يعرف العديد منّا الشّهيد غسّان كنفاني كعضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكناطق باسمها، ويعرفه آخرون كروائي فذّ خطّت أنامله روائع كـ ’عائد إلى حيفا‘ و’أرض البرتقال الحزين‘، وغيرهما ممّا صُنٍّف ضمن الأدب الفلسطينيّ المقاوم الذي كان كنفاني رائدا له وأيقونة.
ولكنّ كنفاني هو أيضا المشتبك الشامل والمُثقّف العضوي – على حدّ تعبير المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي – الذي ترك لنا إرثا عظيما من خلال كتاباته وتحليلاته للعقل الصهيوني ولميكانيزمات تشكّله. إذ كان يتأرجح بين كفّتين : “اعرف عدوّك” و”اعرف نفسك”، ويُثقل ما بينهما ببوصلة الفدائيّ المُقاوم الذي لا يُساوم في حقّ شعبه.
سيُسلّط المقال الضوء على دراسة أجراها كنفاني ونشرها في بيروت عام 1967 تحت عنوان “في الأدب الصهيونيّ”. دراسة مُقسمة إلى ثمانية فصول (وإلى خمسة فصول بالنسبة إلى بعض الطبعات الأخرى) في قرابة المائتي صفحة.
اللّغة: جبهة مُستعرة للقتال
يتقصّى غسّان في الفصل الأول من الدّراسة تاريخ التعصّب والعرقيّة وإرهاصاته الأولى، التّي كانت أدبيّة حسب تقديره وسبقت ظهور الحركة الصهيونيّة السياسية. إذْ يعتقد أنّ الأدب هو التعبير الأول عن بداية ظهور المشروع الاستعماري “اليهودي” لأرض فلسطين. وهو بذلك لا يقتصر في تناوله على الكتابات العبريّة أو على الكُتّاب اليهود فحسب، بل يُدرج كلّ الكتابات التي ساهمت ودافعت عن المشروع الصهيونيّ الاستعماريّ، معتبرا إيّاها تجربة فريدة ومُتفّردة في تاريخ الأدب : إذ حادت عن طريق الخلق والإبداع، لتُمارس أكبر دعاية تضليلية ولتساهم في أكبر عملية غسيل للدماغ الجماعي.
ولفهم الأمثلة والنماذج التي أوردها غسّان في هذا الفصل، عدتُ إلى قراءة جزء من هذه الروايات أو الأدبيات. ومع كلّ قراءة حاولتُ الالتزام قدر الإمكان “بسكّين” كنفاني الحادّ في تشريح المعاني وفي فهم الإشارات والإحالات الموجودة بهذه الكتابات التي تصبّ في نهر الرّواية الصّهيونية.
وجدير بالذكر أنّ هذا العقل الفلسطيني كان مُثابرا بجدّ، مع عودته لدراسة مؤلفات القرن 18 والقرن 19، ومُتّقدا بحقّ من خلال تجميعه الأفكار من مختلف البلدان والمناطق من أجل الوصول إلى استخلاصاته، ونقديّا عظيما في قدرته على الحجاج والبرهنة على نتائجه وتحليلاته لما أسماه بـ «الأدب الصهيوني ».
يتعرّض الكاتب أوّلا لرواية «دانيال ديروندا» التي نُشرت عام 1876 من قبل الكاتبة البريطانيّة جورج آليوت (1). لم تُخف الرّواية تعاطفها مع القضيّة الصهيونية من خلال مزيج شخصياتها ذات الأصول اليهوديّة والتعاطف الأخير مع هجرة ديروندا وحبيبته ميرا نحو الشّرق (فلسطين كما هو الحال الآن)، هذيْن الحبيبين الذين جمع بينهما الرابط اليهوديّ الذي يكتشفانه من خلال أحداث الرواية.
سُمّي بعد ذلك شارع رئيسي في “تلّ أبيب” باسم الرواية المذكورة، وهو ما يجعل التساؤل عن أهمية هذه الرواية في تشكيل العقل الجمعي الصهيوني وفي بناء السردية الصهيونيّة أمرا مشروعا. إذ ” كان الكتّاب في الغرب يهيّئون ويشجّعون عبر الأدب فكرة تجمّع اليهود المظلومين والمشرّدين في شتّى أصقاع العالم، في وطن واحدٍ خاص بهم ولهم.” (2)
وكانت رواية اكسدس أكثر بجاحة ووقاحة في نقل الرّواية الصهيونيّة. هذه الرّواية التي توجز رحلات السفينة في نقل اليهود إلى فلسطين في الـ1947 تحوّلت إلى حدث أدبيّ “عظيم” تمّ الاحتفاء به من قبل « المجتمع الدولي ». واحتلّت الرواية التي نُشرت في 1958 المرتبة الأولى للكتب الأكثر مبيعا قبل أن تُصوَّر فلمًا سينمائيا سنة 1960 عزّز قصّة نشأة “إسرائيل” من زاوية صهيونية مبالِغة في البروباغندا (3).
التحوّل من لغة الدين إلى لغة القوم
تقول أهمّ الأفكار الصهيونية أنّ اليهود الذين عاشوا كأقليات متناثرة في كلّ أنحاء العالم يُشكّلون قومية واحدة منسجمة. وعلى إثر هذا الاستبطان وكاستتباع عمليّ له، من البديهيّ أن تعيش هذه القوميّة على أرض واحدة، خاصّة بعد محارق الهولوكوست وسنوات الطرد من دول أوروبا.
“سيتضاعف دور اللغة العبرية فجأة في الفترة التي كانت مقدّمة لولادة الحركة الصهيونية السياسية وبعد هذه الولادة في نهاية القرن التاسع عشر، وفجأة تقفز هذه اللغة من النطاق الذي عاشت فيه قرونا طويلة كلغة دين تقليدية، لتُجبَر، بوسائل مختلفة، على لعب دور اللغة القومية” (4)
ولافتقار يهود العالم إلى الرابطة الجغرافية والثقافية والحضارية والاقتصادية التّي تربط بينهم، كان لابدّ من التركيز وإيقاظ اللغة العبرية من سباتها، وهو ما دأبت عليه الحركة الصهيونية في كلّ أطوار تشكّلها، واعتبرته جبهة حقيقيّة للقتال.
واللغة ليست أداة للتواصل البشريّ فحسب، بل هي حمّالة ومَحْمَل لموروث ثقافي ولعادات ولتقاليد ولدين ولمنظومة قيميّة نتبنّاها ونعبّر عنها. هذا الاستعمال اللغوي هو نتيجة تراكم التجارب الفرديّة والجماعيّة لمن يتكلّمون نفس اللغة. وهُم بذلك يُشكّلون لا مجرّد رابطة لغوية تواصليّة فقط، بل تنشأ بينهم روابط ثقافيّة وهويّة جامعة. هذه الهويّة تتطوّر بعد نشأتها لتعطيَ أفرادها شعورا أقوى بالانتماء.
وتنبع الحاجة النّفسية للهويّة كما يراها إيريك فروم كمكوّن نفسيّ يلزم لاستكمال النموّ الاجتماعي والانفعالي للفرد.(5)
أما عن الهوية الثقافية فإنها حجر الزاوية في تكوين الأمم لأنها نتيجة تراكم تاريخي طويل، يعزّزه التراث والثقافة واللغة والدين، وتحديدها مطلب هام وحيوي، وعلى المجتمع أن ُيدرك بوعيٍ حقيقة هويته الثقافية التي تحمل بصماته وتؤكد وجوده وتشكيلة (6).
لكلّ ذلك ولهذا المطلب الحيويّ المتمثل في خلق هاته الهوية الثقافية دافعت الصهيونية أيما دفاع عن اللغة واعتبرتها جبهة “شديدة الأهمية أُخضعت للغايات السياسية، وجُعلت بالتّدريج وبالتوجيه المتواصل مبرّرا – فقد كانت في الحقيقة الخيط الواهي الوحيد الذي يربط بين اليهود في توزعهم على عرض العالم، ولكن حتى هذا الخيط كان وجها من وجوه العلاقة الدّينية، وليس من وجوه العلاقة القومية، واعتبرت الصهيونية أنّ مهامها الأولى جعل العبرية لغة قومية”. (7)
ومن هنا بدأ روّاد الصهيونية يشنّون الهجوم على اليهود المتمسكين بلغات أخرى غير العبرية، مثل اللغة “الييديش” – خليط من كلمات عبرية وألمانية وسلافية – داعيين إيّاهم إلى الحرص على الاستعمال العبري، وهو تمشّ يوازي ويُساند رفض الاندماج في المجتمعات الأوربية آنذاك.
بهذا الإصرار الصهيونيّ الحثيث والمتواصل، عرفت اللغة العبرية تحوّلا من زاوية الاستعمال والغايات من لغة التعبير عن الاجتهادات الدّينية اليهوديّة إلى لغة تُدفع دفعا نحو تشكيل أمّة يهوديّة. ويستشهد كنفاني في هذا الفصل الأول بأمثلة عديدة من الكتّاب والشعراء والفلاسفة الذين راوحوا بين استعمال اللغة العبرية في الشعر الشعبي الغنائي والدّيني وبين لغات مجتمعاتهم آنذاك، بما في ذلك المجتمعات العربية في الأندلس : “وإنّ يهودا بن هاليفي هذا يُعتبر نموذجا في هذا النطاق لأنه عاش في “الفترة الذهبية” الأندلسية بعيدا عن “جو الاضطهاد والخوف”.. ورغم ذلك فقد استعمل اللغة العبرية في الشعر الديني فقط ولم يستعملها إطلاقا في كتاباته الفكرية، تماما كما فعل مواطنه سليمان بن غابيرول”. (8)
يواصل كنفاني تحليله مستشهدا بالعديد من الأمثلة الأخرى ومُبديا تفاعلا نقديّا جبارّا مع معظم الكتابات الأدبية والفكرية الصهيونية المؤسِسة، خالصا إلى أن نموّ الوعي العالمي يقود منهجيّا نحو الاندماج لا نحو إفراز قومية على أُسس واهية ومُفتعلة.
الأدب الصهيوني:
في الفصل الثّاني من الكتاب، يتناول كنفاني نشأة الأدب الصّهيوني أو ولادة الصهيونية الأدبية. يفتتح الكاتب الفلسطيني هذا الفصل بإبداء ملاحظة تدحض كلّ ما سبق من الروايات الصهيونية التي تمّ تداولها ولا يزال عن نشأة هذا الأدب. إذ يعتبر كنفاني أنّ ذروة هذا الإنتاج كانت في فترات “الانفراج” اليهوديّ وليست في فترة “التخويف والترهيب” كما ادّعت الرواية الصهيونية التّي نسبت كلّ ارثها – سواء كان فكريا أو ثقافيا أو سياسيا – إلى فترات المُضايقات والطّرد والهولوكوست.
وقد لمعت عدّة أسماء يهوديّة خلال الفترة التي تمتع فيها اليهود بحقوق المواطنة في بلدانهم وحققوا ما اعتبروه “استكمالا للعلوم الدينية والتشريعات”، وحتى الأسماء التي برزت في فترات الاضطهاد لم تكن إلاّ امتدادا لما سبقها.
” إنّ الاضطهاد لم يكن، في الحقيقة الموضوعية، الرحم الذي استولد الصهيونية، ولكن يبدو أقرب إلى الحقيقة هو أنّ الفترات الانفراجية التي كان يمكن أن تكون مدخلا إلى الاندماج كانت تُرفض من قبل طبقة يهودية خاصة رفضا عرقيا وعنصريا محضا”. (9)
كتب يهوذا بن هاليفي، وهو من أبرز الكتّاب اليهود الذين عاشوا فترات الازدهار في الأندلس قبل أن يُسافر إلى الإسكندرية ويتوفي في القدس سنة 1141م، “إذا كانت الشعوب تعبد الرب طمعاً في رحمته، فإن إسرائيل فاز بقربه إلى الربّ في حياته ومماته وذلك لتفرّده وحده بنقاء وطهارة المادة التي خُلق منها وأن هذه المادة التي خلق منها شعب إسرائيل، قد جعلته مؤهلاً دون غيره من الشعوب لحلول الرب فيه وإقامته في وسطه، لذلك سُمّيَ شعب الله المختار، ومن ثم فهو خير شعوب الأرض قاطبة. » (10)
إنّ هذا المفصل الدينيّ الرّقيق مثّل نقطة اختراق للرّوح اليهوديّة من أجل أن يختلط الدّين بأفكار القومية اليهودية، فركّزت الصهيونية طيلة قرون وسنوات ضغطا هائلا على هذا المفصل من خلال كل أدبياتها فاتحة المجال أمام اليهود لممارسة كلّ العُقد العنصرية المتطرّفة ولبلورتها في مشروع سياسي استعماريّ كما نراه اليوم.
فقد حاولت السلطة الصهيونية – أي الصهيونية الأدبية واللغوية لا السياسية التي لم تنشأ بعد في ذلك الحين – أن تبثّ إلى المُتقبّل، أي إلى الجمهور اليهوديّ أساسا، مجموعة من التصوّرات الذهنيّة المتمثّلة في شبكة مفاهيميّة مجرّدة، منها المفهوم القائل بتفوّق اليهود. ولئن حاولت (هذه السّلطة) تجذير هذا المفهوم وترسيخه كحقيقة مرجعيّة تاريخية، فإنه يمكن القول أنّه يبقى تأويلا لهذا التصوّر المتشكّل في الذهنية اليهودية. وتحوّل هذا التأويل بموجب عمليّة مواضعة (أيّ اتّفاق جماعي) إلى علامة دالّة على امتياز دينيّ وعرقيّ. علامة سترتبط فيما بعد بشبكة كاملة من العلامات مثل “الأرض الموعودة” و”العودة إلى صهيون” فتنصهر فيما بينها ضمن مجموعة من العلاقات – لا علاقات منطقيّة ضرورة- لتشكّل بنية ذهنيّة تعتقد التفوّق وتدعو إلى الانفصال.
تنتظم مجموعة البُنى المشكَّلة لتتحوّل إلى نظام ايديولوجيّ منغلق على ذاته، خاصّة مع تشكّل الحركة الصهيونية السياسية في القرن التّاسع عشر نتاج تأويل دينيّ متعسّف يخدم مشروعا قوميّا. لم ينفكّ هذا النظام في التطوّر بعد ذلك، من فكرة تسربت إلى بُنى الجمهور اليهوديّ، إلى جهاز سياسيّ (كالمنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهوديّة) عمل على تحقيق المشروع وتحوّل إلى مؤسسة استعمارية استيطانيّة مع قيام الكيان الصهيوني.
نهايةً وبعد قيام “إسرائيل”، ترسّخت العنصريّة والتمييز ضدّ الفلسطينيّين والعرب عبر جملة من القوانين والسّياسات. فأصبحت المؤسسة الصهيونية كما نراها اليوم، مؤسسة اجتماعيّة عنصريّة تحكمها عقيدة التفوّق لتبرير الاحتلال والتطهير العرقيّ. (11)
كردّ فعل على الإصلاحات السياسية التي عرفتها أوربا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلى إعطاء اليهود فسحة هامة من الحقوق في العديد من البلدان الأوروبية – وهو ما جعل العديد منهم ينتقل من شرق القارة إلى غربها – تبدّلت في أوائل القرن التاسع عشر شخصية اليهوديّ وانتقلت من الشرير إلى الطيّب. وقد مثّل ذلك فرصة أخرى للاندماج داخل المجتمعات الأوربية (12)، وتوازيا مع نموّ هذه الفرصة، تنامت أيضا الأفكار اليهودية العنصرية وتمسّكت بوأد فكرة الاندماج وألحّت على مشروعها الصهيونيّ (13)
يُمكن القول إذا أنّ الصهيونية السياسية كانت لاحقة لصهيونية أدبية مثّلت مُرتكزا للقيام وللنشأة. وأنّ هذا الأدب (أي الصهيوني) هو نتاج للتخطيط وللتّدبير. ويبدو أنّ هذا التخطيط اللّغوي الذي تواصل لقرون عدّة بشكل فريد للغاية قد أنتج ثماره مع مؤتمر بازل ومع قيام حركة صهيونية منظّمة مطلع القرن العشرين. وهو ما جعلها (الحركة) تواصل إبداء اهتمام لا نظير له لموصلة حياكة سرديّتها الثقافية، ومن ثُمّ السياسية.
تظافر الأدب والسياسة في القيام والنشأة
بعد تشكّل حركة سياسيّة منظّمة مطلع القرن العشرين، صار للأدب الصهيونيّ أهدافا واضحة تتّفق مباشرة مع الأهداف السياسية للحركة، فكانا وجهان لنفس العُملة.
دأب الأدب الصهيوني، حسب تقدير غسّان كنفاني، خلال هذه الفترة، على التّركيز على جانبيْن اثنيْن : أوّلًا، التعبئة الجماهيريّة لليهود عبر خلق موجة هائلة من التّعاطف مع قضيّتهم، وثانيا محاربة كلّ دعوات الاندماج في المجتمعات الأخرى.
ويُمكن القول أنّ اللّبنة الأولى لما يُسمّى بـ”الهاسبارا” (كلمة عبرية تعني الشرح أو التّفسير أو التوضيح) بدأت من هناك. إذ راح الأدب الصّهيونيّ بأكثر الأشكال فجاجة نحو الدّعاية القائمة على طمس الحقائق والتّزوير والتضليل من أجل خلق تعاطف مبدئي، ومن أجل تبييض جرائم عصاباته الأولى بعد ذلك في فلسطين. وكان ناحوم سولكوف أول من استعمل الكلمة في مطلع القرن، وكان ثيودور هيرتزل رائدا لهذا النّوع من الأدب (أيّ الأدب الصّهيونيّ الموجّه).
الأرض الجديدة القديمة والدولة اليهودية:
الأرض الجديدة القديمة هو عنوان رواية لثيودور هرتزل – أب الصهيونية السياسية إن صحّ التّعبير- صدرت سنة 1902، تروي قصّة اليهوديّ فريديريش لوينبيبرغ الذي يمرّ على فلسطين ذهابا وإيّابا خلال رحلته، فيلاحظ الفرق بين التخلّف الأول والازدهار الثاني نتيجة استعادة اليهود أرض إسرائيل.
كانت الرّواية تُمثّل مجمل الأفكار الرئيسية لثيودور هرتزل وتصوّره الفكري لاجتماع القوميّة اليهوديّة، كما فصّله سياسيا قبل ستّ سنوات في كتابه ’الدولة اليهودية‘ الذي أصدره سنة 1896. بل وتضمّنت حتّى رؤيته لمناطق فلسطين والدَور الذي ستضطلع به، كأن تكون حيفا مثلا هي العاصمة الاقتصاديّة نظرا لممكناتها البحريّة ولمينائها.
لكنّ التفصيل العمليّ الكامل لأفكار هرتزل تمّ تكثيفه في الكُتيّب الأول والمعنون بـ”الدّولة اليهوديّة”. إذ أفرد الكاتب الصهيوني مجمل النّقاط التي يراها ضروريّة لبناء ما سمّاه الدّولة اليهوديّة. صحيح أنّه لم يتعمّق فيها بالقدر الكافي، ولكنّه لم يُهمل أيّة نُقطة تقريبا. ومن المفهوم قصر الكُتيّب (حوالي 65 صفحة) واختزال الأفكار فيه، أنّ الغاية منه دعائيّة بحتة تُخاطب وجدان اليهود المُتناثرين في الدّول الأوروبية أساسا.
عمد هرتزل في عشر صفحات كاملة إلى استدرار العواطف والدّموع بحثا عن التّعاطف مع قضيّة اليهود، رغم إنهائه لكلّ فقرة بـ” لا داعي لذلك (أي لاستدرار العواطف)، فالجميع يعلم ما يُعانيه اليهود من اضطهاد”. ويفهم القارئ من هذه الصّفحات أن ما يجمع اليهود هو الاضطهاد الذي يُعانونه في كلّ مكان. في الصفحة السادسة من الكُتيّب يُعبّر الكاتب عن فكرة محسومة لديْه بشكل مسبق ” نحن شعب.. وشعب واحد”.
ولأنّ واحدة من أعمدة الدّعاية الصهيونية آنذاك، كما وضّح كنفاني، هي محاربة كلّ نزوع يهوديّ للاندماج، فقد خاطب هرتزل اليهود الذين نالوا قسطا كبيرا من حقوقهم في بعض الدّول والفترات (مثل فرنسا) علما منه أنّهم يُهدّدون المشروع الصّهيوني ” إن اخواني في الدين الذين هم أكثر سعادة لن يصدقونني حتى يتعلمون الحقيقة من درس السخرية باليهود، وذلك أنه كلما طال أمد كبت العداء للسامية كلما كان انفجارها أشد شراسة .” (14)
ومن المُثير للدّهشة أيضا تعبير الكاتب عن أكثر الأفكار تطرّفا وعنصريّة واعتقادا للتفوّق في ذلك الوقت، إذ يورد في كتيّبه مثلا “إنّني مهما كنت أقدّس الشخصية – سواء كانت شخصية فردية قوية كما تتمثل في السياسيين والمخترعين والفلاسفة والقادة ، أو كانت شخصية لجماعة تاريخية من الناس كما نطلق عليهم اسم أمّة – مهما كنت أقدس هذه الشخصية، فإنني لا أندم على اندثارها. فمن كان قابلا للفناء أو في طريقه إليه أو يجب أن يفنى فلندعه يفنى. أما القومية المتميّزة لليهود فلا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي أن تفنى”. (15)
ومن خطورة الكتاب أنّه يفصّل جميع الأمور المتعلّقة ببناء الدّولة اليهوديّة المزعومة، فيتعرض لمسائل نقل ملكية اليهود، وطريقة تدفقهم، وكيفية تنظيم الجماعات المحلية، والدّور الذي سيلعبه الحاخامات وغيرها من المسائل. ومن المُلفت للانتباه أنّه قد اقتصر على ثلاثة أسطر لا غير في تناوله لمسألة الجيش. ويبدو ذلك منطقيّا إذا ما اعتبرنا سعي الصهاينة إلى طمأنة حلفائهم ونيْل دعمهم.
أمّا بالنسبة لقضية اللغة، فإن ثيودور يُناقض نفسه بعد قرون من محاولات جعل العبرية لغة قومية لا لغة دينيّة، وهو يعترف بصريح العبارة في آخر الكُتيّب أنّ لا إمكانية في اعتماد العبرية كلغة قومية في بداية الأمر: ” إنّنا لا نستطيع التخاطب بعضنا مع بعض باللغة العبرية، فمن منا لديه المعرفة الكافية ليطلب تذكرة قطار باللغة العبرية. مثل هذا الأمر لا يمكن حدوثه.” (16)
لقد كان مطلع القرن العشرين فترة ضبط الإيقاع _ على حدّ تعبير كنفاني _ بين الأدب الصهيونيّ والحركة الصهيونية السياسية التي تحوّلت إلى مؤسسة منظمة قائمة الذات، فكانت الأولى تدفع بالثانية، وكانت الثانية تُشجّع الأولى.
من المؤكّد أنّ مقالا بهذا الحجم لن يكفي للاطّلاع على أفكار كنفاني كاملة، بل وقد يُشوّه منهجه الدّقيق في كشف خطورة الأدب الصّهيونيّ، وما أنتجه من اعتقادات عنصريّة حكمت العقل الصّهيونيّ وما زالت تحكمه حتى اللحظة. لكنّ الرّجوع إلى أعمال ودراسات كنفاني بهذا الصّدد، الآن وفي هذه اللّحظة بالذّات، لا يقلّ أهمّية عن حمل السّلاح في وجه العدوّ الصّهيونيّ. فقد تغدو البُندقيّة أداة معطوبة في ظلّ غياب رؤية شاملة وقراءة كاملة لهذا العدوّ الهمجيّ. والرجوع إلى هذا “الغزال الذّي بشّر بزلزال” – كما رثا درويش لكنفاني – هو ضرب من ضروب المُقاومة بالتّأكيد.
فمن يعرف جوانب حياة كنفاني، وتبنّيه لمفهوم المقاومة الشّاملة، يجب أن يعي بأنّ معركة من هذا النّوع، وبأنّ صراعا بهذا القدم والوحشية لا يُمكن أن ننتصر فيه إلاّ سلاحا ولغة واصطلاحا وثقافة وسياسة واقتصادا وسرديّة ورواية ومعرفة بأدقّ التّفاصيل. هذا هو النّهج الذّي لابدّ أن نتّبعه، وهذا هو الإرث العظيم الذي يجب أن نستحضره، وهذا هو الدّرب الذي يجب أن نسلكه. فلنقرأ غسّان كنفاني من جديد.
———————————————————————————————–
(1) نُشرت الرّواية سنة 1876، وساهمت في اعتناق الكثيرين للفكر الصهيونيّ لاحقا.
(2) https://al-akhbar.com/Literature_Arts/372545/السردية-المفبركة-عن-فلسطيـن—-المواجهة-تبدأ-من-اللغة
(3) اكسدس هي رواية كتبها الأمريكيّ ليون يورس يسرد فيها نقل اليهود إلى فلسطين بعد الهولوكوست، ويفصّل علاقاتهم مع قيام دولة “إسرائيل”، أمّا الفلم فأخرجه الأمريكيّ أوتو لودويغ بريمنجر
(4) غسّان كنفاني “في الأدب الصهيوني”، ص15
(5) أ.د. صلاح الدين عبد القادر” تشكيل لغة الذات مدخل لتشكيل الهوية الثقافية”، ص8
(6) نفس المرجع السّابق، ص10
(7) غسّان كنفاني “في الأدب الصهيوني”، ص16
(8) نفس المرجع السّابق، ص21
(9) غسّان كنفاني “في الأدب الصّهيوني”، ص30
(10) من كتابه الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل، وهو من أهم الأعمال الفلسفية المرجعية عند اليهود (كُتب بالعربية قبل أن يترجم إلى العبرية)
(11) حاولت في هذه الفقرة استغلال ما ذهب إليه عبد السلام المسدّي في كتابه “اللسانيات وأسسها المعرفيّة” لفهم ارتباط الحدّ العضوي بالحدّ الوظيفيّ في شأن الظاهرة اللغوية وكيفيّة تحوّل البنية في الحدث اللّساني إلى وظيفة. عبّر المسدّي عن ذلك بالصيرورة الجدليّة التي نقلها إلى سلسلة من المعادلات التحويليّة
(12) يورد غسّان كنفاني كمثال رواية هارنغتون للكاتبة الإنجليزية الإيرلنديّة ماريا ايدجورث، إذ أنّ الشخصيّة اليهوديّة خالفت الشخصية التقليديّة التي دأب الأدب الأوربيّ على استعمالها. ويُبرّر ذلك بموجة الانفراج وتحسّن الأوضاع الذي عرفه اليهود في بدايات القرن 19
(13) كمثال يُناقض السّابق، يتعرّض كنفاني إلى رواية “دافيد آلروي” لليهوديّ الانكليزيّ بينيامين ديزرائيلي التّي طرح بطله اليهوديّ طرحا عنصريا عنيفا. يورد كنفاني هذا المثال للإشارة إلى التيّار المعارض لأفكار الاندماج.
(14) ثيودور هرتزل “الدّولة اليهوديّة”، ص8
(15) نفس المرجع السّابق، ص9
(16) ثيودور هرتزل “الدّولة اليهوديّة”، ص53