“لقد اختفى الجذام مخلّفًا وراءه أماكن وضيعة، وطقوسًا لم تكن الغاية منها القضاء على الداء، بل الإبقاء عليه في مكان معزول.”
ميشال فوكو 1
نعود في هذا المقال لتسليط الضوء على أحد الأعمال المميّزة التي عرفتها السينما المصرية في السنوات الأخيرة، والذي كان من الأفلام التي رُشِّحت للعديد من الجوائز العالمية، ومن ضمن الانجازات المهمة هو ترشيحه للمنافسة على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي سنة 2018.
الفيلم هو من إخراج أبو بكر شوقي، وهو مخرج مصري نمساوي لم يعرف له العديد من الأعمال قبل فيلمه الذي سنقدمه لكم في هذا المقال.
لعب دور البطولة في هذا الفيلم كلٌ من راضي جمال في دور ’بشاي’ والطفل أحمد عبد الحفيظ في دور ’أوباما‘
سنقدّم الفيلم من خلال ثلاثة لحظات أساسية شكّلت بنيته المكانية والدرامية العامة.
1-المستعمَرة
وسط أكوام الفضلات التي “تجود” بها المدينة على المنبوذين، يبدأ الفيلم في مشهده الأوّل ليقدّم لنا الشخصية الرئيسية في الفيلم، إنه ’بشاي؛ الذي يبدو منهمكًا في البحث عمّا يمكن بيعه من تلك الفضلات، وهو المصاب بالجذام2 كما يظهر ذلك على ملامح وجهه. وفي الأثناء يعثُر بشاي على أداة تشغيل للموسيقى، تلك الأداة التي تخلّت عنها المدينة يجد فيها بطلنا متعة فيغنَمها.
يواصل إثر ذلك بشاي العمل، وفي أثناء قيامه برحلة فرز الفضلات تُصاب قدمه بحجر ضخم تسبّب لها بجرح غائر. هكذا هي الحياة اليومية للمنبوذين، حيث الانتهاك والتعب والمرض معطيات تشكّل جوهر حياتهم اليومية.
يعود بشاي فوق عربته التي يجرّها صديقه الحمار ’حربي‘. هذا الاسم الذي يعبّر بشكل ساخر عن طبيعة هذا الحمار المكافح والذي يتحمل معاناة الطريق. هذا الحمار الحربي الذي يساعد بشاي في الحصول على قوت يومه ليس مجرد أداة، بل هو صديق لبشاي ورفيق حياة.
بعد أن يبيع ما جمعه من الفضلات “ذات القيمة” لصالح أحد جامعي النفايات، يقبض بشاي بعض المال الذي يسدّ حاجته، ليعود للمستعمرة التي تمثّل مكان عيش للمنبوذين.
لكن قبل العودة للبيت، يصل بشاي ناحية طبيب المستعمرة ليعاين له قدمه التي تأذت أثناء عمله. يطلب منه الطبيب القيام بإجراءات إدارية تتمثل في موافقة مدير المستعمرة على طلب للقيام بالأشعة لمعرفة ما أصاب قدمه.
يذهب بشاي لمدير المستعمرة، والذي قدمه مخرج الفيلم بشكل مفارق لطبيعة المكان، إنه كائن مبتسم وبشوش مخالف لكل توقعاتنا عن مدير مؤسسة للمنبوذين.
يظهر هذا المدير بوجه مبتسم ولطيف، متحدثًا مع بشاي حول أوضاعه الصحية والعملية، وعن حال زوجته، فيقول بشاي “مراتي من ساعة ودتها المصحة، البيت فضي عليا”.
نفهم بعد ذلك أنّ بشاي متزوج من إحدى المقيمات في المستعمرة، والتي تشاطره مسيحيته من جهة، و الإصابة بالجذام من جهة ثانية.
يستعد بشاي رفقة حماره العزيز حربي على أنغام “يا صباح الخير يلي معانا..” لزيارة زوجته المقيمة في مستشفى الأمراض العقلية.
يمرّ بشاي على سكان المستعمرة ملقيًا التحايا والابتسامات. هكذا هي حياة هؤلاء المنبوذين في المستعمرة، هناك حيث تكون العفوية والبساطة هي كل ما يشكل جوهر حياتهم اليومية.
يجلس بشاي بجانب سرير زوجته، التي تبدو في حالة صمت متواصل، في حين يخبرها بشاي أنه يعاني من الوحدة وأنّ عليها العودة معه للبيت. هذا البيت الدافئ، هناك حيث يقاسم الغرباء المنبوذين كل ما يملكونه، من حب وخبز.
يعود الفيلم لتصوير الحياة اليومية أثناء عمل بشاي، ويرافقه في ذلك الطفل الأسمر أوباما، واللذان يذكراننا بعلاقة الأب وابنه، حيث يحرص بشاي على دراسة هذا الطفل ويمنعه من الفرار من القيام بواجباته الدراسية.
في تلك اللحظة، يصل الخبر الذي يقلب حياة بطلنا رأسا على عقب، لقد فقد بشاي عائلته (زوجته)، ولم يبقَ له في المستعمرة سوى قدر كبير من الشعور بالوحدة الهائلة.
يقدّم أهل القرية العزاء، ويُدفن بشاي زوجته في مقبرة المستعمرة، حيث يدفن المنبوذون بعيدًا عن أعين المجتمع. فسكّان المستعمرة يمثلون نشازا بالنسبة للكل الاجتماعي الذي يقصيهم ويحيّدهم في أماكن معزولة.
يأتي الطفل أوباما (الطفل اليتيم ) سائلا عن حال بشاي وحربي، وفي تلك اللحظة يقول أوباما “ما تفكك يا وحش”.
يغضب بشاي ويرفض هذا النعت، فهو يعلم جيدًا أن ثمّة قصديّة مؤذية عندما توجه هذه الكلمة لمصاب بالجذام، وهو الذي عاني منها طيلة طفولته التي سيقدمها الفيلم بعد ذلك بشكل مفصّل.
في ذلك الصباح، تزور امرأة بيت بشاي في المستعمرة، وتقدم نفسها أنها أم زوجته التي توفيت. وأنها جاءت لزيارة قبرها بعد أن أعلمتها إدارة المستعمَرة بوفاة ابنتها المصابة بالجذام.
في تلك الأثناء يتساءل أوباما عن معنى أن يكون لنا أهل…
فيجيب بشاي : “هو اللحم منتن؟”
فيجيب الطفل أوباما : “لو كان ليا أهل لكنت دورت عليهم”.
تتكرر تلك العبارة في رأس صاحبنا بشاي، ويقرّر بسبب ذلك السفر ناحية البحث عن أهله.
تُعلمه إدارة المستعمرة أنّه لا يملك ملفًا قانونيا عمّن يكون، فأبوه تركه عند بابها ورحل.
يجتمع أهل المستعمرة، ويحدثهم بشاي عن رغبته في أن يبحث عن أهله، فإن كانوا نبذوه طفلاً، فهو الآن في سن الأربعين. يحدّثهم أنه يذكر اسم المكان الذي وُلد فيه، فيسخرون منه ومن رغبته في العودة للعائلة، فهو مجذوم ووحيد، فيحدثهم أنه لا يملك أحدًا يذكره بعد موته، وأنه لا يملك سوى فرصة واحدة تمنع عنه أن يصير نسيًا منسيًا، هو أن يعود لعائلته.
يحزم أمتعته فوق ظهر العربة التي يجرها حربي، وينطلق، حاملاً أملًا أخيرًا بأن يجد من نبذوه صغيرًا.
يصعد أوباما معه العربة، لكنه ينزله بالقوة، ويكمل طريقه المستحيل، بأن يعود للعائلة، للوطن…وهناك يعلو صوت الموسيقى معبّرا عن تزاوج الرغبة والأمل في قلب بشاي.
قبل أن يغادر المستعمرة، يأتي كبيرها ويحاول أن يصف له طريق العودة.
إن طريق العودة، هو الوصول إلى النيل، هو القلب، وقلب مصر هو نيلها. هكذا يُقدّم الفيلم من خلال هذا الوصف أهمية النيل في فهم المصريين للأماكن.
ينطلق حربي وبشاي على الطريق، وأملٌ بالعودة تقدّمه كاميرا المخرج في الحماس الذي يبدو على وجه بشاي، والذي يجعله مهتاجا وفي حالة من الحبور.
تمثّل المستعمرة في كاميرا أبو بكر شوقي مساحة لهذا اللامرئي الذي يهدّد من حيث جوهره التجانس الاجتماعي الذي يبحث فيه الفضاء العام المرئي.
حيث يمثل مغادرة بشاي من “لا مرئية المستعمرة” نحو مرئية الفضاء الاجتماعي لحظة التحول الدرامي الأساسي في الفيلم والتناقض الذي يشكل جوهره.
وإن كانت دوافع بشاي متعلقة بالبحث عن العائلة، بما هي لحظة تتعلق بالشعور بالانتماء والبحث في التعلق بالذاكرة الجماعية، فهي بالأساس صراع مع ما يشكّل أساس المنبوذ بما هو عملية “تناسي” مقصودة ومنسقة يقوم بها الجزء الاجتماعي المرئي ليتخلص من هؤلاء الذين يهدّدون تجانسه وجماليته
هذا ما سيشكّل درامية العنصر المكاني الثاني في الفيلم، نعني بذلك “طريق العودة” الذي سيجعل من بطلنا بشاي في مواجهة مباشرة مع هذه التناقضات الجمالية والاجتماعية.
2-طريق العودة
ينطلق بشاي في رحلته ناحية البيت. يركب تلك العربة التي يجرّها حربي، وبعد وقت قصير يبدأ بشاي في رؤية عناصر الحضارة المعاصرة (طرقات، سيارات، هواتف الخ). وبعد تلقّيه لأول كلمات السخرية يتوقف قليلًا في الطريق ليتفقد حال حربي، وإذ به يسمع صوتًا قادمًا من العربة. وبعد قليل من البحث في العربة يكتشف أنّ الطفل أوباما مختبئ هناك. ينزله ويأمره بالعودة للمستعمرة، فيرفض الطفل أوباما هذا الأمر وحجته في ذلك أنه لم يعد له أحد في المستعمرة
في تلك اللحظة فهم بشاي قصد أوباما. وكيف لا يفهم ذلك وهو المسافر من المستعمرة إلى المجهول من أجل أن يشعر بالانتماء إلى عائلة.
يكملان الطريق ناحية موقع أثري ليرتاحا فيه، ويبدأ أوباما في طرح الأسئلة التي تريد استكشاف المحيط خارج المستعمرة، ويجيب بشاي باستنتاجاته المضحكة حينًا والصحيحة أحيانًا.
ينزل الليل ويبدآن في تبادل الأحاديث، فيسأل أوباما عن اسم بشاي الحقيقي. فيقول أن اسمه “سليم” وأنه يعلم أنّ أهل القاهرة لا يصيبهم الجذام.
يستبطن بشاي دونية مرضه، وهذا الاستبطان هو جزء من البعد الاجتماعي للمرض. إن العزل الذي يتعرض له المصابون بالجذام و اليتامى، كحال بشاي وأوباما، هو جزء من صناعة الشعور بالدونية لدى هذه الفئات التي يرفض المجتمع رؤيتها في فضائه العام.
في صباح اليوم الموالي، يصلان النيل، فينزل أوباما النهر للسباحة، ويطلب من بشاي القدوم معه. وعندما ينزل بشاي النيل، الذي يمتلئ بالبقر السابح على أطرافه، تصرخ امرأة في وجه بشاي طالبة منه الخروج لأنه (كمصاب بالجذام) يهدد نظافة النيل وطهارته.
بعد الدخول في صراع الحياة اليومية التي قد يعانيها مصاب جذام خارج المستعمرة، يخرجان من النهر ويكملان طريقهما. لكن وعند محاولتهما إصلاح عطل أصاب العربة، يفقد الطفل أوباما وعيه، وهذا ما يجعل من بشاي يصاب بحالة من الهلع خوفا على صحة أوباما.
يحاول الفيلم تقديم الجانب الأبوي في علاقة بشاي بأوباما، واللذان يمثلان ملجئًا لبعضهما البعض.
يحمله ويسير به باحثا عن طبيب، وهناك تبدأ سلسلة أحداث ومتاعب تطال صديقنا بشاي. ليس أقلّها نظرة الناس لوجهه المصاب بالجذام واستغرابهم من وجوده.
عند عودته لجلب بطاقته وأمواله لأجل علاج أوباما، تصطدم سيارة الشرطة ببشاي وتمسكه بتهمة إهانة الشرطة و عدم ارتداء ملابس “محترمة”، وهو الذي خرج بتلك الملابس من النيل لأجل إنقاذ حياة أوباما.
في الإيقاف، يجد نفسه مع أحد السلفيين، الذي يبدأ في الصراخ مطالبا بأن يتم إبعاد هذا “المريض” لأنه وكما يقول “جربان”، فيجيبه بأنه مصاب بجذام عام، وأنه لن يؤذيه. فيرفع السلفي يده إلى الله، (طالبًا الغفران واللطف من حال بشاي).
يخرجانهم الاثنين ويديهم في نفس “الكلبش”، وفي لحظة غياب الشرطي يأمر السلفي بشاي بالهرب معه. وتبدأ موسيقى المطاردة بين بشاي والسلفي من ناحية، وبين الشرطة من ناحية أخرى.
هكذا يجد بشاي نفسه في أهوال الحياة خارج المستعمرة.
يصلان لمكان يختبئ فيه “الإخوة السلفيين” ويفهم بشاي جيدًا أن عليه أن يخفي مسيحيته، فيجيب عند سؤاله عن اسمه، أن اسمه الحقيقي “محمد”. وبفضل ذلك يستطيع بشاي الخروج من عش الدبابير سالمًا، بل حاصلاً على لباس يستر جسده.
تطوّر هذا الذكاء الذي يميز بشاي في ردود فعله ذي علاقة أساسية بإدراكه للقوانين الاجتماعية التي تحكم سلوك الناس و ميولاتهم. وهذا الذكاء عادة هو ما يسمح للضعفاء من أمثاله أن يجدوا موطئ قدم في عالم مليء بالعنف والإخضاع والاحتقار والتمييز.
يعود بطلنا ناحية حماره حربي، فيجد أوباما هناك بانتظاره. يتعانقان، ويفهمان أنهما كل ما يملكانه في هذه الدنيا، دنيا المتاعب المتواصلة.
في الليل يقترح بشاي على أوباما فكرة العودة بسبب انتهاء المال الذي معهما. فيجيب أوباما، بأنه يجب أن يواصلا الطريق ناحية قريته وعائلته. في عتمة الليل يرى بشاي ضوء أحد القوارب التي تقام فيها الحفلات في النيل، فيتذكّر تلك الليلة التي تخلى فيها أبوه عنه أمام باب المستعمرة. كان أحدهم يقول له “يجب أن نسرع قبل أن تنقل لنا الجذام… سنتركك هنا وستكون بخير، وسنعود لنأخذك”.
كان بشاي في تلك اللحظات أمام القسوة المطلقة للحياة، حيث يترك طفلا وحيد لمصيره، بسبب مرض لم يختره ولم يستطع أن يؤذي فيه سوى الغطاء الخارجي لجسده، أما شعوره وعاطفته فهي أكثر قدرة على تحسس الألم… لكن كل هذا الشعور الهائل بالألم لم يشفع له، فالمظهر هو وحده طريق الحكم على هذا الطفل وعلى مصيره.
في صباح اليوم الموالي يعدّ أوباما قبّعة و غطاء شفاف لكي يرتديها بشاي. وعندما يستفيق من نومه يُلبس أوباما بشاي هذا القناع على رأسه ووجههم، قائلًا له بأن هذا الاختراع سينقذه من سخرية الناس وأحكامهم.
تعود تلك الأداة الموسيقية التي وجدها بشاي في أوّل الفيلم للظهور في يد أوباما الذي ينجح في تشغيلها ويبدأ في الرقص. هذا الرقص الذي جعل بشاي أخيرا قادرًا على استرجاع الضحك بذلك الوجه، الذي انقلب إلى وجه طفل وديع يضحك ويسعد بأبسط الأشياء.
هكذا يصير أوباما طفلا بارًا بأبيه بشاي، ويصير بشاي في حضرة أوباما طفلاً صغيرًا خلف ملامح “غير عادية” لكنها طبيعية مليئة بالمعاناة والشقاء.
الغناء هذا الاختراع الذي يجعل للروح قدرة على الفرح… ومن يستطيعون الغناء يستطيعون الحياة في كل مرّة.
يواصلان الرحلة، وفي الطريق يساعدان كل من طلب منهم ذلك، ويجدان المساعدة في مقابل ذلك. أثناء ذلك يصور لنا الفيلم تلك اللحظة الرائعة التي تمنحها لنا الطبيعة، مثل غروب الشمس، المساء، لون السماء الأقرب للروح بحمرته وبياضه وزرقته. هناك تصير الكاميرا فرشاة فنّان وصوتا هادئا يخرج من جمالية الكون الفسيح.
يستفيق بشاي في الليلة الموالية على محاولة سرقة الحمار حربي. هكذا يفهم المزيد من خبايا العالم خارج المستعمرة، هنا حيث لا صديق دائم، هنا قد تكون الابتسامة طريقًا مناسبًا للفتك بك.
يسيران في طريق دون قرار، وقد بلغ بهما سوء الحال والجوع مبلغًا عظيمًا، لكنهما ينجحان في الصعود للقطار. هناك يقدم لنا الفيلم بعض الغناء الصوفي الذي يؤنس حال الركاب.
هما الآن في القطار، ولا يملكان المال ليحصلا على تذاكر. يحاول مراقب القطار الاعتداء عليهما، فيقف بشاي ويصرخ بكل قواه : “أنا موش بني آدم ولا إيه؟”
ابن آدم، هذا الذي تقاسمه الذات بوصفه وحدة الأصل، من صلب أب واحد، وأم واحدة، حتى وإن كان الأصل في الحكاية نفسها، فإن بشاي وتحت وطأة القهر الاجتماعي وعدم الاكتراث الذي يجده في العالم، لم يجد من سؤال أكثر جذرية من سؤال إنكاري. هو هذا الذي كان سؤالاً عن سبب التميز الذي يجعله يقابل بالعنف والاحتقار في كل مكان.
في تلك الليلة ينام على صوت آلام الحمار حربي، الذي أُنهِك جوعًا وعطشًا, و في أثناء الليل، يعود في الحلم إلى القطار، وهناك نرى يد قاطع التذاكر وهي تمتد لتلمس وجهه، هذا الوجه المنتهك بنظرات الناس وبسخريتهم. يحاول إبعاد وجهه عن تلك اليد، ليستفيق وقد أصابه الهلع، ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم، وبالطيور التي تنتظر فناء حربي.
تتحول جثة حربي، هذا الحيوان، إلي جثة آدمية بحب أوباما و بشاي. يتلو أوباما بعض آيات من ذكر الحكيم، ويسأل بشاي : “هي الحيوانات تحاسب يوم القيامة؟”
يجيب بشاي بيقين : «حيخشوا الجنة بدون حساب »…
يواصلان طريق العودة، آدميَيْن، بعد أن غادرهما، وإلى الأبد، الحمار رفيق الدرب، حربي. لقد هزم طريق العودة أحدهم، لكنهما مازالا يسيران في طرق مصر الطويلة والمليئة بالهامشيين.
يصلان قلب مدينة سوهاج، وهناك يسألان عن طريقهما، فلا يجدان إجابة، فيطلب بشاي بعض الطعام لأجل الطفل أوباما، لكن لا يجدان أي تجاوب أو شفقة.
يبدأ بشاي في طلب المساعدة من المارين. وفي تلك اللحظة يتدخل أحدهم، الذي يبدو مقطوع القدمين، وينهر بشاي عن القيام بالوقوف والتسول في هذا الشارع، وحجته في ذلك أن الشارع هو ملك له، فهو الوحيد الذي يحق له التسول في هذا الحيز المكاني.
يجيبه بشاي بأنه لا يعلم عن هذا الأمر، وأنه لا يشحت، بل هو يريد تقديم الأكل لطفل أوباما.
يبتعد بشاي عن الشارع ويظل راعيا لأوباما، لكنه يردد لعنه لحال الدنيا ولحال الناس.
في تلك اللحظة يتوقف الشخص الذي طردهما من الشارع، ويطلب منهما مرافقته في الطريق ليقدما لهما المساعدة.
يشير لساقه المبتورة و لوجه بشاي في نفس الوقت، وكأنه يفهم جيدًا السبب الذي دفعه لتقديم المساعدة. إنها المعاناة التي يتقاسمها المنبوذون في هذا العالم الذي لا يتوقف عن إنتاج الضحايا وعن ازدرائهم.
في أجواء من اقتسام رغيف الخبز يشارك المنبوذون بعضهم البعض الرغيف والضحكات. هناك يروي بشاي رغبته في إيجاد أهله، وفي تلك اللحظة يقرّر هؤلاء المنبوذون مساعدته للعودة إلى”بحور” حيث ولد بشاي وتحقيق حلم العودة لوطنه.
يروي بشاي كيف كان أطفال قريته يصفونه بالوحش، بسبب ولادته بالجذام. وهنا تظهر جبال الجليد التي تشكل “التروما” التي تجعل بشاي يرفض سماع هذا اللفظ حتى من أوباما نفسه.
في الحلم من جديد، يرى بشاي وجهه في المرآة، لكن يظهر وجهه هذه المرة معافى. إنه بكل تأكيد حلم يكشف القدرة الخارقة التي يمكن أن تسبّبها عملية كشف جذور الصدمات التي مررنا بها، أي أنْ نُخرج من أعماقنا ما شكّل مآسينا الفردية والجماعية.
يستفيق بشاي ويبدأ حواره مع أحد المنبوذين، الذي يسأله عن حقيقة أوباما. فيجيبه أنه يتيم، فيقول له، هل تريد أن نبحث له عن أهله. فيرفض في المرة الأولى، والسبب في ذلك أن أوباما لم يعده أحد بأن يعود إليه.
يحدّثه هذا المنبوذ: نحن منبوذون بسبب أشكالنا، وليس لنا من أمل سوى يوم الدين، وقتها نكون متساوين.
في الغد يذهبون للبحث في الأرشيف المتروك بإحدى الإدارات المدرسية عن أصول الطفل أوباما، عن عائلته. فيكتشفون أن اسمه الحقيقي محمد عبد الرازق، وأنه أصيل قرية هُجِّر أهلها، وعندما يسألونه عن رغبته في معرفة حقيقة ما جرى لعائلته يرفض أوباما ويغادر المكان.
هكذا، بتشكل تراجيدي يؤسس لسيكولوجيا هذا الطفل. يرفض أوباما معرفة الحقيقة، ليتقبّل مصيره كطفل يتيم منبوذ. لكنه يقاسم هذا الشعور بالنبذ والخذلان مع رفيق الطريق بشاي، الذي وإن كان يريد العودة ورؤية الحقيقة كاملة، فإنه على الرغم من ذلك يقاسمه الوعي بالشقاء في عالم المنبوذين.
يواسي بشاي أوباما لكن الأخير يصر على أن يواصل بشاي رحلته ناحية البحث عن الأهل.
يتدبّر المنبوذون طريقا لبشاي وأوباما لمواصلة رحلة العودة، وينجحان في ذلك.
في الطريق تقدّم كاميرا المخرج تلك القرى البعيدة لمصر، تلك الصحراء، وذلك الطريق، ابتسامة الغرباء لبعضهم، وذلك الغروب الساحر، وذلك الفجر الجليل. هذه الصور العادية والمشاهد الروتينية هي كشف للجميل الذي نحظى به في هذه الحياة ولا نعطيه الاهتمام المطلوب…
يجد بشاي وأوباما أنفسهما من جديد في محطة القطار، ويكتشفان الاسم الحقيقي للمنطقة المقصودة، إنها “أبو حور”.
في تلك اللحظة يصاب بشاي بشعور ممزوج من الخوف والقلق، ويبدأ حوارًا بينه وبين أوباما، الذي يسأله إن كان يشعر بالخوف. يجيب بشاي بأنه خائف وأنه يريد العودة للمستعمرة، وبسبب ذلك يصفه أوباما بالجبان، وأن عليه أن يكمل رحلة العودة.
هكذا يتحول الطفل أوباما إلي سند معنوي للأب بشاي، فهذان المنبوذان لا يملكان في هذا العالم سوى بعضهما البعض.
بالرغم من هذا الحبّ الذي يجمعهما، إلّا أنّ بشاي يرفض نعته بالجبان، وهنا يفترقان، ويذهب أوباما ناحية القرية، فيما يضلّ بشاي عاجزا عن الحركة.
تبدو الطريق طويلة عندما يقطعها الإنسان وحده، فما بالك إن كان من يقطع طريق العودة منبوذا. ربما، ولأن المنبوذ ما يزال قادرًا على الشعور بأنّ خلف كل هذه العقبات، يوجد أمر يستحق التضحية.
هذا الذي يستحق كامل التضحية في سياقنا هو المكان الثالث، الذي لا نجنّ إن وجدناه. إنه البيت، وهو في سيرة بطلنا الفردوس المفقود، والذي نسعى للعودة إليه دائمًا.
في الطريق إلي هناك، يعترضنا الموت، والسخرية، الخوف، والانتهاك. لكن في الطريق أيضًا يعترضنا الأصدقاء، المنبوذين، الذين يرون العالم من جراحنا، ومن فوهة قلوبنا.
هناك وجد بشاي بعضًا من البيت، قبل أن يصل البيت.
3-العودة للبيت
يطرق أوباما باب أحد البيوت في القرية، وتفتح له إحدى النساء. ويسأل أوباما أهل البيت إن كان هذا البيت هو منزل سليم -الاسم الحقيقي لبشاي- ويعرّف نفسه باسمه الحقيقي محمد عبد الرازق.
يجيبه صاحب المنزل بأنه لم يعد له أخا اسمه سليم، وأن ذلك الشقيق قد مات وهو صغير بسبب مرض “الجرب”. يجيبه أوباما بأن بشاي مصاب بالجذام، وأنه لم يمت. لكن لم يشفع له هذا الخبر أن يتعرض للضرب والطرد.
يعود أوباما ناحية بشاي ويخبره أنه لم يجد أحدًا، لكي لا يجعله يشعر بالنبذ من جديد.
يجيبه بشاي وهو ينظر لذلك الماضي الذي يلاحقه بأشباح النبذ والطرد ويقول :”أنا خايف يطرودوني من هنا تاني، لكن ادينا شفنا الدنيا ياعم”.
.
في لحظة من الشعور العميق بالنبذ و وحدة المصير، يأخذ أوباما الورقة التي من المفترض أن تدوّن سبب موت أبويه، ويقرأها ساخرًا :”أبويه متوفيان”.
فيجيبه بشاي بشكل ساخر أن يحفظ الله “البيروكركية المصرية”، قاصدا في ذلك كلمة البيروقراطية التي سمعها من أحدهم أثناء بحثهم عن أوراق أوباما.
هذه الكلمة التي تحول حياة المنبوذين إلي أرشيف ضخم يدجّن الألم ويحوله إلى أوراق وأرقام.
تملأ الموسيقى تلك اللحظة الأزلية التي جمعت شتات هذين المنبوذين في مشهد خالد، ينظران للنيل، ولرحلتهما من المستعمرة إلى أبو حور.
ينقلنا المشهد الموالي إلي بيت من بيوت الله (مسجد)، هناك حيث يتشارك المسيحي بشاي وأوباما الطفل المسلم ركنًا آمنًا. يأتي إمام المسجد ويعلمهما أن الصلاة ستبدأ. هناك يأمر بشاي أوباما بالذهاب للصلاة، فيما يقول لإمام المسجد أنه سيصلي في الصف الأخير لأنه يعاني من حساسية.
هناك يقف الجميع، بين يدي الله، في صف يساوي الجميع، من جهة الخيال، كتعويض عن اللامساواة التي تشكل جوهر الحياة الدنيا.
هذا العزاء الروحي والإيماني، قد لا يكون صحيحًا تجريبيا، أو قد يمثل شكلا من الوهم، إلا أنه نقطة العزاء الروحي لعالم مليء بالظلم والحيف والنبذ والدموع.
ينام بشاي في المسجد، فيما يذهب أوباما لمشاركة الأطفال لعب كرة القدم في القرية. وهنا يأتي شقيق بشاي، ويناديه ويسأله عن حقيقة بشاي وعن بقاءه على قيد الحياة بعد كل تلك السنوات. ويجيبه أوباما أنه مازال على قيد الحياة رغم الجذام، وأنه هنا باحثًا عن عائلته التي نبذته طفلاً.
يستفيق بعد ذلك بشاي وينظر من شباك المسجد، فيرى أوباما برفقة رجل. وفور رؤيته ذلك يدرك الأمر، ويغادر المسجد مصابا بحالة من الهلع والخوف.
في ركن ذلك المسجد، ينكمش بشاي على نفسه مثل جنين.
يدخل أخاه، ويراه مغطيًا وجهه، فيقول : “ازيك يا وحش؟”
هذا اللفظ الذي لا يزال يطارد بشاي منذ طفولته وإلى حدود تلك اللحظة. إنه يدرك بعمق شعوره هذا الوجه الذي قد يكون مخيفًا، لكن هذا الوجه لم يختره لنفسه، وهو الذي لم يطلب من الحياة ومن الآخرين سوى عدم لومه على ما ليس له طاقة به.
يذكرنا هذا برفض المعرّي الزواج. وعندما سئل عن هذا القرار، أجاب بأنه لا يريد أن يؤذي غيره بدمامة وجهه المصاب بالجدري، بما في ذلك من قد تتزوجه.3
تعود لفظة الوحش لتنغرس من جديد في قلب بشاي، الذي لم يكون سوى نتيجة وحشية النبذ الذي يقوم على تحالف الجهل مع سوء المعاملة والفقر.
يقول بشاي لأخيه : “خفّيت من المرض، لكن الجرح ما لوش دواء”.
إن الجرح الغائر الذي يشكل سيكولوجيا بشاي هو هذا الفقدان المفزع لأي تعاطف من العائلة.
يسأله شقيقه عن كيفية قدومه إلي هنا.
فيجيب بشاي بأنه ركب كل أنواع المواصلات وأنه فقد صديقه الحمار حربي الذي مات في الطريق، فيجيب الأخ، بشكل مؤذي وجاف :
“نحن أيضا، افتكرناك مت”.
هكذا هي حياة المنبوذ، حيث تستوي حياته وموته، فهو مجرّد من أيّة كرامة إنسانية، بما في ذلك موته و حياته.
بعد هذا اللقاء مع أخيه، يظهر لنا بشاي فيما يشبه الحلم وهو داخلا البيت، وناظرا إلى المرآة، التي تعكس هذه المرّة وجهه الحقيقي، وجه مصاب بالجذام.
يدخله آخاه ناحية بيت أبيه، الذي يبدو عاجزًا عن الحركة. وهناك يسأل بشاي أباه :
“إنت كنت ناسينني ولا ايه؟ إنت بتكرهني؟”
يجيبه الأب :”عملت كل داه علشانك، أنا ما رجعتش علشانك. كنت خايف يا ابني تشوف حياتنا، وتتمنى انك تعيشها وما تقدرش تعيشها. أنا اديتك فرصة انك تعيش وسط ناس زيك..عملت كده علشانك”.
يصافح يد ابنه ويقبلها، فيرفض بشاي ضعف أبيه ويبدو طالبا العفو منه.
للأب أيضًا تفسيره لما حصل. فحياة المنبوذ، وفي حالتنا هذه بشاي المصاب بالجذام، ستكون أكثر صعوبة خارج المستعمرة. هنا حيث لن يجد المنبوذ من يشاطره شعوره بأنه لا يشبه هؤلاء الناس بل سيحاول مشاركتهم الحياة في حين أنهم سيقابلونه بالنبذ والرفض.
يتناول الجميع العشاء معا، ويتبادل أوباما أطراف الحديث مع أحد أطفال العائلة، الذي يسأله عن اسمه.
فيجيب: “اسمي أوباما، زي الرئيس الي يجي في التلفزيون”.
يضحك بشاي على إجابة أوباما ويربت على كتفه.
في فناء المنزل، يهدي بشاي آلة الموسيقى التي وجدها في أول مشهد في الفيلم لأوباما، قائلا له:”دي هديتك يوم عيد ميلادك زي ما مكتوب في الورقة”.
يسأل أوباما بشاي:”إيه اليوم في الأيام؟”
فيجيب “موش عارف”.
ينتبهان لأصوات الموسيقى القادمة من حفل في القرية، ويتفقان بشكل مباشر :”المستعمرة هي مكاننا”.
يتفقان على العودة ويمضيان إلي مصير المنبوذين الذين يشكلون معا وطنا حقيقيًا خارج أوطان تقوم على نبذهم، إنها المستعمرة… في انتظار ذلك اليوم الموعود : يوم الدين.
1ميشل فوكو- تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي- صفحة 25-
تعريف موجز لميشل فوكو
هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي يعتبر واحدًا من أبرز المفكرين في القرن العشرين. يُعرف فوكو بأفكاره المؤثرة والمتنوعة في مجالات مثل الفلسفة، والتاريخ، والسياسة، والأدب، والنظرية النقدية.
يعتبر فوكو أحد أبرز المفكرين النقديين في العصر الحديث. ترك بصمة كبيرة في فهمنا للسلطة والمعرفة والهوية الشخصية والمجتمعية. قدم نظرة نقدية على السلطة، حيث ركز على كيفية استخدام السلطة للسيطرة والتأثير على الأفراد والمجتمعات.
عرف فوكو بدراساته الناقدة والدقيقة لمجموعة من المؤسسات الاجتماعية، منها : المصحات النفسية.. المشافي.. السجون.. وتاريخ الجنسانية..
من أعماله المهمة “المراقبة والعقاب، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي..
2 انظر هذا المقال لمنظمة الصحة حول هذا المرض: الرابط
الجذام مرض مزمن يسببه نوع من البكتيريا، يُسمى المتفطرة الجذامية. يصيب الجذام أساساً الجلد، والأعصاب المحيطية. ويمكن أن يسبب الجذام إن لم يُعالج، إعاقات متقدمة ودائمة.
3 رواية يقدمها المفكر حسين مؤنس في كتابه تاريخ موجز للفكر العربيِ عن أسباب رفض المعري للزواج