من الأنشطة، ولا يقع مجال الرأسمالية في الأولى وإنما في الثانية […] أتأكد هكذا برأيي، الذي انتسبت إليه شخصيا ببطء، وهو أن الرأسمالية تنبع بامتياز من الأنشطة الاقتصادية في القمة أو التي تميل نحو القمة. وبالتالي، فإن هذه الرأسمالية عالية الطراز تطفو فوق السُمْكِ المضاعف للحياة المادية والاقتصاد المتناغم للسوق، وهي تمثل منطقة الربح العالي […] دائما ما كانت الرأسمالية احتكارية […] ما يؤسفني من جانبي، ليس كمؤرخ وإنما كإنسان عاش في زمنه، هو أنه في العالم الرأسمالي وكذلك في العالم الاشتراكي، يتم رفض التمييز بين الرأسمالية واقتصاد السوق. إلى أولئك الذين ينتقدون آثار الرأسمالية في الغرب، يرد عليهم السياسيون والاقتصاديون بأن هذا هو الأقل من الشر، والجانب السيئ الضروري للمبادرة الحرة واقتصاد السوق. أنا لا أعتقد منه شيئا. وإلى أولئك الذين، وفقًا لحركة مرهفة حتى في الاتحاد السوفيتي، يشعرون بالقلق من ثقل الاقتصاد الاشتراكي ويرغبون في تهيئة أكثر “تلقائية” له (قد أترجم: المزيد من الحرية)، فإن الرد يكون بأن هذا هو الأقل من الشر، والجانب السيئ الضروري لتدمير الوباء الرأسمالي. أنا لا أعتقد من شيئا أيضًا. ولكن هل المجتمع الذي سيكون مثاليًا بالنسبة لي ممكن؟ لا أعتقد على الأقل أنه يحظى بالكثير من المؤيدين في جميع أنحاء العالم!”[4].
عنونت الفيلسوفة الفرنسية فاليري شارول أحد كتبها الليبرالية ضد الرأسمالية[5] وفيه نقرأ مثلا: “مستمدًا جذوره من فكر التنوير، يظهر السوق في الفكر الليبرالي كالجانب الآخر الملازم للديمقراطية؛ يستند إلى الاعتراف بحرية كل فرد وقدرته على المشاركة في المجال الاقتصادي. بالتالي، فبشكل منطقي جدا، يعتبر آدم سميث، المنظّر المؤسس للليبرالية، أن كل ثروة اقتصادية تنبع من العمل. تعمل بذلك المنافسة لضمان ألا يفضي اشتغال السوق إلى مواقع مهيمنة، بل أنه سيؤدي بالعكس إلى توازن طويل الأمد حيث ستكون الأرباح معتدلة والعمل متاحًا للجميع […] بهذا المعنى يمكن أن نقول أنّ ممارستنا للاقتصاد رأسمالية لا ليبرالية. بل هي مضادة لللبرالية بعمق […] يختفي ما كان يسمح للمنظرين الليبراليين اقتراح نظرة متوازنة للمجتمع في هذه الممارسة الرأسمالية. يتحول قانون السوق إلى قانون الأقوى”.
من الولايات المتحدة الأمريكية نقرأ في كتاب بعنوان أسواق جذرية: اجتثاث الرأسمالية والديمقراطية من أجل مجتمع عادل: “منطلقنا هو أن الأسواق هي، وستظل على المدى المتوسط، أفضل طريقة لتنظيم المجتمع. ولكن في حين يُفترَض أن يتنظم مجتمعنا عن طريق الأسواق التنافسية، نساجل أن الأسواق الأكثر أهمية محتكرة أو غائبة تمامًا، وأنه من خلال خلق أسواق تنافسية حقيقية ومفتوحة وحرة، يمكننا وبشكل هائل تقليص اللامساواة وزيادة الازدهار، وشفاء الانقسامات الإيديولوجية والاجتماعية التي تمزق مجتمعنا […] الأساس الفكري لهذا المأزق كان الافتراض المتزايد لدى الاقتصاديين بأن الأسواق “تنافسية تماما”، مما يعني وجود عدد صغير من السلع المتجانسة، وعدم حوزة أو شراء أي فرد جزء كبير منها. يضطر الجميع للتنافس بحيوية لبيع منتجاتهم وشراء الأشياء التي يحتاجون إليها من الآخرين […] ومع ذلك، يعمل عدد قليل من الأسواق في العالم الحقيقي بهذه الطريقة […] وحتى عندما يبدو أن هناك العديد من هذه الشركات، فإنها في كثير من الأحيان تشترك في الملّاك أو تتواطأ. من الأسفل إلى الأعلى، فإن السلطة على السوق – أي قدرة الشركات والأفراد على التأثير على الأسعار لصالحهم – تغلغلت في الاقتصاد. نحن ندّعي أن السلطة على السوق موجودة في كل مكان وجوهرية للبنية المؤسسية الحالية للرأسمالية […] مثل الشركة الاحتكارية، يمكن لصاحبة أرض أن تحقق عوائد أعلى من بيع أرضها من خلال انتظار عرض سخي (مما يؤدي إلى منع العرض في السوق) بدلاً من البيع لأول شخص يعرض سعرًا عادلًا. في هذه الأثناء، يتم ترك الأرض غير مستخدمة أو مستخدمة بشكل غير كامل. وبالتالي، قد تعيق الملكية الخاصة النجاعة الإسنادية. وهذا ليس الحال فقط بالنسبة للملكية الخاصة للأرض: بل يمكن أن تعيق الملكية الخاصة لأي أصل، باستثناء السلع المتجانسة، النجاعة الإسنادية. فكِّر في معدات الأعمال والسيارات والفن والأثاث والطائرات والملكية الفكرية. والمبلغ الذي نتحدث عنه ليس صغيرًا. نظرًا لانتشار الملكية الخاصة في اقتصادنا، تشير الأبحاث التجريبية إلى أن سوء إسناد الموارد بسبب الاحتكار والمشاكل ذات الصلة […] قد تقلل الإنتاج بنسبة 25٪ أو أكثر سنويًا – تريليونات الدولارات سنويًا في الولايات المتحدة وحدها”. يُذكِّر بعد ذلك الكاتبان بأن بعض مؤسسي النظرية النيوكلاسيكية والهامشية مثل والراس وجيفونس كانوا يتعاطفون مع نوع من الاشتراكية الليبرالية وينتقدون الملكية الخاصة حتى أن الأخير قال إن الملكية اسم آخر للاحتكار[6].
يمكن في الحقيقة العودة بالنقد الليبرالي للرأسمالية والملكية الخاصة إلى القرن التاسع عشر بقلم جون ستيوارت ميل الذي دافع على تعميم التعاونيات وتوفير الحكومة لخدمات عمومية مثل التعليم. بهذا المعنى يتحدث البعض على “اشتراكية ليبرالية”[7].
يمكن لتثبيت الأفكار بشكل مجرد حصر الرأسمالية بين قطبين حسب علاقة الدولة والسوق: من جهة رأسمالية ليبرالية لا تقوم فيها الدولة بأي تدخل في المجال الاقتصادي (إنتاج، تبادل، توزيع[8]) بل تكتفي بحماية الأفراد وملكيتهم الخاصة وفرض الالتزام بالعقود وحماية حدود الدولة من أي عنف أجنبي[9]؛ من جهة أخرى رأسمالية دولة يتقلص فيها مجال السوق إلى أدناه وتستثمر فيها الدولة لمراكمة رأس المال. اقتربت بريطانيا قليلا من الأولى في نهاية القرن التاسع عشر والعقدين الأخيرين من القرن العشرين. اقتربت من الثانية ألمانيا واليابان في القرن التاسع عشر وأول العشرين ثم الاتحاد السوفياتي بعد 1921 عندما طرحت السياسية الاقتصادية الجديدة بناء رأسمالية دولة احتكارية. لاحقا اقتربت منها كوريا الجنوبية وتايوان في فترة صعودهما[10].
بنفس الشكل ولمزيد توضيح الأمور يمكن الحديث عن اشتراكية مخططة وعن اشتراكية سوق. تتخصص الأولى والتي يدافع عنها ماركس والتيار الماركسي باشتراكية كل المجتمع في ملكية وسائل الإنتاج وإلغائها السوق والتبادل. يتم توظيف الموارد والعمل وتوزيع مقادير الاستهلاك حسب مخطط. أما الثانية فتتمثل في ملكية العمال في كل وحدة إنتاج لوسائل إنتاجهم بشكل جماعي. يحددون أسعارهم ويقررون توظيف الموارد وكميات الإنتاج حسب آليات السوق ربما في تنافس مع وحدات أخرى. لا يذهب في الواقع المدافعون عن اشتراكية السوق إلى هذا الحد كونهم اشتراكيين. يدافعون عادة على وجود السوق في قطاعات معينة إلى جانب التخطيط في القطاعات الاحتكارية[11].
أما بالنسبة للتنافس فعلاقته بكلا السوق والدولة ليست أحادية الاتجاه. يجب أولا الإشارة إلى أن السوق أعم من التنافس: في غياب السوق يغيب التنافس (الاقتصادي). لكن السوق ليس بالضرورة تنافسيا بل يمكن أن يكون احتكاريا. السوق مرتبط بالملكية الخاصة للمنتجات وتبادلها بين أفراد أو شركات أو قطاعات قد لا تكون في تنافس.
وإن كان التنافس الحر والاحتكار متناقضين فإن التنافس الحر يؤدي إلى الاحتكار بإفلاس الوحدات الاقتصادية الأقل نجاعة وبقاء حفنة من الأقوياء. كما يمكن للدولة أن تتدخل للحد من التنافس أو قد يكون ذلك الأثر غير المباشر لبعض تدخلاتها مختلفة الغاية (حماية الصحة والمحيط). يمكنها أيضا التدخل لتدعيم التنافس. فلا يعني عزوف الدولة عن التدخل الاقتصادي ازدهار التنافس بل قد يعني ازدهار الاحتكار.
من هنا يأتي مفهوم الرأسمالية الاحتكارية ورأسمالية الدولة الاحتكارية حيث تشير مفردة الدولة في الثاني إلى أهمية دورها وتدخلها. وهنا يأتي الخطأ التأريخي والنظري الذي يقع فيه عديد الماركسيين. ساهم ماركس بشكل غير مباشر في هذا الخطأ. يأخذ التنافس في كتاباته حول الرأسمالية مكانة معتبرة. فتلعب منافسة بضائع المصانع الرأسمالية المتطورة دورا مهما في قتل الإنتاج البضاعي البرجوازي-الصغير (الحرفيون مثلا). كما يمثل التنافس مكونا مهما من الواقع الاجتماعي الرأسمالي والإيديولوجية الفردانية المرتبطة به.
أما في كتاباته الاقتصادية فافترض ماركس عموما التنافس ولم يهتم إلا بشكل هامشي بالاحتكار. لكن عند وضع هذه المعاينة في سياقها قد يتبين أنها تشير إلى نقيض ظاهرها. يعتمد التنظير في موضوع محدد من الواقع، نظرا لتعقيده الكبير، على عملية تجريد. يعني ذلك عمليا إهمال جوانب أو أمور متعلقة بمحل البحث وقد تؤثر فيه بشكل ثانوي. كان هاجس ماركس تحديدا ومنذ جداله مع برودون، تبيين أن أساس الرأسمالية والتفسير العلمي لظواهرها (اللامساواة والفقر وتركز الثروة أو بأكثر تقنية الربح وتركز رأس المال والاستغلال) يكمن في عملية الإنتاج لا في التبادل والتوزيع.
يطور ماركس لتفسير هذه الظواهر نظرية العمل للقيمة. يمكّنه افتراض تنافس مثالي من افتراض أن سعر البضائع في السوق مساوٍ لقيمتها (كمية العمل الضروري اجتماعيا الذي تحتويه). يجنبه ذلك في مرحلة أولى إثقال طرحه بمشكلة اختلاف أسعار السوق عن قيمها (“مسألة التحويل”) التي لا تفسر المسائل التي يهتم بها. سيخصص لها لاحقا جزء من الكتاب الثالث لرأس ماله.
“في وصفنا لكيفية تحوّل علاقات الإنتاج إلى كيانات وجعلها مستقلة في علاقة بفاعلي الإنتاج، نترك جانبا الطريقة التي تظهر بها العلاقات بينهم، بسبب السوق العالمية وظرفياتها، وحركات أسعار السوق، وفترات الائتمان، ودورات الصناعة والتجارة، وتناوبات الازدهار والأزمات كقوانين طبيعية ساحقة تفرض إرادتها عليهم بشكل لا يقاوم، وتواجههم كضرورة عمياء. نترك ذلك جانبا لأن الحركة الفعلية للمنافسة تنتمي إلى نطاق أوسع من نطاقنا، ونحن بحاجة فقط إلى تقديم التنظيم الداخلي لنمط الإنتاج الرأسمالي، في متوسطه المثالي، كما هو“[12].
يجب من جهة أخرى تذكر العنوان الفرعي لرأس المال: “نقد الاقتصاد السياسي”. فالمشروع الأصلي لهذا العمل هو نقد الاقتصاد السياسي الكلاسيكي والليبرالي عموما على ميدانه (بعد أن تم نقده على ميدان المادية التاريخية كإيديولوجية الطبقة المهيمنة). يتضح ذلك في المجال الكبير الذي يأخذه نقاش وجدال أفكار سميث وريكاردو وتلاميذهما وغيرهم من الاقتصاديين المؤثرين. في هذا الإطار يتمثل جزء من نقد ماركس في الإقرار بعديد الفرضيات أو المسلمات أو الأطروحات الكلاسيكية وتبيين الأخطاء التي يصل إليها الاقتصاديون على أساسها ثم إصلاحها.
يمكن هكذا فهم تعامل ماركس مع التنافس كالآتي: حتى لو فرضنا تنافسا وسوقا مثاليين، فالاستغلال وتركز رأس المال والأزمات وغيرها من الظواهر لن تختفي لأن أساسها في الإنتاج الرأسمالي حتى في شكله المثالي. ويبدو هذا أرجح بالنظر للتنديد الكبير الذي وجهه الليبراليون للاحتكار والمفاهمات وتدخلات الدولة كسبب في المشاكل الاقتصادية. يكتب سميث: “نادرًا ما يجتمع أشخاص من نفس المهنة معًا، حتى للترفيه والتسلية، دون أن ينتهي الحديث بمؤامرة ضد العموم، أو ببعض التلاعب لرفع الأسعار” وفي مكان آخر أن “الاحتكار […] عدو كبير للإدارة الجيدة، التي لا يمكن أن تتأسس كونيا إلا نتيجة للمنافسة الحرة والشاملة” وأيضا أن “توسيع السوق وتقليص التنافس هو دائمًا في مصلحة التجار. قد يكون توسيع السوق مناسبًا في كثير من الأحيان لمصلحة العموم؛ ولكن تقليص التنافس يكون دائمًا ضدها ويمكن أن يخدم فقط تمكين التجار، عن طريق زيادة أرباحهم فوق ما تكون طبيعيًا، من فرض ضريبة عبثية على بقية نظرائهم المواطنين. يجب دائمًا أن يتم الاستماع إلى اقتراح أي قانون جديد أو تنظيم تجاري يأتي من هذه الفئة بحذر شديد، ويجب ألا يتم اعتماده أبدًا إلا بعد أن يتم فحصه بعناية طويلة، لا فقط بأدق الاهتمام بل بأكثره تشكيكا. إنه يأتي من طبقة من الناس الذين لا تكون مصلحتهم تمامًا نفسها مصلحة العموم، والذين عمومًا يملكون مصلحة في خداع وحتى قمع العموم، والذين، وفقًا لذلك، خدعوا وقمعوا العموم في العديد من المناسبات”.
ورغم ذلك يجب لوم ماركس لكونه (حسب علم الكاتب) لم يوضح هذه المسألة بالقول صراحة أن التنافس المثالي غير موجود فعليا وكونه فرضية تبسيطية أو أنه يسلم به لجدال الليبراليين على أساس فرضياتهم.
هذا ويشير ماركس في بعض الأماكن إلى الاحتكارات وطريقة أخذها بعين الاعتبار في نظريته وأثرها الثانوي الذي يتمثل في إعادة توزيع فائض القيمة (المحدد مسبقا بالإنتاج) لصالح المحتكر على حساب بقية الفاعلين.[13]
يجب أيضا الإشارة لكون ماركس عاصر وشهد على عين المكان فترة تحرير واحتدام التنافس في بريطانيا. لا شك أن ذلك جعل التنافس الحر يبدو فرضية نظرية واقعية ومعقولة، خاصة وأنه كان يظن أن بريطانيا كونها الأكثر تطورا اقتصاديا نموذج ستلتحق به كل البلدان وسينحت العالم على صورته وهو ما كان خاطئا. نعرف اليوم أن هذه الفترة كانت استثنائية مقارنة ببقية الرأسماليات وفي تاريخ بريطانيا نفسها حيث لم تدم طويلا.
إذ أدى هذا التنافس حيثما ما وُجِد كما نظّر ماركس مشاهدا ديناميكيته إلى التركز والاحتكار. لكن على عكس انتظاراته وآماله لم يفض ذلك في الرأسماليات الأكثر تقدما إلى ثورة اشتراكية بل إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. تأتي هنا مسؤولية الأممية الثانية وخاصة لينين لشهرة كراسه حول الإمبريالية. شدد الأخير كما يجب على أن الإمبريالية، التي يعرفها بكونها المرحلة الاحتكارية للرأسمالية، ليست مسألة هيمنة القطاع المالي ولا هي سياسة برجوازية اعتباطية بل أن الماركسيين يجب أن يجدوا أساسها في الإنتاج. تطورت تحديدا قوى الإنتاج ووسائل النقل والاتصال طيلة القرن التاسع عشر إلى مستويات جعلت حفنة من الشركات قادرة على تلبية حاجيات بلدان كاملة وأكثر في عديد القطاعات المهمة. ليس إذن مفهوم الرأسمالية الاحتكارية الماركسي مسألة ممارسات فاسدة من البرجوازية والدولة قد تكون أو لا تكون لأسباب عرضية بل هي بنية اقتصادية جديدة تكرس تصرفات جديدة للفاعلين.
على هذا الأساس ازدرى لينين كما يجب دعوات البرجوازية-الصغيرة وأوهامها حول “العودة” إلى (وهم) التنافس الحر والنزيه. لكنه قام في خضم ذلك عن جهل أو عن غير وعي بتنازل نظري وتأريخي للبرجوازية. قسم لينين تاريخ الرأسمالية إلى مرحلتين: الأولى رأسمالية تنافسية تؤدي إلى الثانية وهي رأسمالية احتكارية. اعتبر فوق ذلك أن المرحلة الاحتكارية هي مرحلة تعفن وانحدار الرأسمالية والتنافسية مرحلة ازدهارها وصعودها.
كتب لينين “الإمبريالية: أعلى مراحل الرأسمالية” بغاية التبسيط والتعميم[14]. باستعمال إحصائيات ودراسات اقتصادية حول تركز الإنتاج ورأس المال والإمبريالية، كان هدفه الأساسي استخلاص الموقف السياسي الثوري والدفاع عنه ضد الانتهازيين. لم يهتم في الحقيقة بالمرحلة التنافسية المفترضة.
يمكن توصيف ما شهده لينين بشكل أفضل بعد المسافة التاريخية بأزمة الانتقال إلى الرأسمالية الاحتكارية. نعرف اليوم أن المرحلة الاحتكارية ليست مرحلة أزمة الرأسمالية ككل فقد تجاوزت القرن من الزمن وحققت استقرارا نسبيا على المدى البعيد وتواصل فيها تطور قوى الإنتاج أكثر حتى من مرحلة “شباب” الرأسمالية وتغيرت تحتها البنى الاجتماعية والطبقية.
أما بالنسبة لوصف المرحلة السابقة بالتنافسية أو الليبرالية فقد أصلح الماركسيون هذا الخطأ منذ متوسط القرن السابق. يكتب بول ماتيك أن: “‘المجتمع التنافسي’ بالمعنى الذي يدافع عنه اليوم من يدّعون كسر المفاهمات ومناهضة الفاشية لم يكن موجودًا في الواقع. كان مكانه في منهجية نظرية الاقتصاد التي كانت في حد ذاتها مجرد مرحلة من الإيديولوجية التقليدية. كانت نظرية المنافسة موجهة ضد التدخلات من قوى الماضي التي لم تهزم بعد“[15] ونيكوس بولنتزاس: “صحيح أنه لم يكن هناك أبدا مرحلة في الرأسمالية حيث لم تضطلع الدولة بدور اقتصادي مهم، “الدولة الليبرالية”، مجرد دولة-شرطي للرأسمالية التنافسية، كانت دائمًا خرافة”[16].
يمكن على أساس الدراسات التاريخية اللاحقة تأريخ مراحل تطور الرأسمالية بشكل أصح وأدق. بعد فترة تمهيدية في القرن 15-16 شهدت اتساع السوق والتجارة والإنتاج السلعي، لعبت فيها كبرى المدن الإيطالية وبرجوازياتها دورا مهما، انطلقت الحقبة المركنتيلية باكتشاف القارة الأمريكية واستعمارها. يخرج نقاش صعود ونزول اسبانيا والبرتغال ثم هولاندا خلال هذه الفترة على موضوع النص[17]. بسياسة فلاحية وصناعية وتجارية (مركنتيلية) تدخلية في الإنتاج والتجارة عموما، حمائية للسوق والإنتاج الوطنيين وهجومية إمبريالية تدعم اختراق وافتكاك الأسواق الأجنبية، صعدت الرأسمالية الفرنسية تحت لويس 14 ووزيره كولبير في القرن 17 ثم بريطانيا في القرن 18 (بعد صراعات اجتماعية وسياسية كبرى في القرن السابق) خاصة تحت وزارة روبرت والبول. أدى ذلك إلى تطور هام في الفلاحة (ثورة فلاحية حسب البعض) ثم ثورة صناعية انطلقت أواخر القرن 18.
تمتد الفترة بين الثورة الصناعية وصعود الرأسمالية الاحتكارية على قرابة قرن. يرتكز تخصيص المرحلة الاحتكارية وفصلها عما سبقها على التركز المتزايد لقدرات الإنتاج والإنتاج والتشغيل والمداخيل ورأس المال عند عدد أصغر من الشركات وهذا واقع تاريخي بديهي. يكمن الخطأ في اعتبار التشتت الأعلى (أو التركز الأقل) للوزن الاقتصادي على عدد أكبر من الشركات مرادفا للتنافس بينها. لا يعني تواجد شركات على أرض نفس الدولة أنها موجودة في سوق واحد حتى حيث تم إلغاء كل العوائق السياسية أمام وحدة السوق (توحيد العملة وإلغاء كل التضييقات والحمايات الجهوية على تنقل البضائع بما فيها العمل). يمثل النقل بسبب تكلفته العالية وتطوره المتدني إلى حدود نصف القرن 19 تقريبا، أكبر عائق أمام التوحيد الاقتصادي الفعلي للأسواق الوطنية. لا يمكن مثلا لمعمل نسيج في مانشستر (نحو شمال غرب انجلترا) منافسة معمل قريب من لندن (جنوب شرقي البلاد) على سوق العاصمة نفسها حتى لو كان أفضل منه إنتاجية أي منتجا نفس البضاعة بتكلفة أقل. فبإضافة ثمن النقل إلى لندن سيرتفع السعر النهائي إلى مستوى يجعله غير تنافسي، أعلى من أسعار منتجي أجوار لندن الأقل نجاعة (تلعب تكلفة النقل نفس دور معلوم ديواني). لذلك فإن العدد الأكبر للشركات والتشتت الأكبر للوزن الاقتصادي بينها على مستوى وطني لا يعني تنافسها في سوق وطني واحد بل كانت في عديد القطاعات منحصرة في أسواق جهوية منفصلة عن بعضها.
لعبت سكك الحديد والقطارات دورا أساسيا في تاريخ الرأسمالية وتحديدا في المرور إلى المرحلة الاحتكارية. بتقليصها العظيم لتكاليف النقل وربطها أهم المدن، وحّدت فعليا الأسواق الوطنية وأدخلت مختلف المناطق والشركات التي تملك قدرات إنتاجية كافية في تنافس على مستوى وطني. بحلول منتصف القرن 19، يمكن القول إن الدول الرأسمالية الأكثر تطورا (خاصة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة) دخلت في مرحلة تنافسية على مستوى وطني.
بمرور حوالي ثلاثين سنة من هذا التنافس (وهذه تحديدا الفترة التي شهدها ماركس في بريطانيا وكان يشتغل فيها على الاقتصاد) وبمزيد تطور قوى الإنتاج، بدأ التركز الاقتصادي يظهر. مع حلول سبعينات وثمانينيات القرن 19، صار الاحتكار والكرتالات والإمبريالية موضوع الساعة في مختلف الأوساط السياسية والاقتصادية.
في هذه الفترة تحديدا بدأت الرأسماليات والدول الوطنية الألمانية والإيطالية واليابانية والروسية والسويدية في التطور والاكتمال. لذلك لم تشهد هذه الرأسماليات أصلا الفترة التنافسية القصيرة التي شهدتها الدول السباقة، وتشكلت رأسمالياتها احتكارية منذ البداية.
على هذا الأساس يمكن تقسيم القرن الممتد بين الثورة الصناعية والرأسمالية الاحتكارية بدقة وتفصيل إلى فترتين ومرحلة انتقالية. يمكن تسمية الفترة الأولى ببساطة بالثورة الصناعية. تتميز هذه الفترة على لاحقتها بتشتت رأس المال والإنتاج وحجمهما المتواضع. مرت بعد ذلك البلدان الصناعية الأكثر تقدما بين أربعينات وسبعينات القرن 19 بمرحلة تنافسية، أدت مع مزيد تطور قوى الإنتاج وبعد أزمة مالية إلى تركز كبير لرأس المال والإنتاج.
يمكن تلخيص الأمر فيما يخص تركز رأس المال والإنتاج (وبنية الأسواق كما يقول النيوكلاسيكيون اليوم) كالآتي: فترة تشتت وحجم صغير ودور ثانوي للآلات الصناعية وأسواق وطنية غير مكتملة ثم مرحلة انتقالية (مرت بها الدول الرأسمالية الأقدم والأكثر تطورا) تتوحد خلالها الأسواق الوطنية فيحتدم التنافس ثم أخيرا تركز رأس المال والإنتاج وارتفاع حجمهما وتوسع حجم واستعمال الآلات الصناعية (اكتملت هيمنة الرأسمالية وبدأ تطورها مباشرة في عديد الدول خلال هذه الفترة).
لا يصح إذن الحديث عن فترة رأسمالية تنافسية بنفس مكانة الرأسمالية الاحتكارية (“الإمبريالية”) والمركنتيلية. دامت الأخيرة أكثر من قرنين والمرحلة الاحتكارية أكثر من قرن ومازالت قائمة[18]. كما أن مفهومي الرأسمالية الاحتكارية ببعدها الإمبريالي (هيمنة تصدير رأس المال النقدي والصناعي) والمركنتيلية (هيمنة التجارة غير المتكافئة للبضائع والنهب والعبودية) يكثفان بنية الرأسمالية كنظام عالمي بينما الرأسمالية التنافسية هي مرحلة استثنائية قصيرة مرت بها فقط حفنة من الدول.
على أمل أن تكفي هذه التوضيحات مبدئيا لتصحيح الأخطاء النظرية والتأريخية حول مكانة التنافس والسوق والدولة في الرأسمالية، يجب الإشارة إلى عوامل مباشرة وسياسية وأكثر سطحية في انتشار التزييفات الإيديولوجية حول هذه المسائل.
منذ انتصار النيولبرالية و”انفتاح” الصين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وجدت الحركة الاشتراكية نفسها في حالة ضعف ودفاع. أمام الهجمة المتواصلة على المكاسب العمالية والشعبية للفترة الديمقراطية الاجتماعية، لم يكن بإمكان الاشتراكيين أكثر من الدفاع عليها فصارت شيئا فشيئا تبدو كأفقهم. أمام تقدم مكانة الخوصصة والسوق في الواقع وفي خطاب البرجوازية وموظفيها الإيديولوجيين، دافع الاشتراكيون على القطاع والاستثمار العموميين والتحكم في الأسواق أي على تدخل الدولة. يظن الكاتب أن هذا الصراع كرس فكرة: الاشتراكية=الدولة، الرأسمالية=السوق. لقول الأمور بشكل أكثر دقة، جعل هذا الصراع اتساع مجال تدخل الدولة مرادفا لتقدم الاشتراكية وتقلصه واتساع السوق مرادفا لتقدم الرأسمالية.
ليس المقصود هنا طبعا إدانة الدفاع عما تبقى من المكاسب الاجتماعية، والأملاك والخدمات العمومية بل يظن الكاتب حتى أنه من واجب الاشتراكيين في البلدان التابعة الدفاع على الإنتاج الوطني الخاص أمام هجمات التحالف الموضعي (والذاتي الواعي نسبيا وأحيانا) بين الإمبريالية والبرجوازية-الصغيرة الليبرالية الرجعية. لكنه من المهم التحذير من استبطان هذه الصراعات التكتيكية لتحل محل النظرية والاستراتيجية الماركسية.
يجب هنا التذكير أن “الدولة” ليست جسما محايدا فوق المجتمع بل هي مرتبطة بالطبقة المهيمنة في المجتمع أي البرجوازية في المجتمعات الرأسمالية. هدف الماركسيين هو إسقاطها وإرساء سلطة البروليتاريا (بغض النظر عن المحتوى الاجتماعي الملموس الذي نسنده لهذا المفهوم[19]) وليس توسيع نفوذها.
بالعودة إلى موضوع النص، تبدد النظرية الماركسية للدولة مغالطة إيديولوجية أخرى. صار تواطؤ الدولة أو خضوعها لكرتالات أو “لوبيات” أو “عائلات” محل تنديد قوي وانفعالي أحيانا من العديدين. إذ يتم تمثله كنوع من الفساد أو كجزء من “المنظومة” أو “المنظومة الريعية” وكمرض تونسي أو خصوصية للبلدان “المتخلفة”. لكن بحثا سريعا على الأنترنت يُظهِر تنديدات ووقائع مشابهة في كل العالم بما في ذلك دوله الأكثر تطورا اقتصاديا. يبين بحث أبعد أن الحال نفسه طيلة تاريخ الرأسمالية. ليست إذن هذه الممارسات والظواهر خصوصيات تونسية أو “عالم-ثالثية” ولا هي تشوّهات في أي رأسمالية بل هي ببساطة التمظهرات الملموسة للهيمنة الطبقية البرجوازية. فالدولة مثلما قيل أعلاه مرتبطة بالطبقة المهيمنة في المجتمع ومن الطبيعي بذلك أن تخدم مصالحها بأشكال مباشرة وغير مباشرة.
يمكن طبعا مزيد ترويق هذه الأطروحة. فليست البرجوازية متجانسة ومصالحها دائما موحدة، لذلك توجد دوما (في فترات الاستقرار النسبي) تحت قيادة أو هيمنة شريحة عليا ضيقة. يمكن تسميتها بالأوليغارشية إن أردنا لكن استعمال هذا المصطلح لا ينفي بتاتا طابعها البرجوازي كما يريد استعماله البعض. تحكم بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وتونس والمغرب أوليغارشيات رأسمالية، تابعة هنا وإمبريالية هناك.
لن يصعب على من تابع حجاج النص إلى هذه النقطة، استبيان علاقته بخطاب الاقتصاد الريعي أو مناهضة الريع. يعتبر الأخير أن نقص التنافس وتشوش السوق بتدخل الدولة وتواطؤ الأخيرة مع الطبقة المهيمنة أشياء مناقضة للرأسمالية أو أنها خصوصيات رأسمالية مشوهة أو متخلفة، أنها في الأخير تشكّل اقتصادا أو منظومة ريعية. إن جزء من نجاح هذا الخطاب النيوليبرالي مبني على استبطان العديد من الناس ومن بينهم مناهضون للإمبريالية للمغالطات الإيديولوجية والسردية التاريخية المزيفة للرأسمالية التي يجب تفكيكها.
ويمكن اعتبار هذه الآلية نموذجا لاشتغال الإيديولوجية بكونها نقيض الكلية التاريخية والبنيوية. تأتي مقولات مقتضبة وهلامية وسطحية لإخفاء التاريخ والسياق الاجتماعي والعالمي (وأحيانا حتى الواقع الملموس) اللذين تتنزل فيهما الأمور بل للإيحاء ضمنيا (أحيانا الكذب صراحة) بسردية مغلوطة. ليس الأمر خاصا بالرأسمالية والاقتصاد بل تشتغل نفس الآلية حول الدولة والعائلة والوطن وغيرها. لكن ما يهم هذا النص هو الاشتغال الملموس لإيديولوجية مناهضة الريع ومغالطاتها المتواصلة.
مرة أخرى ضد سفسطة مناهضة الريع
ذلك خاصة وأن منظمة ألارت لمناهضة الاقتصاد الريعي، مازالت تدعي، على لسان رئيسها لؤي الشابي أنها عندما “تتحدث عن السوق المفتوح” فهي “لا تتحدث عن خيارات إيديولوجية” بل “تتحدث عن الواقع”! عن أي واقع، بما أن السوق المفتوح ليس واقع تونس ولا العالم في عهد “رأسمالية الاحتكارات المعممة المأمولة المعولمة”[20]؟! إنه من الطريف أن مجموعة تدعو إلى تغيير الواقع ترفض الحديث عن خيارات مغايرة له غير أنها لا تتحدث عن الواقع بل تعيد إنتاج الإيديولوجية التي تزيف وعيه عالميا.
ليست هذه السفسطة البذيئة حالة معزولة، من “الرأسمال جبان لكن المشكلة لسيت في رأس المال بل في المنظومة” إلى “تونس ما فيهاش اقتصاد” (!) وغيرهما من الترهات، لا تكاد مداخلات لؤي الشابي تخلو من لحظات الكرينج (Cringe). ولم يجد الكاتب أفضل من هذه العبارة الإنجليزية للتعبير عن شعور عدم الراحة والإحراج الذي ينتاب المشاهد عند رؤية قائد ألارت يضع نفسه في مواقف محرجة بهرائه غير المتماسك وسفسطته المفضوحة وتهويلاته الصبيانية أحينا تحت أنظار نجوم الإعلام المليئة بالتَلَطُّف الأبوي لهذا “الشباب”.
ورغم ذلك، يمكن ضمن هذه الضبابية الممنهجة اقتناص بعض لحظات الوضوح وملاحظة ثوابت. تعتبر الفيديو حول الريع في قطاع السكر، نموذجا ملحوظا.
يبدو أولا بالتثبت من بعض الأرقام أن المتدخلان يخلطان نسبة السكر التي يحتويها اللفت السكري بالنسبة التي يمكن استخراجها منه. يفضل الكاتب ترجيح فرضية الخطأ. حسب منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة[21]، تتراوح الأولى بين 14 و16٪ (يقول مهدي جماعة أن هذه النسبة تصل إلى 26٪ في المغرب العربي لكن الكاتب لم يجد هذه المعلومة) أما الثانية فتتراوح بين 11.2 و12.8٪ (80٪ من السكر الذي يحتويه اللفت السكري). بذلك تكون إنتاجية معمل صناعة الشمال العامة “جينور” ضمن المعايير العالمية ويبدو تقنيوه ومتصرفوه أكثر كفاءة من صديقنا مهدي جماعة الذي ندعوه لأكثر تريث وتواضع. وحتى لو كانت هذه الإنتاجية أدنى من دول أخرى (وهذا هو أصلا معنى ضعف التطور الاقتصادي) فيجب مزيد دعم القطاع والضغط على أصحاب الإنتاج أو تأميمه من أجل تطويره لا التخلي عنه وتفكيكه باسم مناهضة الريع.
على هذا الأساس المغلوط إذن يهاجم مهدي جماعة صراحة فكرة الحمائية قائلا إنه يمكن توريد السكر بثمن أدنى. ما أكده لؤي الشابي في مداخلة لاحقة بدعوته لمزيد التصدير لتعديل الميزان التجاري بدل الحد من التوريد وقوله إن الحمائية سياسة “قديمة… يعرف الجميع أنها لا توصل إلى شيء”. إن هذا الكاتب وعائلته السياسية لا يعرفون ذلك لكننا نقول وسنبين أن لؤي الشابي وأصدقاؤه لا يعرفون التاريخ الاقتصادي. كمّل حسام سعد الصورة من جهته باعتباره أن سياسة معاليم ديوانية سليمة يجب أن ترفع كل المعاليم (ما يتعارض مع تصورات رفاقه المناهضة للحمائية) أو تخفضها كلها لا أن تغير في معاليم بعينها فذلك يعتبر سياسة ريعية. بتوليف هذه العناصر نتحصل على العقيدة النيولبرالية في التجارة الخارجية: توحيد المعاليم الديوانية وتخفيضها.
بالعودة إلى موضوع السكر يمر الحوار إلى الحديث على إضراره بالصحة. يدعو على ذلك إلى التخلي عن دعم إنتاجه محليا وإلى استحسان ارتفاع سعره للتقليص من استهلاكه. لا يبدو أن صاحبنا الطريف لاحظ تناقض حجتيه. هذا الخلط بين المستوى الاقتصادي ومستويات أخرى أسلوب سفسطة تم استعماله أيضا في علاقة بدعم تصدير الطماطم المصبرة. على أساس أمثلة خصوصية، يتم استعمال حجج صحية أو بيئية لإضفاء مشروعية على أطروحة اقتصادية عامة: الحمائية سيئة لأن السكر مضر بالصحة ودعم الصادرات سيء لأن الطماطم تستنزف الماء! الخبز أيضا مضر بالصحة يا شباب!
يستهلك عموم التونسيين بما في ذلك الطبقات الشعبية كميات من السكر. يتم توفير جزء مهم منها عبر التوريد. هل يجب القبول بهذا الحال أو تشجيع تعويض هذا التوريد بإنتاج وطني يقلص التبعية والبطالة؟ هذا هو الخيار الاقتصادي. إذا أردنا تقليص الاستهلاك التونسي للسكر لأسباب صحية، يمكن مثلا وضع ضريبة صحية يدفعها الصناعيون ويمررونها في السعر للمستهلكين. لنفترض أن حملة صحية بآليات مختلفة (ثقافية واقتصادية) لتقليص استهلاك السكر حققت نجاحا باهرا وتقلص الاستهلاك إلى النصف. يبقى الخيار الاقتصادي قائما: هل نورد هذا النصف أم ننتجه؟
بنفس الشكل يجب معارضة تصدير الطماطم بسبب استنزافها للماء لا لكون دعم تصدير الطماطم ريعا. فالحجة الأخيرة تؤدي إلى رفض أي دعم للإنتاج والتصدير في أي قطاع. ولا يساند الكاتب عموما دعم التصدير لا لكونه ريعا بل لأن التوجه الاقتصادي العام للبلدان التابعة مثل تونس يجب أن يكون متمركزا على الذات ومعوضا للواردات الأساسية. لا يجب مساندة الصادرات إلا في حالات استثنائية بأهداف تكتيكية (تحصيل أكثر عملة خارجية لتمويل تطور أسرع لتلبية الحاجيات الوطنية).
لذلك لا يجب خلط أي تقاطع في المواقف (معارضة تصدير الطماطم أو نقد القطاع البنكي) بتقاطع في الأهداف والمبادئ بل يجب تحديدا العودة للمبدأ العام الذي ينبني عليه الموقف. إذ تحاول ألارت عادة استعمال حجج مختلفة تنطلق من مبادئ مختلفة لتدمجها بشكل غير منطقي في خطابها لخلط الأوراق وتوسيع جمهورها.
يعدّ موضوع الأعلاف هو الآخر من أهم ما تطرق له لوبي مناهضة الريع. فقد تسبب ارتفاع أسعار العلف المركّز في صراعات طبقية هامة لعل أبرزها احتجاجات الفلاحين الصغار في أولاد جاب الله. طُرِحت في هذا السياق عدة مسائل: الاحتكار الأحادي لشركة حبوب قرطاج في استخراج فيتورة الصوجا وزيتها من حبوبها؛ احتكار شركات تنتمي إلى مجمعات كبرى تربي الدواجن وتنتج العلف المركز للدواجن والأبقار؛ تفاهم هذه الشركات فيما بينها ومع حبوب قرطاج على مربي الأبقار والدواجن وصغار مصنعي الأعلاف.
تعود الأهمية السياسية التي اكتسبتها هذه المسألة إلى الارتفاع الحاد لأسعار الأعلاف خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. لذلك يكمن مربط الفرس في تحديد سبب ارتفاع هذه الأسعار.
تبين الصورتين التشابه الكبير للمنحى العام لتطور أسعار الأعلاف وأسعار حبوب الصوجا من جهة، وأسعار الذرة من جهة أخرى بالدينار التونسي. يتجاوز ضارب ترابط أسعار حبوب الصوجا والأعلاف المركزة بالدينار بين 2003 و2022 نسبة 96٪ وضارب ترابط أسعار الأخيرة والذرة بالعملة التونسية 92٪ في نفس الفترة. ليس هذا الترابط محض صدفة بما أن الصوجا والذرة تدخلان في إنتاج العلف المركز كمادتين أوليتين. بالتالي فإن ارتفاع أسعار حبوب الصوجا والذرة بالدينار يفسر أكثر من 90% من ارتفاع أسعار العلف المركز[24]. يعني ذلك في النهاية أن مُرَكَب الأسعار العالمية لحبوب الصوجا والذرة مع سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي سبب أكثر من 90٪ من تغير أسعار العلف المركز. بصفة عامة، شكلت تركيبة أسعار حبوب الصوجا والذرة وصرف الدينار العامل البنيوي في تطور أسعار الأعلاف المركزة منذ 2003.
من جهة أخرى، إذا افترضنا أن بقية مكونات السعر (مواد أولية وطاقة ونقل) لم تتغير فإن البنية الاحتكارية لسلسلة صناعة وتوزيع الأعلاف المركزة لا يمكن أن تفسر أكثر من 10٪ من ارتفاع أسعار العلف المركز. يمكن ملاحظة الأثر الاحتكاري تحديدا وبالأساس في عدم انخفاض سعر العلف عند انخفاض سعر الذرة أو حبوب الصوجا بالدينار على المدى القصير، قد يعني ذلك ربحا احتكاريا قصير المدى لصالح الصناعيين والموزعين على حساب حرفائهم. لكن يمكن أيضا تنسيب ذلك بملاحظة تأخر ارتفاع سعر العلف المركز وضعف نسب ارتفاعه على المدى القصير مقارنة بأسعار مدخلاته. مهما كان الموقف من هذه المسألة فهو يهم أقل من 10٪ من تطور الأسعار.
يدّعي الكاتب أن هذه الحالة نموذجية في خطاب مناهضة الريع في مختلف المجالات وفي علاقة بالبنية الاقتصادية التونسية ككل. فلا يهتم دعاته بدراسة المسائل البنيوية (90٪ من تطور الأسعار خلال عقدين من الزمن مثلا) ويركزون على تهويل مسائل ثانوية والتنديد بها بشكل درامي. يبدو أن ذلك ليس محض صدفة، خاصة وأن هذه المسائل البنيوية عادة ما تطرح العلاقة الاقتصادية لتونس بالخارج – كون تونس تابعة بنيويا على المستوى الاقتصادي ما يتمظهر في كل القطاعات – الأمر الذي يتجنبه اللوبي كالجرب.
إن كانت ألارت لا تهتم بالتبعية الاقتصادية التي تحدد بنية جل القطاعات، فإن مقترحاتها الليبرالية تكون لها في عديد الأحيان تبعات بنيوية سيئة. ذلك ما حصل في قطاع العلف دون أن تتحسن أحوال مربي الأبقار والدواجن.
كانت حبوب قرطاج قبل انطلاق الأزمة تلبي كامل حاجيات مصنعي العلف المركز من فيتورة الصوجا. تورد حبوب الصوجا وتسحقها لتستخرج زيتها الذي تبيعه إلى ديوان الزيت وتتحصل على فيتورتها. تتمتع بإعفاء من معلوم توريد الصوجا أو فيتورتها (لا تفرق الديوانية التونسية بينهما) الذي يبلغ 15%. باعتبار شركة حبوب قرطاج وتوافقها مع احتكارات إنتاج العلف، خطأً، سبب ارتفاع أسعاره، واستجابة لدعوات ألارت وغيرها لفتح توريد الصوجا وإنهاء امتياز حبوب قرطاج تم إلغاء معلوم الصوجا[25]. نتج عن ذلك مباشرة أن مصنعي العلف ذهبوا إلى توريد فيتورة الصوجا (جزئيا) بدل التزود من الإنتاج الوطني، ما يعني إهدارا للعملة الخارجية وللقدرة الإنتاجية المحلية. على أساس نفس التشخيص الخاطئ تم أيضا تسقيف أسعار حبوب قرطاج في مستوى متدنٍ جدا وغير متحرك آليا مع الأسعار العالمية. أدى ذلك في نهاية 2022، إلى اضطرار الشركة تجميد نشاطها وإحالة عمالها على البطالة التقنية – ما يكذب بشكل صارخ تحقيقها لهوامش ربح ضخمة وتسبب ذلك في ارتفاع الأسعار.
هذه بعض نتائج مناهضة الريع والتعامل الصبياني مع واقع الرأسمالية. إذ نسمع بشكل متكرر على ألسنة ألارت ضرورة تقليص هواش ربح الريعيين. من الغريب أن من يدّعون أن النظام الاقتصادي في تونس ليس رأسماليا فعلا أو أنه رأسمالية مشوهة، ويبشرون برأسمالية “حقيقية” وأسواق تشتغل بشكل جيد، لا يفهمون أبسط مبادئ اشتغالها. في الرأسمالية، يحرك الربح الاستثمار الخاص أو بلغة أخرى يتم الاستثمار الخاص بهدف الربح والربح وحده. بتقليص هوامش الربح، يعزف رأس المال عن الاستثمار ما يعني انتشار البطالة وركود الأجور والإنتاجية. ستكون هذه النتيجة الحتمية لسياسات تقليص الأرباح. يمكن طبعا تعويض الاستثمار الخاص بالعمومي لكن ذلك لا يدخل ضمن الأطر الإيديولوجية النيولبرالية لمناهضي الريع.
يجب في نفس الصدد التحذير من نوع من العداء الصبياني للريعيين والاحتكارات أو للرأسماليين عموما. فبينما قد يتكبد رأس المال خسائر طفيفة، جراء اضطرابات الأسواق العالمية أو المنافسة الخارجية أو غيرها من الأسباب، يتسبب إفلاس الشركات المنتجة أو مرورها بصعوبات مالية تداعيات كبيرة على العمال وعلى القدرة الإنتاجية الوطنية. ففي غياب حكومة اشتراكية مستعدة لتأميم الوحدات الإنتاجية المفلسة أو إمكانية ثورة اشتراكية، لا يمكن اعتبار تأزم رأسمالية (تابعة) أو قطاعات معينة أو شركات منتجة شيئا جميلا بل فقط مأساة على حياة العمال وتعميقا للتبعية في أطراف الرأسمالية.
بالرجوع إلى أزمة العلف المركز، يجب أن يفهم من يهتم بهذا الأمر معناه في سياقه. رغم الاندماج الاقتصادي المتقدم للعالم فهو لا يزال منقسما سياسيا إلى دول وطنية. في هذا الإطار الوطني تتجسد المسألة كارتفاع مصاريف بالعملة الأجنبية وضمنه يدور الصراع حول من سيتكبد تكلفتها من بين مختلف المجموعات والمصالح والقطاعات والطبقات الاجتماعية. توضع نتيجة ذلك السياسات الاقتصادية. يمكن تمويل هذه التكلفة الزائدة بقروض خارجية أو باقتصاد في مصاريف العملة الخارجية (بافتراض تطور طبيعي لمداخيل العملة الخارجية غير قادر على تمويل فائض مصاريف، علما أنه عاجز أصلا على تمويل المصاريف القائمة). بالنظر للحالة المالية الصعبة لتونس ومن منطلقات مناهضة للتبعية يمكن إزاحة الإمكانية الأولى. بترك السوق لحاله سيرفع موردو المواد الأولية ومختلف حلقات الإنتاج أسعارهم ما سيؤدي إلى تقلص الاستهلاك الذي سيؤدي بدوره إلى تقلص الطلب المرتقب وبالتالي الاستثمار وإنتاج اللحم والحليب والبيض. يعني ذلك أن مستهلكي هذه المنتجات الأساسية سيمولون من بطونهم جزء من ارتفاع الأسعار العالمية. يمول الجزء الآخر الموردون وأيضا أصحاب الإنتاج بتقليص إنتاجهم أو إيقافه ما يعني فقدان هذه البلاد التابعة لجزء من قدرتها الإنتاجية.
ما حدث بشكل ملموس في تونس منذ أواخر 2020 بالنظر لموازين قوى مختلف الحلقات وتدخلات الدولة الرأسمالية التابعة في السوق هو الآتي: ضُرِبت وحدة إنتاج أساسية كانت توفر كل حاجيات البلاد من فيتورة الصوجا (قرطاج للحبوب)؛ ارتفع توريد الأخيرة لصالح الموردين[26]؛ زاد الفلاحون الصغار منتجو الحليب فقرا وأفلس عديدهم ومثلهم صغار مربي الدواجن وبذلك ضُرِبت قدرة إنتاج محلية إلى جانب المأساة الإنسانية. يتماشى هذا التحليل مع تطور مؤشرات الإنتاج في القطاعات المعنية[27]، حيث تراجعت أو ركدت بعد 2020. لكن المعطيات المتوفرة غير كافية للقطع بارتباط تام ومباشر ما يحتاج إلى بحث مفصل في عدة عوامل أخرى.
هذه سياسة دولة البرجوازية التابعة. أما سياسة بروليتارية فكانت لتجمِّد أسعار الأعلاف ومدخلاتها الموردة
مع تعويض ارتفاع سعر التوريد بالدينار. يجنب ذلك مختلف حلقات الإنتاج تداعيات الصدمة المالية عل المدى القصير. أما ارتفاع مصاريف العملة الأجنبية في هذا القطاع المهم فيجب تمويلها بتقليص واردات استهلاكية غير ضرورية أي على حساب الكمبرادور والاستهلاك الاستعراضي.
على المدى المتوسط يجب برمجة زيادة تدريجية في أسعار مدخلات العلف للتشجيع على تعويض توريدها بزراعتها محليا، مع زيادة أسعار بيع العلف والحليب واللحم بشكل متناسب.
أما لوبي مناهضة الريع فهو مجانب للنقاش الأساسي تماما بما أن الأسعار العالمية وعلاقة تونس بالخارج لا تهمه. حتى عندما تكون المشاكل ناتجة صراحة عن عوامل خارجية يربطها خطابيا وبشكل غير منطقي بالريع. فرغم أنه لا يمكن إنكار أن أزمة الخبز تأتي نتيجة التقلص الحاد في توريد القمح اللين، يزعم أن هذه الأزمة “عرّت” الطابع الريعي لمنظومة الخبز.
هناك عديد المساوئ في سلسلة إنتاج الخبز في تونس وهي قطعا ليست ما يتطلع له الاشتراكيون. ورغم ذلك وفّرت هذه “المنظومة الريعية” الخبز دون أي مشاكل تذكر طالما كان الدقيق والقمح عموما متوفرين. ليكون ربط منظومة صناعة الخبز بالأزمة القائمة منطقيا، يتوجب أن تفشل في القيام بدورها أو أن تتأزم في غياب أسباب خارجة عنها (أي ضمن سياق توفر عادي لموادها الأولية) وهذا ما لم يحصل. بهذا الشكل يتم إخفاء علاقة التبعية الاقتصادية التي تربط تونس بالخارج وتوجيه الهجوم إلى مسائل ثانوية وتُطرح على أساسها نفس السياسات الليبرالية التي من شأنها زيادة التبعية.
وفي هذا الصدد يبلغ سوء النية والمغالطة أعلى مستوياته خاصة مع لؤي الشابي الذي يكرر بشكل ممنهج في الآونة الأخيرة القول بوجود أزمة “مالية عمومية”. لكن الأزمة ليست أزمة مالية عمومية بشكل عام بل هي تحديدا أزمة ميزان المدفوعات أو بأكثر بساطة أزمة نقص العملة الخارجية. هنا تتجلى ألارت مجددا كقوة تظليل لا إنارة حول المسائل الاقتصادية، فهي تخفي دائما أهم الأمور وتهول المسائل الثانوية.
إذ يترتب على طرح أزمة تونس بشكل دقيق وواضح كأزمة عجز ميزان المدفوعات (ما تجنيه تونس من عملة خارجية ناقص ما عليها دفعه)، طرح العجز الهيكلي والمزمن في الميزان التجاري وبذلك التبعية والإمبريالية. هذا تحديدا ما تتجنبه وتخفيه بشكل ممنهج منظمة ألارت.
ورغم ذلك تجد نفسها مضطرة للتنديد بتدني سعر شراء الدولة للقمح حتى لا تستعدي الفلاحين وعموم الشعب التونسي. لكن، وأولا، فهي تأخذ كمرجع أسعار السوق العالمية التي ارتفعت جراء الحرب الروسية الأكرانية، أي إذا انخفضت هذه الأسعار إلى مستوياتها السابقة فلا بأس في تخفيض أسعار القمح في بلاد تعيش تبعية شبه تامة في المكون الأساسي لغذائها. كما تحتوي هذه الأسعار العالمية على نسب كبيرة من الدعم الذي توفره مختلف الدول لفلاحيها. لا يمكن لذلك أن تكون معيارا للأسعار في تونس. يجب أن يكون المعيار الوحيد هو زيادة إنتاج القمح بأكبر سرعة ممكنة وأن تتواصل زيادة الأسعار (بالإضافة إلى أنواع أخرى من الدعم والضغط) ما دامت تؤدي إلى زيادة الإنتاج.
يجب التذكير ثانيا أن تحديد الأسعار ودعم الإنتاج سياسة ريعية تشوش الأسواق وتحد من التنافس. هذا ما يفسره تقرير البنك العالمي حول الموضوع – وهو، يجب التذكير مجددا، أصل كل هذا اللغط حول “الريع” وليست جمعية ألارت ولا غيرها – الموجود من بين مراجع ألارت في موقعها والذي يقول أن “تقليص أسعار الإنتاج المضمونة (للحبوب والسكر والتبغ) وإزالة دعم المدخلات، سينتج ادخارات في الميزانية يمكن إعادة إسنادها للاستثمار في البنية التحتية الريفية، وبالتالي تعزيز الاستثمار الخاص في المناطق الريفية”. ثم يضيف أن “الدولة يجب أن تسمح للأسواق بتحديد الأسعار ويجب أن تمتنع عن التدخل المباشر في السوق”. وهذا ما تعرفه ألارت جيدا فلا ينفك ممثلوها يكررون أن سياسة الدعم (أو التعويض بالأحرى) موجودة أصلا للضغط على الأجور وأن الهدف يجب أن يكون الزيادة في الأخيرة. لكنهم لا يتجرؤون بنفاقهم المعتاد على طرح تحرير الأسعار الذي يعرفون أنه مرفوض شعبيا.
يتبين عرضيا السبب الحقيقي لتدني الأسعار التي تحددها الحكومة لشراء القمح وهو تحقيق “ادخارات في الميزانية” أي سياسة التقشف التي تطبقها الدولة القائمة انصياعا لتوصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي.
من المهم أخيرا التطرق لمغالطات لوبي مناهضة الريع حول القطاع البنكي. يتكرر القول في هذا الصدد باعتماد “كرتال البنوك” تفاهما على أسعار الخدمات التي يقدمها للحرفاء في غياب تام للتنافس. لم يقدم أحد ولا ألارت نفسها أية معطيات ملموسة تؤيد هذه الأطروحة. من السهل فهم ذلك لأن هذه المعطيات غير موجودة. إذ تبين المعلومات المتوفرة من مرصد الإدماج المالي (التابع للبنك المركزي) عكس ذلك تماما. إنه من الحزين أن يصل احتقار ألارت لمستمعيها إلى ترويج أكاذيب صريحة.
بنفس الشكل يمكن التحقق بسهولة من أن البنوك في مراكز الرأسمالية (وفرنسا هي المثال الذي استعمل بعض المرات) تقتطع هي الأخرى معاليما مقابل الخدمات التي تقدمها لحرفائها على عكس ما تدعيه الحملة (وأن البنوك الرقمية وهي الأقل تكلفة في العمليات البسيطة تابعة للمجموعات البنكية الكبرى في فرنسا). كما أن فرض البنوك على حرفائها غرامة لخلاص ديونهم مسبقا ممارسة بنكية عادية وليست من عجائب الكرتال التونسي الشرير كما تدعي حملة البكاء حول البنوك.
أهم مما سبق تُذكر المغالطات حول عائدات البنوك من إقراض الدولة. تقارن ألارت في هذا الصدد عائدات تونس وفرنسا والمغرب دون أخذ الاختلاف في نسب فائدة البنوك المركزية بعين الاعتبار.
بالنظر لنسبة الفائدة الأعلى للبنك المركزي التونسي في السنوات الأخيرة، من العادي أن تكون نسبة السوق المالي في تونس أعلى وأن تقترض الدولة بنسبة فائدة أعلى. تقع في هذه النقطة مغالطتان اثنان. يجب أولا أن نفهم أن نسبة الربح الصافي للبنوك من القروض ليست نسبة الفائدة بل عادة ما تكون أقل منها. إذ توفر البنوك الموارد المالية لإسداء القروض بالأساس من ودائع حرفائها ومن قروض تتكبدها بنفسها. عندما يقرض بنك حريفا (بما في ذلك الدولة) مبلغا بنسبة 10%، يكون عادة قد اقترضه، بنسبة 8% مثلا أو اعتمد مدخرات حريف عليه أن يكافئه بنسبة فائدة 7%. نسبة الربح الحقيقية أو الصافية للبنك هي إذن 10 – 8 = 2% أو 10 – 7 = 3%. يسمى هذا الفارق بالامتداد (Spread) أي الامتداد بين تكلفة الموارد المالية للبنوك والربح الذي تجنيه من توظيفها أو هامش الوساطة. تضبط البنوك استراتيجياتها وتتخذ خياراتها على أساس هذا العدد لا على أساس نسبة الفائدة التي تقرض بها.
تراوحت نسبة الموارد الذاتية للبنوك التونسية بين 16.3 و16.9% خلال 2020-2022. على هذه النسبة من مواردها فقط تتمتع بعائدات كاملة من استعمالها. أما بقية الموارد، 83%، فهي تحمل تكلفة. لكن هذا التقسيم لموارد واستعمالات البنوك ذو طابع تحليلي لاحق. في الواقع العملي، تبحث البنوك عن فرص استثمار بأكثر عائدات ممكنة وتبحث عن موارد أقل تكلفة لتحقيق أعلى امتداد ممكن. فليست الأمور بهذه البساطة والوضوح.
متجاهلة هذه البديهيات وفوارق نسب الفائدة تقدم ألارت رسوما بيانية تظهر فوارقا مهولة بين ما يفترض أن تجنيه البنوك التونسية ونظيرتها المغربية والفرنسية.
يمكن مثلا أن يقرض بنك فرنسي بمعدل فائدة 3% ويكون معدل تكاليف قروضه (نسب فوائد مدخريه ومقرضيه) 2%. بينما يقرض بنك تونسي بمعدل فائدة 10% (يا للهول!) بمعدل تكاليف بنسبة 9%. يحقق هذين البنكين في الحقيقة نفس الامتداد 10 – 9 = 3 – 2 = 1% أي نفس نسبة الفوائد الصافية.
يتابع البنك المركزي في تقريره السنوي حول الرقابة البنكية هامش وساطة البنوك المقيمة بين القروض والموارد وفي السنوات الأخيرة بين القروض وودائع الحرفاء.
يقدم أحد بنوك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من جهته أرقاما قابلة للمقارنة لهامش الفائدة الصافي. في هذه المعطيات يتبين أن العائدات الصافية للبنوك في تونس متقاربة تاريخيا مع نظيرتها في المغرب والولايات المتحدة. أما البنوك الفرنسية فكان امتداد فوائدها منخفضا منذ 20 سنة تقريبا لأسباب تستحق الدراسة على حدة، ربما تتعلق بسياسة البنك المركزي الأوروبي أو ببنية أنشطتها وأرباحها. وعلى كل حال فالفوارق بين الهوامش في فرنسا وتونس (والمغرب والولايات المتحدة) تعد بحوالي ثلاث نقاط مئوية (وهي ليست بالهينة) لا بما يصل إلى 80% (!!!) كما تصور ألارت[28]!
يتضح إذن أن المقارنات التي تقوم بها ألارت ليس لها أي معنى ولا تبين شيئا سوى سوء نيتها واستخفافها بذكاء متابعيها. هذا أنه لا يمكن معذرتها تماما بجهلها كون لؤي الشابي يشير عرضيا لهذه المسائل ولكنه رغم ذلك يقدم المقارنات المغلوطة ويبني عليها تمثلاته المخادعة.
على هذا الأساس الخاطئ (مرة أخرى!) يدعي إذن لوبي مناهضة الريع (مرة أخرى!) أن البنوك تشكل كرتالا بمشاركة البنك المركزي. يرجع بذلك الارتفاع المتواصل لنسبة الفائدة المديرة إلى هذا الوفاق. إن كانت الطبقات المتوسطة والبرجوازية-الصغيرة والشركات المنتجة تتضرر حتما من ارتفاع نسب الفائدة فإن انتفاع البنوك يستحق التنسيب. إذ ترتفع بذلك تكلفة مواردها من ديون ومدخرات حرفائها. هذا وتجدر الإشارة إلى أن وزارة المالية تسقف نسب الفائدة التي يمكن أن تفرضها البنوك على حرفائها.
في علاقة بسندات الخزينة تحديدا يجب القول إن قيمتها تنخفض بارتفاع نسب الفائدة ذلك أن فوائدها السنوية قارة ما يجعل السندات الجديدة أو ذات الفائدة المتغيرة مربحة أكثر. هذه ضربة أولى لسردية ألارت.
لكن أسئلة أكثر بساطة تطرح نفسها بالنظر إلى تطور نسب الفائدة في مراكز الرأسمالية. إن كانت نسبة فائدة مرتفعة أو زيادة نسبة الفائدة تعني وجود كرتال بنكي أو نظام بنكي “ريعي”[29]، هل كانت النظم البنكية الأوروبية والبريطانية والأمريكية ريعية قبل أزمة 2008؟! وهل تتجه اليوم فجأة نحو العودة إلى ذلك الحال بالزيادات الأخيرة في نسب الفائدة؟! هل تعرف ألارت كيف أنقذت حكومات مراكز الرأسمالية البنوك في أزمة 2008 والأرباح التي كانت تحققها بعد ذلك بينما تواصلت وطأة الأزمة الاقتصادية على الشعوب. هل تعرف الريوع التي تمتع بها القطاع المالي في بلدان المركز منذ تلك الفترة ضمن آلية التيسير الكمي[30]؟ إن مقولات ألارت لا تصمد أمام أبسط الاختبارات المنطقية، فهي مبنية على إخفاء وتجاهل الواقع والتاريخ الاقتصادي العالمي.
تُفسَّر سياسة الزيادة المتواصلة في نسبة الفائدة المديرة التونسية بسهولة لمن يقر بالهيمنة الإيديولوجية للنيولبرالية وتبعية الدولة التونسية للإمبريالية. تعتبر الأولى نسبة الفائدة الأداة الأساسية إن لم تكن الحصرية لممارسة السياسة النقدية وتنص على زيادتها بهدف الحد من التضخم وتخفيضها لمحاربة الكساد الاقتصادي. سياق الانكماش الذي تعيشه مراكز الرأسمالية منذ أزمة 2008 هو ما يفسر تخفيضها نسب الفائدة طيلة العشرية السابقة.
أما تونس فيتصاعد فيها التضخم. لكن بما أنه مستورد (ارتفاع الأسعار العالمية بالعملات الأجنبية وانخفاض سعر صرف الدينار مقابلها) فلا حول ولا قوة لنسبة الفائدة عليه. يواصل رغم ذلك البنك المركزي في زيادتها انضباطا للعقيدة النيولبرالية ربما عن قناعة بها ولكسب رضا صندوق النقد الدولي فالحصول على القروض بالعملة الأجنبية: “تفترض إيديولوجية صندوق النقد الدولي أن التضخم دائما وفي كل مكان ذو أصل نقدي، أي أنه لا يمكن أن يتأتى إلا من توزيع زائد للقروض. يتوجب إذن لمحاربة هذا التضخم النقدي رفع نسب الفائدة للحد من التضخم. لكن الواقع في تونس مختلف تمامًا. تزايد التضخم في تونس بشكل رئيسي بعد لبرلة الدينار في أفريل 2016، ثم تسارعت الزيادة بعد انزلاق الدينار في مارس 2017. حَسَبنا أن ضارب الترابط بين التضخم وسعر صرف الدينار التونسي بالأورو كان ضعيفًا (0.25) بين جانفي 2013 ومارس 2016، بينما أصبح قويًا جدًا بين أفريل 2016 وماي 2018 (-0.91). تدعم هذه الأرقام تمثلنا بأن التضخم يرجع في الأساس إلى لبرلة الدينار وتراجع قيمته التي تزيد من أسعار السلع المستوردة. كدليل، لم يكن لزيادة نسبة الفائدة المديرة للبنك المركزي التونسي في أفريل وماي 2017 أي تأثير على التضخم. في الواقع، لم يكن التضخم أبدًا أكبر مما صار منذ أن فرض صندوق النقد الدولي على البنك المركزي التركيز فقط على مكافحة التضخم”[31].
لكن بما أن ألارت تُحَرِّم على نفسها الاهتمام والحديث عن علاقة تونس بالخارج وهيمنة الإمبريالية (مجسدة هنا في صندوق النقد الدولي) فهي مضطرة، كما تفعل في جل المسائل، لخلق سردية إيديولوجية مغلوطة حول النظام البنكي والتضخم. فترجع الأخير إلى قدرة الاحتكارات على زيادة الأسعار. تبين خطأ هذا الادعاء في قطاع الأعلاف. ولا شك أن الأمر مشابه في أغلب القطاعات كون الزيادة الاحتكارية للأسعار لا يمكن أن تكون اعتباطية فهي محددة بالطلب الذي يبدأ في التقلص بداية من مستوى معين من الأسعار. وفي مستوى معين من تقلص الطلب تبدأ الأرباح في التقلص.
هناك نقطتين أخيرتين تستحقان التطرق في علاقة بـ “كرتال البنوك”. يدّعي اللوبي أولا أن البنك المركزي غير مستقل عن البنوك وأنه في خدمتها. الاستقلالية في الواقع نسبية دائما، يمكن الحديث عن استقلالية أكثر أو أقل بالمقارنة لا عن استقلالية مطلقة. لكن هل يعلم هؤلاء أن بنوك الاحتياطي الفيدرالي (جزء من المنظومة البنكية المركزية) الأمريكية تملكها البنوك نفسها وأن 45% من حصص البنك المركزي الياباني مساهمات خاصة وأن مديري كبرى المؤسسات المالية البريطانية يجلسون في مجلس إدارة بنك انجلترا؟ البنك المركزي التونسي على كل حال أكثر استقلالية عن البنوك من هذه الأمثلة. لكننا نقول إنه ناقص استقلالية عن صندوق النقد الدولي وهذا المشكل الأساسي بالنسبة لمناهضي الإمبريالية.
ثانيا تركز الحملة على ارتباط البنوك عبر مساهمين مشتركين إلى جانب ارتباطها بشركات غير بنكية أخرى. يقول لؤي الشابي في هذا الصدد أنه سأل أصدقاءه في ألمانيا وأنهم لم يسمعوا هناك بشيء من هذا القبيل. يكفي في الحقيقة سؤال محرك بحث على الأنترانت للحصول على الرسم البياني التالي الذي يكذب صراحة هذه الأقاويل[32].
إن هذا الاستخفاف بمثل هذه الأمور الجدية، ونشر الأكاذيب والمغالطات حولها، ينم عن قلة احترام لعقول المستمعين وهو مساهمة ممنهجة في تجهيل الناس بواقع العالم الذي يعيشون فيه وحقيقة مشاكلهم. هذا الدور الطبيعي للإيديولوجية في الهيمنة الإمبريالية عالميا والطبقية وطنيا.
في نفس السياق، تقارن ألارت في رسوم بيانية عائدات أصول[33] البنوك التونسية بالمعدل الأوروبي. من البديهي القول أولا أن المعدلات تقارن بالمعدلات. إذ كون المعدل معدلا توجد بالضرورة قيم أكبر وأخرى أصغر منه. إن كان المعدل الأوروبي سنة 2022 مثلا 7,22%، فإن بنك كريدي أڨريكول مثلا يحقق نسبة 12.6% وخارج الاتحاد الأوروبي تصل مجموعة كريدي سويس إلى 16.1% وهي مستويات أعلى بكثير من المعدل الأوروبي ومما تحققه البنوك التونسية.
الحالات التي تثير الاستغراب هي حالة التجاري بنك الذي يسجل فعلا نسب عائدات على الأصول مرتفعة بشكل غير عادي وحالة البنك الوطني الفلاحي سنة 2017 الذي يسجل نسبة 34.6٪. ورغم وجود بنوك محلية أمريكية تحقق نسبا أكبر بكثير، تستحق هذه الحالات الاستثنائية تدقيقا في الحسابات لفهم معناها.
بعد كل المغالطات والتهويلات والتنديدات والبكائيات حول البنوك، تدعو ألارت إلى “كسر” الكرتال. لا شك أن كلمة كسر تحمل شيئا من العنف الذي يخيف قليلا الإعلام البرجوازي ويثير بعض الشباب المتحمس. لكن هذا “الكسر” لا يتمثل فعليا في أكثر من المطالبة بمنع المساهمات المشتركة في البنوك أو تسقيفها (وإنهاء احتكار تونيزي كليرينغ كمصرف تطهير)! ذلك أن هذه البرجوازية-الصغيرة تعشق التذمر والبكاء لكونها شديدة المحافظة فهي تريد تغيير كل شيء دون تغيير شيء (“نتحدث عن الواقع” قال لؤي الشابي، ويمكن أن نضيف: لا عن تغييره) أي دون المساس من أسس الرأسمالية[34].
إن كانت البنوك تحقق أرباحا استثنائية فلما لا تطالب ألارت بفرض ضرائب استثنائية عليها؟ لعل مثل هذه المقترحات لا تتماشى مع إيديولوجيتها النيولبرالية وتوصيات المؤسسات المالية الدولية التي تتبناها.
أما من وجهة نظر برنامج الاشتراكية فالمطروح هو تأميم النظام المالي ككل (كخطوة أولى نحو إلغاء الاقتصاد المالي) وتوجيه التمويلات حسب مخطط اقتصادي والإلغاء التام للفوائد. تكتيكيا يمكن أن يدعو الاشتراكيون إلى إلغاء “استقلالية” البنك المركزي أي تبعيته لصندوق النقد الدولي وفرض ضرائب أعلى على القطاعات غير المنتجة والطفيلية مثل البنوك لإعادة توجيه الأرباح التي تفتكها من الإنتاج المادي إليه.
فالمشكلة ليست النظام البنكي التونسي الذي لا يختلف جوهريا عن غيره في العالم، بما في ذلك في البلدان “المتقدمة”، مثله مثل غيره من القطاعات الاقتصادية. هذا مربط الفرس وهذه الأطروحة الأساسية التي ستحاول تبيينها هذه السلسلة.
نصوص هذه السلسلة
كان منذ البداية مشروع الرد على خطاب الاقتصاد الريعي مقسما على ثلاث أجزاء. بيّن الجزء الأول الجذور التاريخية والنظرية لمفهوم الريع الرائج وحدّده كتعبيرة إيديولوجية عن مصالح طبقية وإمبريالية معينة. حاول الجزء الثاني تبيين المشاكل الاقتصادية الأهم التي يعانيها الشعب التونسي والتوجه الصحيح لحلها ثم عبر ذلك التداعيات الاقتصادية السيئة لخطاب مناهضة الريع. أما الجزء الثالث فيحمل الحجة الأقوى التي تدحض أساس خطاب مناهضة الريع.
ينبني الأخير على مسلمة ضمنية أحيانا وصريحة أحيانا أخرى: تطورت الدول “المتقدمة” اقتصاديا لأنها في مرحلة معينة من تاريخها أقامت نظاما “غير ريعي” أي رأسمالية سوق ليبرالية. مكّن ذلك مواطنيها من “خلق الثروة” ولعب السوق الحر والتنافس النزيه دورهما في تحفيز التطوير والإبداع وسهرت الدولة على ضمان المساواة في الفرص وحق الجميع في “خلق الثروة” بتوفيرها إطارا مؤسساتيا “إدماجيا” منع احتكار النشاط الاقتصادي والسلطة السياسية. أما البلدان “المتخلفة” فبقيت منحصرة في اقتصادات ريعية أي تحتكر فيها طبقات اجتماعية معينة الثروة والسلطة السياسية.
إذا بيننا إذن أن الدول الرأسمالية الأكثر تطورا اقتصاديا لم تكن وليست قريبة من الصورة التي يوحي بها خطاب مناهضة الريع فذلك يسقط فكرة الريع كتفسير للتخلف والتقدم الاقتصاديين.
بينت النظرية الماركسية منذ زمن بعيد الطبيعة الطبقية للمجتمعات الرأسمالية وعلاقة الطبقات المهيمنة بالدولة وطورت مفهوم الرأسمالية الاحتكارية. من خلالها كان الكاتب على اطلاع على بعض الأمثلة التاريخية (الحمائية والكرتالات الألمانية في كتابات روزا لوكسمبورغ، إمبريالية لينين، سويزي وباران حول الرأسمالية الاحتكارية الأمريكية مثلا[35]). كما صارت المعرفة بالواقع العالمي المعاصر متاحة بفضل أنترنت وانتشار وهيمنة اللغة الإنجليزية. على هذا الأساس كان من الواضح منذ البداية أنه لن يصعب تكذيب خطاب مناهضة الريع بأمثلة تاريخية ومعاصرة من البلدان المتطورة اقتصاديا.
بدأ البحث عن هذه الأمثلة بالتعرف على نصوص الكوري ها-جون شانغ[36]. هنا اكتشف الكاتب أنه يجهل جانبا مهما وكبيرا مما سماه هذا الاقتصادي في العنوان الفرعي لأحد كتبه “أسطورة التجارة الحرة والتاريخ السري للرأسمالية”. عن طريق مراجع شانغ ومراجع مراجعه انطلقت رحلة بحث في تاريخ مراكز الرأسمالية. تحول بذلك جزء ثالث من سلسلة “نقد نقد الريع” إلى سلسلة نصوص في حد ذاتها. فتغير الهدف من مجرد الرد على خطاب مناهضة الريع إلى غاية أوسع.
يندرج هذا الخطاب ضمن الهيمنة الإيديولوجية الإمبريالية بمعنى أولي مباشر كونه يأتي مباشرة من أدبيات البنك العالمي. لكنه ينبع، في مستوى أعلى من التعميم، من إحدى الآليات الأساسية لاشتغال هذه الهيمنة الإيديولوجية والنفسية: حيثما تقارب الذوات الخاضعة لهذه الهيمنة واقعا سلبيا (أي تقيمه ذاتيا كذلك) تفترض آليا وبشكل غير واع تقريبا أن واقع مراكز الرأسمالية نقيضه. ليس من الصعب ربط هذه الآلية بعقدة الدونية الاستعمارية لكن هذا موضوع بحث خارج على هذا النص.
يتم هكذا توليد عالم وتاريخ إيديولوجيين وهميين. فلا حاجة بذلك لدراسة جدية، كي لا نقول نقدية، لتاريخ الرأسماليات المتطورة وواقعها المعاصر. إذا قررنا أن الريع سيئ وبما أنه غالب على تونس ماضيا وحاضرا فلا يمكن أن يكون موجودا بقدر مهم في البلدان “المتقدمة”. لا تشمل هذه النفسية والإيديولوجية الأورومركزية أو بالأحرى الغرب-مركزية، مختلف الطبقات الاجتماعية والتيارات السياسية بما في ذلك أغلبية الماركسيين بل حتى المؤرخين أنفسهم. يكتب على سبيل المثال المؤرخ الحداثوي شبه-الماركسي الهادي التيمومي: “وعندما حصلت البلاد على استقلالها عام 1956، انهمكت هذه الدولة الناشئة في شد أزر هذه البرجوازية التي ظلت هزيلة زمن الاستعمار الفرنسي […] ويمكن أن نقول إن الدولة هي التي خلقت فعلا هذه البرجوازية، وقد حصلت هذه الطبقة من الدولة مجانا على كل ما ترغب فيه كما رأينا من قروض وتشريعات على المقاس وامتيازات جبائية وتجهيزات وطلبيات حكومية مربحة كما أمنت لها الدولة السلم الاجتماعية”[37]. لا شك أن الهادي التيمومي درس البرجوازية التونسية وتاريخها. لكن للكاتب أن يتساءل: هل درس بشكل جدي أو حتى بالحد الأدنى تاريخ برجوازيات مراكز الإمبريالية؟ يمكن الشك في ذلك فعلا. فهذه البرجوازيات نفسها استندت إلى دولها وتلقت مساعدات اقتصادية مهمة. فما معنى الحديث عن طبقة برجوازية مهيمنة إن لم تكن مرتبطة عضويا بالدولة؟!
لكن ما الداعي لبذل مجهود بحث نقدي في تاريخ المراكز الرأسمالية عندما يمكن تخيُّله بآليات إيديولوجية؟! يعود بذلك المؤرخ في البلدان التابعة للمرة الألف لتاريخ بلاده ويعتبر العناصر التي لا تعجبه (حسب ميولاته الإيديولوجية) فيه بشكل آلي غير موجودة في دول المركز بل كونها مناقضة للموجود هناك. يستنتج إثر ذلك أنها سبب “انحطاط” أو دونية بلاده.
لكن تاريخ وواقع بلاد ككل لا يأخذ معناه إلا بالمقارنة مع بلدان أخرى مثلما لا تأخذ سرعة الصوت معناها إلا مقارنة بسرعة الضوء وبسرعة طائرة أو سيارة. فإن كان ما يسمى بالريع موجودا منذ ظهور الرأسمالية وفي كل مكان، لا يمكن إذن اعتباره مشكلة أو شيئا سيئا في حد ذاته. وإن كانت البرجوازية مرتبطة بدولتها في كل مكان منذ صعود الرأسمالية فلا يمكن اعتبار ذلك مشكلا أو فسادا.
لذلك فإن فهم تاريخنا وواقعنا يمر بالضرورة بدراسة نقدية لتاريخ الدول الإمبريالية. لا يجب أن نتعسف على من سبقونا من ماركسيين فلا شك في حسن نواياهم لكنهم كانوا يفتقدون للموارد المعرفية والمراجع ومحصورون في تونس في حدود اللغتين العربية والفرنسية. أما اليوم بتعميم أنترنات وانتشار وهيمنة اللغة الإنجليزية عالميا فيمكن بأكثر سهولة الاطلاع على تاريخ نقدي للبلدان المهيمنة. إذ قام الماركسيون والجذريون هناك منذ زمن بفضح الوجه القبيح للرأسمالية والبرجوازي الأبيض تعبيرتها الرمزية السائدة.
لذلك فيجب اعتبار هذه السلسلة محاولة صغيرة أولى للندب في الأقنعة البيضاء التي مازالت ترتديها الجلود السمراء[38] لإعادة-إنتاج صورة مثالية وهمية على المراكز الإمبريالية وتاريخها.
ستهتم نصوص هذه السلسة بجوانب من تاريخ رأسماليات بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان على التوالي. ستركز بالأساس على بنية الأسواق ومسألة التنافس والاحتكار وعلى تدخلات الدولة ومساندتها وحمايتها للفاعلين الاقتصاديين وتفضيلها بعضهم على آخرين وتوجيهها/تشويشها للأسواق والأسعار وعلاقة الفاعلين الاقتصاديين بالدولة وتأثيرهم عليها أي مسألتي السلطة السياسية الطبقية واللوبيات ومسألة الفساد. هذه المسائل متعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر بخطاب مناهضة الريع. ستهمل نصوص السلسلة مسائلا مهمة مثل الاستغلال الإمبريالي للبلدان الطرفية والصراع الطبقي بين رأس المال والطبقة العاملة وإعادة-الإنتاج والديموغرافيا إلى غير ذلك. كما لن تهتم بتدخلات الدولة “اللينة” التي يقبل بها الليبراليون مثل التعليم والبحث العلمي والبنية التحتية و”الاجتماعية” مثل محاولات الحد من اللامساواة في الدخل والمساعدات للفقراء والخدمات العمومية.
ليست نية الكاتب القيام بعمل مرجعي حول التاريخ الاقتصادي لمراكز الرأسمالية بل فقط تبيين مدى تعقيده وتناقضه وامتلائه بالصراعات والظلم والفساد والريع والاحتكار والكرتالات في محاولة لبداية تكسير الصورة المثالية الوهمية التي مازالت تحملها شعوب البلدان التابعة ونخبها: بلدان تحترم مواطنيها يسود فيها احترام القانون والاستقامة والنزاهة و”المصلحة العامة” والسوق الحر والتنافس النزيه. كما أن الكاتب ليس مؤرخا واقتصر عمله على ترجمة وحوصلة أعمال مرجعية من مؤرخين واقتصاديين قل ما كانوا من نفس انتمائه السياسي والنظري أي ماركسيين. لذلك يمكن اعتبار التشوش الإيديولوجي لهذه النصوص التاريخية منخفضا. فكما سيكتشف القارئ عبر عديد الاقتباسات، تقارب المراجع المعتمدة عموما الاحتكارات وتشويش الأسواق وتدخلات الدولة التي تؤرخها، سلبيا أو على الأقل نقديا. اقتصرت إضافات الكاتب تحديدا في تعديل الكفة بإعطاء تمثلات مختلفة حيثما رأى ذلك ضروريا.
تجدر هنا الإشارة للتمثل الليبرالي (النيوكلاسيكي الأرثوذكسي تحديدا) الطريف لتاريخ الرأسمالية: حيثما ارتبطت سياسات غير ليبرالية بنتائج اقتصادية جيدة (حسب المعايير النيوكلاسيكية نفسها) فإن سياسات ليبرالية كانت حتما ستعطي نتائجا أفضل من ذلك؛ حيثما ارتبطت سياسات ليبرالية بنتائج سيئة فإن السبب هو عوامل خارجة عن النموذج النيوكلاسيكي ولو لم تكن هذه السياسات الليبرالية لكانت الأمور أسوأ! لذلك فلا يمكن للتجربة (أي للتاريخ هنا) دحض أو تأكيد الأطروحات النيوكلاسيكية وهي بذلك فاقدة لأية قيمة علمية[39].كما يجب أن نعرف أن النموذج النيوكلاسيكي، باعتراف ومعرفة معتمديه، غير ديناميكي أي أنه غير قادر على تحديد أثر الخيارات الاقتصادية الماضية على الحاضر والمستقبل بل فقط التوظيف الأكثر نجاعة (بمعنى معين) في لحظة معينة للعوامل الاقتصادية (العمل ورأس المال بالأساس) المتوفرة في تلك اللحظة. ما يعني أنه باحترام الصرامة العلمية لا يمكن القول على أساس النموذج النيوكلاسيكي أن هذه السياسات أو تلك تؤدي إلى تطور اقتصادي على المدى المتوسط أو البعيد.
لذلك لا يمكن للاقتصاديين الذين يهتمون بالتاريخ (أي بحركة بالواقع) إلا ملاحظة ترابط أو تزامن بين سياسات ونتائج اقتصادية معينة ولا يمكنهم الجزم بعلاقة سببية. بذلك فالقول إن سبب التطور الاقتصادي هو السوق الحر والتنافس قول إيديولوجي ليس له أساس في النظرية الاقتصادية المهيمنة نفسها. ولسوء حظ الليبراليين فإن الازدهار الاقتصادي ارتبط عموما بتدخل وتوجيه وتنظيم الدولة للشأن الاقتصادي أما السوق الحر فارتبط بالانحدار.
إن نصوص هذه السلسة نقدية بالأساس. فتبين أن الظواهر المرتبطة بما أصبح يسمى بالاقتصاد الريعي كانت ولا تزال موجودة بمستويات مهمة في مراكز الرأسمالية وأنها لم تمنعها من التطور الاقتصادي. بل يبدو أكثر من ذلك أنها ارتبطت بهذا التطور بينما لم تلعب الليبرالية الاقتصادية والسوق والتنافس إلا دورا ثانويا في هذا التاريخ. هذا لا يعني أن كل تدخلات الدول البرجوازية والممارسات الاحتكارية كانت تقدمية وإيجابية وحيثما كانت كذلك سيوضح الكاتب هذا الرأي. كما سيتبين أيضا أن السياسات الأكثر عدلا (مهما كان المعنى الذي تحشو به، مختلف المجموعات والأفراد في فترات مختلفة، هاته الدّالة الخاوية) أو شفافية ليست بالضرورة الأكثر نجاعة اقتصادية. ما لا يعني أن الأخيرة يجب أن تكون المعيار السياسي الأول خاصة بالنسبة للاشتراكيين. ولو يمكننا تعلم الكثير من هذا التاريخ، لا يطرح الكاتب بتاتا عبر هذه النصوص تبني الاشتراكيين في بلدان الأطراف اليوم لسياسات برجوازيات المراكز الإمبريالية في الماضي.
بلغة أخرى فإن أطروحة هذه السلسلة هي أنه لا يمكن تفسير التطور الاقتصادي بانعدام أو انخفاض ظواهر الاقتصاد الريعي أي بإقامة رأسمالية ليبرالية. لكن الكاتب لا يطرح على نفسه الإجابة على سؤال: كيف ولماذا تطورت هذه البلدان بينما لم تنجح غيرها في ذلك؟ هذا لا يمنع وجود بعض عناصر إجابة. كما أن إزاحة فرضية خاطئة خطوة للتقدم نحو هذه الإجابة. نعرف أيضا جزء كبيرا من الجواب منذ بينت نظرية التبعية والنظام-العالم أن التطور و”التخلف” وجهان لعملة الرأسمالية العالمية الواحدة.
إن فهم تاريخنا يمر بالضرورة عبر خروج هجومي نقدي نحو تاريخ البلدان المهيمنة، لا للتنديد به أخلاقيا، بل لتفكيك طابعه الإيديولوجي. بذلك فقط يمكن فهم تاريخنا في علاقته المنطقية والملموسة بتاريخ العالم.
أما شقلبات مؤرخينا اللامتناهية، محاولة لاكتشاف سرّ خفي في تاريخنا يفسر “تخلف” أو “انحطاط” البلدان التابعة بل الإنسان الطرفي (العربي أو الأسود إلخ.)، فلن تؤدي إلى أي نتائج نظرية وسياسية منطقية ومتناسقة. “وهذا التصور نفسه هو وليد أثر الوهم الطبقي في إيديولوجية البرجوازية الكولونيالية التي تقيم علاقة التماثل البنيوي بين وضعها الطبقي المميز كبرجوازية كولونيالية ووضع البرجوازية الأوروبية […] وفي علاقة التماثل هذه، وبها، تختفي علاقة التبعية البنيوية للإمبريالية، من حيث هي علاقة اختلاف بنيوي تتميز فيها البرجوازية الكولونيالية من البرجوازية الإمبريالية بتبعيتها لها. إن تلك “النظرة التاريخية إلى الذات” كما تتحدد بذلك المنطق المثالي، هي بالفعل نظرة لاتاريخية وبالتالي نظرة إيديولوجية محددة تختفي فيها تلك العلاقة من التبعية البنيوية للإمبريالية، لأن للبرجوازية الكولونيالية المسيطرة مصلحة طبقية في إخفائها”[40].
[1]David Ricardo – The Principles of Political Economy and Taxation
[2] أهملت هنا مسألة وثنية المال وجوانبه الإيديولوجية والسياسية.
[3] أهملت هنا للتبسيط مسألة هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي على أنماط أخرى (ليست بالضرورة سابقة له بل أيضا وليدة هيمنته) داخل كل الرأسماليات الحقيقية.
[4] Fernand Braudel – La dynamique du capitalisme
[5] Valérie Charolles – Le libéralisme contre le capitalisme
[6]Eric A. Posner and Eric Glen Weyl – Radical Markets: Uprooting Capitalism and Democracy for a Just Society
يقترح الكاتبان ما يسميانه “ملكية مشتركة جزئية” وهي في الحقيقة مجرد إجبارية بيع الممتلكات (عدا البضائع المتجانسة)، بقيمة يُصرَّح بها ذاتيا، لمن يدفعها وضريبة متناسبة مع هذه القيمة. تجدر الملاحظة أنهما في خاتمة الكتاب لا يرفضان مبدئيا تجاوز السوق نحو التخطيط لكنهما يأجلانه إلى مستقبل بعيد على أساس حجج بالية تعود إلى أول القرن العشرين في حين بين اشتراكيون منذ نهايته أن تطور الحواسيب ثم أنترنت كسر الحواجز الحسابية والمعلوماتية أمام تخطيط مركزي شامل ديمقراطي ومفصل. حول هذه المسائل أنظر:
Paul Cockshott & Allin F. Cottrell – Towards a New Socialism
Paul Cockshott, David Zachariah – Arguments for Socialism
Paul Cockshott – Communist Democratic Planning
W. P. Cockshott, J. P. Dapprich, A. Cottrell – ECONOMIC PLANNING IN AN AGE OF CLIMATE CRISIS
[7]MATT MCMANUS – Was John Stuart Mill a Socialist?
[8] بمعنى توزيع ملكية المنتجات أو استهلاكها لا بمعنى نقلها. ما يتم بشكل ملموس أساسا عبر تزويع المال.
[9] يمكن الذهاب أبعد إذا أخذنا الليبرتاريين (بالمعنى الأمريكي) بجدية. يعتبر هؤلاء أن هذه الوظائف السياسية للدولة يمكن للسوق الاضطلاع بها بشكل أفضل. بذلك يمكن حتى تخيل رأسمالية سوق صرفة دون دولة.
[10] يمكن اعتبار الاتحاد السوفياتي في الفترة الستالينية تجسيد تاما لرأسمالية الدولة لكن هذا التوصيف محل جدل مع من يعتبرون هذه الفترة اشتراكية أو يقترحون نمط إنتاج دولاني مختلف عن كلا الرأسمالية والاشتراكية.
[11] يعتبر ماركس أن انتشار التبادل في السوق هو الذي مهد الطريق لصعود الرأسمالية. لذلك يرى الماركسيون في تواصل وجود السوق خطرا على بناء الاشتراكية وإمكانية مستمرة لظهور الرأسمالية. يرجع البعض حتى انهيار الإتحاد السوفياتي إلى التراجع التدريجي للتخطيط المركزي والاتساع التدريجي للسوق بعد الفترة الستالينية. كما لا يرجع ماركس جذور الاغتراب فقط للاستغلال الرأسمالي بل أصلا لإنتاج البضائع أي للإنتاج الموجه للسوق لا للحاجيات. لهذه الأسباب يسعى التيار الماركسي إلى إلغاء السوق. هذا بالإضافة إلى النجاعة الاقتصادية الأعلى للتخطيط من السوق وهو ما يؤكده التاريخ ولا يرفضه حتى الاقتصاديون الليبراليون الذين يعارضون التخطيط على أساس طابعه الاستبدادي المفترض أو “حرية المستهلكين”. أنظر:
Paul Cockshott – Economic Factors in Soviet Collapse
Johanna Bockman – The Long Road to 1989: Neoclassical Economics, Alternative Socialisms, and the Advent of Neoliberalism
Paul Cockshott – The Limits of Market Socialism
Robin Hahnel – Democratic Economic Planning
[12] ماركس – رأس المال، الكتاب الثالث.
[13] “وأخيرًا، إذا واجهت مساواة فائض القيمة إلى ربح متوسط عقبات في مختلف مجالات الإنتاج في شكل احتكارات اصطناعية أو طبيعية، وخاصة الاحتكار في ملكية الأرض، بحيث يصبح سعر الاحتكار ممكنًا، والذي يرتفع فوق سعر الإنتاج وفوق قيمة السلع المتأثرة بهذا الاحتكار، فإن الحدود المفروضة من قيمة السلع لن تتم إزالتها بذلك. سعر الاحتكار لبعض السلع سينقل فقط جزءًا من ربح منتجي السلع الأخرى إلى السلع التي لها سعر الاحتكار. ستحدث بشكل غير مباشر اضطرابات محلية في توزيع فائض القيمة بين مختلف مجالات الإنتاج، لكنها ستترك حد فائض القيمة هذا غير متغير […] في هذه الحالة، سيتم دفع سعر الاحتكار عن طريق خصم من الأجور الحقيقية (أي كمية القيم الاستعمالية التي يحصل عليها العامل لنفس كمية العمل) ومن ربح الرأسماليين الأخرين. ستُثَبَّتُ الحدود التي سيؤثر ضمنها سعر الاحتكار على التنظيم الطبيعي لأسعار السلع بشكل محكم وقابل للحساب بدقة”. ماركس، نفس المرجع.
[14] نقرأ مثلا في الصفحة الأولى من الترجمات الفرنسية، تحت العنوان: “Essai de vulgarisation”
[15]Paul Mattick – Competition and Monopoly
[16]Nicos Poulantzas – Fascisme et dictature
وبأكثر تفصيل يكتب إيمانويل والرشتان: “كان الصراع على السعر في هذه ‘الأسواق الوسيطة’ يمثل محاولة من المشتري لينتزع من البائع نسبة من الربح المحقق من جميع عمليات العمل السابقة على امتداد سلسلة السلع. من المؤكد أن هذا الصراع كان يتحدد في مواصل مكان-زمان معينة بالعرض والطلب، ولكن لم يكن ذلك أبدا بصفة وحيدة. في المقام الأول، يمكن بالطبع التلاعب بالعرض والطلب من خلال القيود الاحتكارية، والتي كانت شائعة لا استثنائية. وثانيًا، يمكن للبائع أن يؤثر على السعر في الموصل من خلال الاندماج العمودي. وكلما كان ‘البائع’ و‘المشتري’ في الواقع في نهاية المطاف نفس الشركة، يمكن التلاعب اعتباطيا بالسعر من حيث اعتبارات جبائية وغيرها، لكن مثل هذا السعر لم يمثل أبدًا تفاعل العرض والطلب. لم يكن الاندماج العمودي، تمامًا مثل الاحتكار ‘الأفقي’، نادرًا. نحن بالطبع على دراية بأكثر حالاته استعراضية: الشركات المرخصة في القرنين السادس عشر والثامن عشر، والبيوت التجارية الكبرى في القرن التاسع عشر، والشركات عبر-الوطنية في القرن العشرين. كانت هذه مؤسسات عالمية تسعى إلى ضم أكبر عدد ممكن من الروابط في سلسلة سلع معينة. غير أن حالات أصغر من الاندماج العمودي، تغطي بضع روابط (حتى اثنين) في سلسلة، كانت أكثر انتشارًا. تبدو منطقية المحاججة بأن الاندماج العمودي هو القاعدة الإحصائية للرأسمالية التاريخية بدلاً من تلك المواصل ‘السوقية’ في سلاسل السلع التي كان فيها البائع والمشتري حقا متفرقين ومتضادين حقا”. أنظر:
Immanuel Wallerstein – Historical Capitalism
[17] حول هذه المسائل أنظر:
Immanuel Wallerstein – THE MODERN WORLD-SYSTEM II: Mercantilism and the Consolidation of the European World-Economy, 1600 – 1750
[18] لم تعد مسألة تركز رأس المال وحجمه عاملا مهما في فهم تطور الرأسمالية العالمية، إذا لا يمكن أن يتركز أكثر بكثير مما هو الحال. لذلك فإن مفهوم الرأسمالية الاحتكارية لم يعد مهما اليوم لأنه بديهي. يعتبر مثلا فصل مرحلة رأسمالية الدولة (الاحتكارية) والمرحلة النيولبرالية على أساس علاقة الدولة والسوق والاقتصاد نقاشا أهم، وكذلك تطورات علاقة مراكز الرأسمالية بأطرافها أي بنيتها الإمبريالية.
[19] حول هذه المسألة أنظر مثلا: حول الذات الثورية، مدونة إزميل
[20] Samir Amin – The Law of Worldwide Value
[21]Agribusiness Handbook, Sugar Beet White Sugar, FAO
[22] مصادر الأرقام:
وزارة الفلاحة
Soybean Prices – 45 Year Historical Chart
[23] أرقام وزارة الفلاحة، (نفس الرابط السابق) والمعهد الوطني للإحصاء.
[24] يمكننا أن نبين أن ضارب ترابط سعري (تركيب خطي بعاملين إيجابيين بينهما بدقة) الذرة والصوجا بالدينار مع سعر العلف موجود بين 92 و96%. تم اعتماد رقم 90% فقط لتخفيف الصياغة.
[25]“وبالإضافة إلى التكاليف الكبيرة لانتصاب مصنع تحويل حبوب الصوجا الخام، يخضع استيراد كسب الصوجا لرسوم ديوانية بنسبة 15% (فضلا عن ضريبة خاصة بنسبة 2.5% على الذرة) منذ انتصاب قرطاج للحبوب كما تستفيد شركة قرطاج للحبوب من المزايا الضريبية والمالية (الإعفاءات الضريبية الجزئية أو الكلية، وإلغاء الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة، وغيرها) فيما يتصل بحجم المشروع ومنطقة الاستثمار (منطقة زغوان منطقة استثمار صنف أ ذات أولوية). كما تستفيد من مزايا ومنح النهوض بالقطاع الفلاحي في صناعات التحويل الأولية. ولذلك فإن استيراد كسب الصوجا مكلف نتيجة الامتيازات الممنوحة لحبوب قرطاج والقدرات المالية المحدودة جدا لصغار المنتجين […] ونظرا للقيود القاسية التي تفرضها السلطات التونسية لمنح ترخيص استيراد الذرة وكسب الصوجا، وانخفاض هوامش ربح هذه المواد الخام، ونظرا لأن أكبر مصنعي الاعلاف المركبة يستوردون مباشرة احتياجاتهم من الذرة والصوجا، لا يوجد حاليا سوى ستة فاعلين في السوق”، ألارت – الريع في الاعلاف وآثاره على منظومة الإنتاج الحيواني
[26] لا يمكن للأسف تأكيد ذلك مباشرة بالأرقام لأن الديوانة التونسية تعتبر حبوب الصوجا وفيتورتها نفس المنتوج. لكن يمكن التأكد منه بشكل غير مباشر بتراجع إنتاج الفيتورة والزيوت (عموما) التي تمثل الصوجا جزء مهما منها.
[27] أرقام المعهد الوطني للإحصاء
[28] شكرا لوليد بسباس على الملاحظات والمساعدة خاصة في هذا الجزء المتعلق بالامتداد.
[29] كل مداخيل البنوك من الفوائد هي طبعا ريوع بالمعنى الكلاسيكي، لكن المصطلح مستعمل هنا وفي كل النص، كما يعرف القارئ المطلع على السياق التونسي، بمعناه النيوليبرالي الرائج في خطاب مناهضة الريع.
[30] ستتطرق نصوص لاحقة ببعض التفصيل لهذه المسائل.
[31]Chafik Ben Rouine – Inflation et taux d’intérêts : l’échec du FMI, OTE
من الغريب قليلا أن بعض أعضاء المرصد، يرون على عكس هذا الرأي أنهم قريبون من ألارت، خاصة أن الأخيرة تدافع على استقلالية البنك المركزي.
[32]Alberto Onetti, Alessia Pisoni – Ownership and control in Germany: Do cross-shareholdings reflect bank control on large companies?
[33] على عكس تقوله ألارت وما تكتبه في رسومها البيانية فإن العائدات على الأصول تحسب بقسمة الأرباح الصافية على رأس مال البنوك. يوزع جزء فقط من الأرباح على أصحاب الأسهم. في 2019-2020 وزعت فقط 14.2% من أرباح البنوك المقيمة على أصحاب الأسهم وأسند الباقي كاحتياطي. في 2021 صارت النسبة 42.9% ثم 45.5% في 2022. أنظر التقرير السنوي للرافية المالية لسنة 2022.
[34] انتهت كتابة هذا النص في سبتمبر 2023 وتأجل نشره بالنظر للحرب في غزة. منذ ذلك الحين أضافت ألارت أهدافا أخرى لحملتها: مراجعة شورط الترخيص (لتأسيس بنك)؛ منح البريد التونسي الموافقة على مشروع البنك البريدي؛ إنشاء هيئة رقابة مستقلة مخصصة للقطاع البنكي. هيئة بيروقراطية جديدة سنقول بعد مدة أنها ليست مستقلة فعلا وأن “المنظومة” سيطرت عليها مثل مجلس المنافسة. فعلا بهذه الإجراءات التقنية البيروقراطية “تكسر” الكرتالات!
[35]Rosa Luxembourg – Réforme sociale ou révolution
Paul A. Baran and Paul M. Sweezy – Monopoly Capital: An Essay on the American Economic and Social Order
[36]Ha-Joon Chang – Kicking Away the Ladder: Development Strategy in Historical Perspective
Ha-Joon Chang – Bad Samaritans: The Myth of Free Trade and the Secret History of Capitalism
توجد ترجمات عربية لهذين الكتابين لا يمكن للكاتب إلا أن يشجع على الاطلاع عليها.
[37] الهادي التيمومي – تونس البورقيبية 1956-1987. قد يلاحظ القارئ جيد الذاكرة أن أنتون بانيكوك يقدم، حرفيا تقريبا، نفس الوصف لعلاقة البرجوازيات الأوروبية بدولها، في أحد الاقتباسات الافتتاحية لهذا النص. ويواصل المؤرخ التونسي: “إن الرأسماليين التونسيين لم يمارسوا أي نضال من أجل الحرية، إذ لا نجد في تراثهم ولو مثقال ذرة مما مارسته في سبيل الحرية البرجوازية الإنجليزية في القرن السابع عشر أو البرجوازية الأمريكية في القرن الثامن عشر أو البرجوازية الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر”. يتناقض هنا مع كتابه نقابة رجال الأعمال التونسيين حيث يعدد نضالات اتحاد الصناعة والتجارة “وقد عرفت العديد من العناصر القيادية “للاتحاد” في الخمسينات المنافي والسجون” ويشير “كذلك إلى أن ‘الاتحاد’ طالب في العديد من المناسبات بحرية الصحافة والتعبير والاجتماع، ونظم من أجل ذلك التظاهرات الاحتجاجية”.
[38]Frantz Fanon – Peau noire, masques blancs
[39] أنظر أيضا:
Paul Cockshott – Not even wrong
Paul Cockshott – Again on supply and demand – a critique of Marshall
Paul Cockshott – Jacobinism and the labour theory of value
[40] مهدي عامل – أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟