لا يخفى على أحد أنّ الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة دونالد ترامب مرّت نحو سرعتها القصوى من العنهجيّة والكشف الصّريح عن قبح وجهها، وهي بذلك تتجاوز كلّ الخطوط الحمراء _ المزعومة طبعا_ التي وضعتها سابقتها من أجل الحفاظ على صورتها كراعية للسلام العالمي وكحارس أمين لديمقراطية العالم. ولعلّ نتنياهو نفسه لم يحلم بمثل هذا الظرف الموضوعي الملائم لمواصلة حربه الشعواء على قطاع غزة وعلى كلّ فلسطين، إذ أنّ أسلوب الهيمنة الناعمة سقط بالضربة القاضية أمام مباشرتية ترامب وفاشيّته.
إنّ هذا التحوّل الواضح من موقع المساند والداعم للحرب الصهيونية على غزة _ مع كبح الجماح أحيانا _ إلى موقع القيادة والمشاركة التّامة، تُرجم قولا وفعلا من خلال التصريحات المتواصلة للرئيس الأمريكي العائد إلى البيت الأبيض ومن خلال هجوم غير مسبوق على لبنان واليمن وسوريا، وربّما إيران في المستقبل القريب.
يبدو دونالد ترامب إذا، في عجلة من أمره للقضاء على كلّ خطورة موجودة ومُحتملة في وطننا العربي ومنطقتنا من أجل التفرّغ لصراعه الاستراتيجي مع العملاق الصّيني.
لوهلة قد يبدو ذلك دفعا للتناقض نحو أقصاه بين شعوبنا المُضطَهدة وبين الامبريالية الأمريكية. ولكنّ ترامب وإدارته يُعوّلان على معطييْن رئيسيّيْن: الأوّل هو حالة الإنهاك والإجهاد التي تعاني منها جماهيرنا عقب انتفاضاتها “المغدورة” وغياب القوى الثورية المنظمة لها والمحرّكة والموجّهة لأي غضب محتمل لها، والثاني هو حجر العثرة الذي يقف حاجزا بينها وبين هذه الجماهير التي قد تتحرّك حتى عفويا في صورة الانفجار، والمقصود هنا الأنظمة الحاكمة في منطقتنا. وقد تجلّى ذلك في مشهد الذلّ الذي وضع ملك الأردن فيه نفسه، وفي سباق مصر إلى إرضاء السيّد الأمريكي وإعطائه ما يبتغي من خلال تنظيمها لقمّة عربيّة بائسة وتقديمها لخطّة مخاتلة للإنقاذ.
في تونس، ومع تعالي الهجمة الأمريكية، وجّه المحتجّون غضبهم وشعاراتهم إلى السفارة الأمريكية مطالبين بطرد السفير الأمريكي من تونس وبتعليق أو قطع التعامل العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى مطلب تجريم التطبيع.
كان يُمكن للسلطة السياسية القائمة أن تتّخذ إجراءات ملموسة تفاعلا مع هذه المطالب، ولو كان تفاعلا جزئيا، خاصّة أن رئيس الجمهورية صاحب مقولة “الخيانة العظمى” عند دخوله قصر قرطاج.
فكيف يكون التعامل مع الكيان خيانة عظمى دون تجريمه؟ وكيف يكون التطبيع خيانة عظمى ولا يكون التفكير في مراجعة العلاقات مع أمريكا _ الشريك الرئيسي للكيان_ في هذا الظرف بالذات أمرا ذا أهمية؟
ولكنّ ذات السلطة هرولت، عبر وزير دفاعها، إلى لقاء ممثل عن حلف الناتو لبحث “تعزيز التعاون” بين الطرفين، متجاهلة أن دول الحلف هي من تشارك في إبادة شعبنا الصامد في غزة، وسارعت، عبر وزير خارجيتها، إلى لقاء السفير الأمريكي “جون هود” بعد عيد الفطر.
والمخجل أكثر من هذا وذاك، هو اعتزام تونس المشاركة في التمرين أو المناورة العسكرية “الأسد الافريقي 2025” من 22 إلى 30 أفريل مع عناصر من الجيش الأمريكي في الجزء المُقام بتونس. نفس المناورة التي سيشارك فيه كيان الاحتلال في دول أخرى مثل المغرب.
يهدف هذا التمرين، الذي يحدث تحت ملاحظة حلف الشمال الأطلسي، حسب ما نشرته وزارة الدفاع التونسية على موقعها إلى “تعزيز ودعم القدرات الاستراتيجية العسكرية المشتركة للاستجابة للأزمات والطوارئ والتهديدات العابرة للحدود وتبادل الخبرات في التخطيط العملياتي المشترك والتدخلات الطبية والأمن السيبرني”.
حقا! وهل ستسمح لنا أمريكا التي تمنع دخول البعثات الطبية بنفسها أن ننقذ أهلنا في غزّة بعد أن تُكمل إبادتهم؟ وهل توجد أزمة أكبر من التي نعيش الآن؟ وهل يوجد تهديد عابر للحدود أخطر من هذا التوحش الصهيوني الأمريكي الذي نراه؟
من المعيب سياسيا وأخلاقيا أن تُباد الضحية وأن نناور عسكريا مع جلاديها. ومن المعيب أن تُقابل الدعوات الشعبية بقطع العلاقات العسكرية _ في الحد الأدنى_ مع الولايات المتحدة الأمريكية بمزيد من توطيدها.
يبدو أن الأخطبوط الأمريكي إذا مازال يُضيّق الخناق على شعوبنا، ويحكم قبضته على سيادتنا رغم كلّ الشعارات المرفوعة، ليس في تونس فقط وإنما في دول الجوار أيضا التي خلناها أكثر بعدا عن أي تقارب ممكن. فالأخبار حول مشاركة الجزائر في هذه المناورة مازالت متضاربة، والأقرب أن تتواجد الأخيرة كمراقب في المناورة وليس كمشارك. وهو ما سيطرح تساؤلات متزايدة عن أي توجهات جديدة في السياسة الجزائرية حول أيّ تودّد أمريكي مستقبلي، خاصة مع الضغوطات المتزايدة حولها، ورفض مجموعة “البريكس” طلبها بالانضمام العام الماضي.
غزة تُباد، وتونس تُجري مناوراتٍ عسكرية مع أمريكا
