غزّة ولبنان: عن تحويل الوجع إلى حرية

29/09/2024

قررت آلة الحرب الهمجية بدء القصف في السادس من جوان 1982، قصف عشوائي وعنيف على صيدا والنبطية والدامور وقلعة الشقيف. وكان الهدف المعلن من حرب برعاية “رأس الحية” القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. ولأن سفاحي العصر لا يكتفون بأهدافهم، ولا يشبعون من سفك الدماء، تمادت حكومة “بيغن” آنذاك لتحتل ثلث الأراضي اللبنانية. استبسلت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مسنودة برفاق السلاح لاحقًا، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، في الدفاع عن قلعة الشقيف.

وتغنى العالم ببيروت الوجع وببيروت الأمل: “اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت، اشهد بالحرب الشعبية”.

لم تكن بيروت يومًا بحجم حرب دموية مع الكيان، ولم يكن حجمها السياسي، وتقسيمها الطائفي الداخلي، وهشاشتها الاقتصادية يسمح بكل ذلك. ولكن بيروت أعلنت منذ البداية كونها “سيدة العواصم”، فتحملت عبء الجميع.

انسحبت المقاومة الفلسطينية من لبنان، ونفذ الكيان واحدة من أبشع مجازره بمساعدة بيادقه الداخلية، مجزرة صبرا وشاتيلا، وردّ عماد مغنية ورفاقه بعد عام بتفجير السفارة الأمريكية. ولم ينسحب جيش الاحتلال فعليًا من جنوب لبنان إلا بعد 18 سنة كاملة من الاجتياح. ورغم أنه خلّف الدمار، إلا أنه لم يعلم آنذاك أي أسطورة قد زرع بذرتها في لبنان.

إن الفلسطيني ولادةً أو بوصلةً وهويةً أبيّ وعزيز بطبعه، فهو يخلد الوجع والصمود بكفه اليمنى ويشد أزره بالزناد بكفه اليسرى، وهو بذلك فقط حوّل حصار بيروت ومجازرها إلى عنوان للفخر والبسالة. وهو يخاف أن يسقط تفصيل واحد من الذاكرة، فأن ننسى صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة وقلعة الشقيف يعني أن يكون ثأرنا ناقصًا. والفدائي لا يرضى إلا بالشهادة أو بالتحرير الكامل.

أطلّ صاحب العمامة، في 12 جويلية 2006، بوعد صادق، حين تمكن حزب الله من أسر جنود العدو. اهتز كيان الاحتلال لمدة شهر كامل، وصافح جيلنا_ جيل التسعينات وما بعده_ خطابات “السيد” للمرة الأولى. لم نكن نعي في وقتها أن كلماته ستساهم في تشكيل المشترك النفسي والوعي السياسي تجاه القضية. ورأينا بأم العين الصواريخ الجنوبية تستهدف كريات شمونة وحيفا المحتلة. فشهدنا لحظة انتصار عربي بعد روايات النكبة والنكسة والاجتياح والخذلان والخيانة.

جاء طوفان الحق العاصف في 7 أكتوبر 2023، كنقلة نوعية في تاريخ صراعنا العربي الصهيوني، وحين تخلّى كل من هو رسمي عن البندقية الفلسطينية، جاء الرد من الجنوب: “لبّيك يا فدائي”. فانخرطت المقاومة في جنوب لبنان منذ الثامن من أكتوبر في جبهة الإسناد، فقادتها فأرهقت العدو وشتتت تركيزه على القطاع الصامد. مثّلت المقاومة اللبنانية محورًا أساسيًا للاشتباك وللاستنزاف، فكانت خير نصير لخير منصور.

في هذه اللحظات العصيبة والمميتة بالذات، نحبس أنفاسنا ونتجه بأرواحنا نحو الضاحية الجنوبية التي تتعرض لقصف صهيوني غير مسبوق يستهدف البنية العسكرية للمقاومة ورموزها وحاضنتها الشعبية.

هل كانت المقاومة تعي إمكانية هذا التصعيد؟ بالطبع، ولكنها أجابت وستجيب دائمًا: “لن نتخلى عن فلسطين”.

كانت بيروت وستبقى “سيدة العواصم”. فسلام لأهلها وسلام عليهم.

مقالات ذات صلة

  • فيديو | اعتصام “المعارضة النقابية”: فرصة “لإنقاذ الاتحاد” أم “تدميرٌ” له؟

    تقرير لإياد بن مبروك بمساهمة غسان بن خليفة يتواصل اعتصام "المعارضة النقابيّة" منذ يوم 25 جانفي الجاري في بطحاء محمد…

    الأخبار, عمّالية, هام

    اعتصام المعارضة النقابية
  • ما وراء قانون الشيكات – “الإدماج المالي” بالقوّة في اتجاه أمولة الاقتصاد… وانسجاما مع “التوصيات”

    ينطلق العمل بما سُمّي قانون الشيكات الجديد بداية هذا الشهر (أي فيفري 2025)، إلاّ أنّ المجتمع بدأ يستشعر آثاره منذ…

    اقتصاد سياسي

    Whatsapp Image 2025 02 04 At 16.25.27
  • افتتاحيّة | زمن الفاشيّة الأمريكية

    مشاهد زحف أهل غزة نحو شمالها والبسمة تعلو وجوههم رغم الدمار، معطوفًة على مشاهد المقاومين الفلسطينيين وهم يخرجون بعد خمسة…

    افتتاحيّة

    Whatsapp Image 2025 01 31 At 20.38.47
  •  عن الحلم والكابوس زمن الحرب

    من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على…

    بلا حياد

    blank