عن حرب الإعلام والسّرديّات

22/10/2024

تصميم أمل الورثي

لم يُمثّل تاريخ السّابع من أكتوبر 2023 مجرّد حدث رمزيّ وعاطفيّ ونفسيّ مكثّف. ولم يُمثّل انتصارا سياسيّا وعسكريّا ميدانيّا وقدرة على اختراق دفاعات العدوّ “الأسطوريّة” فحسب. كان هذا التّاريخ فرصة حقيقيّة للفهم من جديد، فهمِ علاقتنا بالآخر، صديقا كان أم عدوّا، وفهم الأشياء المحيطة بنا، وميكانيزمات وطرق اشتغال الأمور من حولنا. وكنّا مُجبرين على مُحاولة الفهم، في خضمّ العدوان وتحت أصوات القصف، والقنابل وصرخات الجرحى وعائلات الشهداء وأنينهم.ومن لم يُحاول الفهم الآن، لن ينتظر لحظة أخرى أكثر مأساويّة كي يحاول.

للحرب عناوين، وكلّ من يُشارك فيها سيختار موقعه بدقّة. إمّا أن يحمل السّلاح، وإمّا أن يصرخ مُطاردا العدوّ في مكان تواجده، وإمّا أن ينخرط في العمل الإغاثيّ أو أن يكتب عن الحرب، وعن وقائع الميدان أو ينخرط في إحدى السّرديّتين، وأن يُساهم في خلق الدّعاية.

تعني البروباغندا محاولة الهيمنة إعلاميّا عبر الدّعاية المتواصلة وتعويم الفضاء العامّ بالمعلومات أحاديّة المنظور قصد التّأثير في الآراء والسّلوكيّات. هي استهداف للوعي الفرديّ والجمعيّ وللعاطفة وللخيال من أجل تبنّي بعض الأفكار والسّرديات والرّوايات واستبطانها والمُمارسة على أساسها كحقيقة وكأمر واقع.

صناعة البروباغندا، بروباغندا الحرب تحديدا

يُرجع نعّوم تشومسكي، أستاذ اللّسانيّات والفيلسوف الأمريكيّ، أوّل عمليّة دعائيّة حكوميّة في العصر الحديث إلى إدارة الرّئيس الأمريكيّ ويلسون الّتي جعلت من مواطنين مسالمين غير مقتنعين بالمشاركة في حرب “أوروبيّة”، إلى مواطنين متعطّشين لسفك الدّماء خلال بضعة أشهر بعد إطلاق لجنة للدّعاية الحكوميّة سُمّيت بلجنة كريل. دعاية حكوميّة دفعت بالأمريكيّين إلى تبنّي أنبل الأهداف: “إنقاذ العالم”. ومنذ ذلك الحين دأبت الولايات المتّحدة الأمريكيّة على إنقاذنا جميعا. يا لسخائها وكرمها على كلّ حال!

دعاية أكّدت على الخطر الألمانيّ، وعلى الرّعب الشّيوعيّ القادم من الشّرق، وعلى خطر الحرب العربيّة على سلام المنطقة، وعلى خطر إرهاب المقاومة الفلسطينيّة على سلام المدنيّين “الإسرائليّين” المُسالمين.

عبّر عن هذا النّجاح الباهر التي حققته الدعاية الحكومية والتر ليمان، عميد الصّحفيّين الأمريكيّين آنذاك وأحد أهمّ المنظّرين اللّيبراليّين، بأنّه “ثورة في فنّ الدّيمقراطية يُمكن تطويعه لخدمة ما وصفه بتصنيع الإجماع، بمعنى جعل الرّأي العامّ يوافق على أمور لا يرغبها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائيّة”(1).

يبدو كون هذا الفرح الغامر بنجاح الدّعاية نبع آنذاك عن مبدأ أخلاقيّ يرى في قدرة قلّة قليلة “دستة الأذكياء” على قيادة جموع “الغباء” إلى الطّريق الحقّ، دون الأخذ بعين الاعتبار موضوعيّة تشكّل الفرد داخل المجتمع، وجملة الامتيازات الّتي يولد بها ويكتسبها طوال سيرورة من الزّمن.

في هذه الصّورة تتكفّل دستة الأذكياء بتكثيف المشاعر القوميّة والعنصريّة حين تتوافق مصالحها مع ذلك، وفي تهدئة “القطيع الغبيّ” حين يثور وفي «عقلنة» الأشياء، حين تخرج عن السّيطرة.

انطبق الأمر بعد ذلك على كلّ الحروب الّتي خاضتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، فلماذا نُمطر الفيتنام بالقنابل؟ لأنّنا ندافع عن الفيتناميّين. ولماذا نغزو العراق؟ لأنّنا نُدافع عن مصالح العراقيّين. هكذا تجري الأمور وهكذا تُصبح الخرافات حقيقة. تتعدّد الأمثلة في صنع الدّعاية والبروباغندا، وتتطوّر وتتحّسن من قبل مستخدميها عبر مرور الزّمن وعبر دراسة جيّدة لسلوكيّات الجماهير وطرق تأثّرها.

آلة الدعاية الصهيونية زمن الطوفان

من الواضح لمن تابع الأحداث يوم السّابع من أكتوبر، كون الكيان وحكومته قد تفاجآ من الاختراق النّوعيّ الّذي أحدثته المُقاومة فجر ذلك اليوم.

ومن الطّبيعيّ أيضا كون القُدرة على الرّدّ وعلى استلام زمام الأمور سيتطلب بعض السّاعات وربّما بعض الأيّام. وكإجراء وقتيّ ووقائيّ واستراتيجيّ، دخلت الآلة الإعلاميّة الصّهيونيّة حرب الطّوفان قبل أن تدخلها جرّافاته وطائراته.

وفي حين انتشرت الأخبار عن العمل البطوليّ وعن “العبور المقدّس”، خُلقت الشّائعات سريعا من الجانب الآخر واعتمد إعلام الكيان الدّعاية الكاذبة، وهي الّتي تهدف إلى تشويه الخصم ونفي كلّ ما هو أخلاقيّ عنه.

إذ أنّ الحديث عن الهجوم العسكريّ لم يكن ليلبّي الهدف من دعاية العدو، كون تفنيدها أمر ممكن للغاية إذا ما وضعنا الهجوم في سياق حرب متواصلة وصفحة من صفحات التّحرّر من نير الاحتلال والاستيطان الصّهيونيّ، ليُصبح هجوم المُقاومة دفاعا عن النّفس وحقّا مشروعا في الحياة.

لذلك هرولت القنوات المحلّية لإطلاق بعض الشّائعات “المُخزية” البعيدة كلّ البعد عن حقوق الإنسان (طبعا ليس كلّ إنسان)، لتنتشر كالنّار في الهشيم.

قتل الرّضّع وقطع رؤوسهم

في مقابلة أجراها مع القناة 14 الإسرائيليّة، زعم غاي باسون، نائب قائد لواء كفير بجيش الاحتلال مقتل 8 رضّع وامرأة ناجية من المحرقة في مستوطنة “بئيري”. ووثب الخبر ليتصدّر عناوين جرائد العدو الصّهيونيّ، ومن بعده الأمريكيّ وليتمّ ترويجه كحقيقة حدثت بالفعل. ويكفي أن يُقدّم الخبر على لسان “مسؤول” أو مصدر ليثبت، يا لها من حِرفيّة ومهنيّة عاليّتين!

في الحقيقة لم يكن الأمر يوما مُتعلّقا بهذه أو تلك، ولم يكن الهدف هو البحث عن الحقيقة. كان مجرّد خطوة أولى يقوم بها الكيان قبل البدئِ في شنّ أكبر المجازر المُتلفزة في العصر الحديث.

لم يقتصر الأمر على نشر الخبر في نطاق الجرائد الأمريكيّة وقنوات السي آن آن وغيرها من القنوات البريطانيّة والفرنسيّة، بل إنّ أعلى المسؤولين في هياكل الدّولة ساهموا في ذلك، فصرّح جو بايدن رئيس الولايات المتّحدة بعد أيّام من السّابع من أكتوبر كونه “لم يتخيّل رؤية إرهابيّين يقطعون رؤوس الأطفال”، وأنّ هذا الهجوم “كان حملة من القسوة الخالصة وليس الكراهيّة فقط ضدّ الشّعب اليهوديّ”.

اعتذرت سارة سيدنر، مراسلة سي آن آن، واعتذر مسؤول من البيت الأبيض، على “تسرّعهما” البريء في تبنّي هذه الرّواية ونشرها. ولكن ماذا يعني هذا الاعتذار بعد أن أغمض مئات الآلاف أعينهم عند سماع الخبر (دون مشاهدتهم له طبعا)؟ لا شيء.

ومن البراءة أيضا كون صحيفة هارتس “الإسرائيليّة” قد نفت الخبر بعد مدّة وعنونت: “هذه الحوادث الموصوفة في المقابلة مع القناة الإسرائيليّة الّتي بثّت مساء السّبت لم تحدث قطّ”.

العنف الجنسي والاغتصاب

لم تعد الدّعاية وصناعة البروباغندا حكرا على وسائل الإعلام فحسب، فيُمكن لجماعة ولمنظّمة دوليّة غير حكوميّة أن تنشُر تقاريرَ “محايدة” حسب تقديرها لتؤكّد وتُفنّد.

نشرت منظّمة هيومن رايتس ووتش، المنظّمة الدّوليّة غير الحكوميّة المعنيّة بالدّفاع عن حقوق الإنسان، تقريرها لما حدث في السّابع من أكتوبر.

وبعد أن ذكّرتنا المنظّمة بمعاهدات روما واتّفاقيات جنيف، بدأت إحصاء الجرائم اللّاإنسانيّة الّتي ارتكبتها “الفصائل الفلسطينيّة المسلّحة” وصولا إلى الجرائم الّتي تنطوي على أفعال العنف الجنسيّ.

وجدت هيومن رايتس ووتش “أدلّة” على أعمال العنف الجنسيّ، حسب ما كُتب في تقريرها. وتُضيف في الفقرة ذاتها أنّها لم تتمكّن من جمع المعلومات الكفيلة بإثبات الاعتداء الجنسيّ والاغتصاب مع ضحاياه (المزعومين طبعا)، وأنّها طلبت الوصول إلى معلومات تمتلكها الحكومة “الإسرائيليّة”، وأنّها لم تتلقّ الرّدّ بعد.

إن هذه التّقارير المُخاتلة تجد صداها عند شريحة واسعة من المهتمّين والمهتمّات بموضوعات حقوق الإنسان، في الغرب والشّرق، على حدّ السّواء.

وتعوّل هذه المنظّمات على سنوات طويلة من تزييف الوعي وتسطيح الرّؤى وإفراغ أهمّ المواضيع من محتواها، كغيرها من مؤسّسات الهيمنة الثّقافيّة(2).

مجزرة المعمداني

أغار سلاح الجوّ الصّهيونيّ في السّاعات الأولى من ليلة السّابع عشر من أكتوبر 2023 على مستشفى المعمداني، في حيّ الزّيتون جنوب مدينة غزّة، ليرتكب مجزرة مريعة في حقّ المدنيّين أسفرت عن استشهاد أكثر من خمسمائة فلسطينيّ.

تراخى الجيش الصّهيونيّ في تبنيّ الهجوم الحاصل آنذاك، حتّى أنّه لم يعلن عن ذلك للرّأي العامّ الدّاخليّ، ولكنّه ظلّ يروّج لكذبتين واضحتين. تتعلّق الأولى بكونه قصف أربعة ساعات لا غير (أي قبل اشتعال الحرائق وازدياد عدد الشّهداء بشكل مخيف)، في حين تتعلّق الثّانية بكون “مُقاتلين لحماس” قد اتّخذوا من المستشفى نقطة للارتكاز واستعمال المُصابين والجرحى كدرع بشريّ.

وسط التّخبّط في تأكيد المسؤوليّة ونفيها، وجد إعلام العدوّ ضالّته في كذبة أخرى، حيث استغلّ لقطات صوّرتها كاميرا الجزيرة، لتتحجّج كون حركة الجهاد الإسلاميّ وذراعها العسكريّ سرايا القدس هي من أطلقت صاروخا تسبّب في المجزرة.

ورغم السّعي الحثيث لترويج هذه الرّواية فإنّها كانت أكثر بلاهة من سابقاتها، لدرجة أنّ الصّحف الغربيّة قد “شكّكت” فيها وكذّبتها، حيث أكّد فريق التّحقيق التّابع لجريدة لوموند أنّ الصّاروخ انطلق من “إسرائيل”. وتابعت أنّ هذا المقذوف أطلق من منطقة توجد فيها بطّاريّة القبّة الحديديّة للاحتلال الإسرائيليّ على بعد أقلّ من كيلومترين شرق مستوطنة ناحل عوز(3).

كما رجّحت جريدة نيوورك تايمز آنذاك، أنّ ما حلّ بالمستشفى لا يمكن أن يكون نتيجة الصّاروخ الّذي تحطّم في السماء وعن بعد كيلومترين من المستشفى، حسب قولها.

إن واصلنا في سرد الأخبار الزّائفة والإشاعات الّتي أطلقها العدوّ منذ انطلاق عمليّة طوفان الأقصى حتّى الآن، سيتطلّب منّا ذلك عملا توثيقيّا جبّارا يتمّ تجميعه في مجلّدات، دون أدنى مُبالغة، فهو يعوّم الفضاء العامّ يوميّا بمئات الأخبار.

وجه آخر للتطابق مع النازية

في وقت لاحق من الحرب العالميّة الثّانية، وصل الحُكم على من يستمع إلى الإذاعات الخارجيّة غير الألمانيّة إلى عقوبة الإعدام. كان النّازيّون قلقين للغاية من استماع الألمان إلى أخبار غير الّتي يروّجون إليها. صار هذا الأمر ضربا من الخيال اليوم، بالنّسبة إلى الكيان الصّهيونيّ أو لغيره، فشاشات الهواتف والحواسيب تعجّ بالأخبار وبمصادر متنوّعة للغاية. هنا يُصبح الرّهان بالنّسبة إلى العدوّ هو الكثافة ومحاولة السّيطرة.

“اكذب ثمّ اكذب، حتّى يصدّقك النّاس”، أليس هذا هو جوهر المنهج الإعلاميّ النّازيّ الّذي هندسه غوبلز وطوّره، وزير دعاية الرّايخ الثّالث؟

وماذا يفعل الكيان الصّهيونيّ، الّذي بنى جزءًا من مشروعيّته المزعومة، على المحرقة النّازيّة؟ يعيد إنتاجها بشكل أكثر فظاعة وابتذالا.

يقوم المنهج النّازيّ في الإعلام، خاصّة مع احتدام الحرب العالميّة الثّانية، على التّزوير والتّعتيم والمُبالغة، والهدف من ذلك “رفع معنويّات” الجنود المشاركين في الحرب. يموت ستّون جنديّا من جيش الاحتلال، فيعلن إعلام العدوّ عن سبعة، ويُجرح العشرات منهم، فيعلن عن أربعة، فتكون الصّورة المُبتغاة “سيطرة مُحكمة على الميدان”.

تعني “الهاسبارا”، باللّغة العبريّة، الشّرح والتّفسير، وهي رأس حربة الإعلام الصّهيونيّ منذ نشأة الكيان. ولكنّها من المنظور العمليّ لا تمتّ للتّفسير بشيء، فهي سياسة تضليليّة تربط مع السّياسات الاستراتيجيّة للكيان ومصالحه في كسب الاعتراف في العالم الغربيّ وفي المنطقة العربيّة أيضا.

“هي أشبه بحملة علاقات عامّة دوليّة لمصلحة إسرائيل، يقوم بها خبراء في التّواصل وأساتذة جامعات وطلّاب أكاديميّون وضبّاط استخبارات وإعلاميّون في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة والإلكترونيّة”(4).

تُعوّل هذه الشّبكة على التّمويل المادّيّ اللّامحدود لكسب معركة الدّعاية، فقد فهم الكيان منذ سنوات أنّ حرب السّرديّات هي أمّ المعارك.

لكنّ والحقيقة تُقال، أنّه ظلّ فرق بين السّياسات النّازيّة الألمانيّة والسّياسات الصّهيونيّة. فألمانيا لم تكن تزعم أنّها تتبنّى مبادئ الحرّية والدّيمقراطيّة آنذاك، ولكنّ الكيان يعبّر عن طريق الشّبكة الإعلاميّة المُختصّة نفسها في دعمه أنّه “الدّولة الدّيمقراطيّة الوحيدة في المنطقة”… يا له من فرق عظيم!

إذن فهذه “المُنجزات تتمّ في إطار من الحرّية”(5).

وحدة الاستخبارات الالكترونيّة أو الفرقة 8200

تأسّست هذه الوحدة، وهي تُعدّ من أهمّ الأذرع الاستخباراتيّة للعدوّ، سنة 1952. وهي تقوم بجمع المعطيات عبر قدرتها على الاختراق والتجسس حول أنحاء العالم، وبتحليلها ومن ثمّ توفير ما يريده جيش الاحتلال وتسريبه إلى وسائل الإعلام المحلّيّة.

“يقول جلعاد أدين، مالك إحدى شركات الإعلام والرّئيس التّنفيذيّ السّابق ورئيس تحرير القناة العاشرة الإسرائيليّة والقائد السّابق للوحدة، إنّ تولّي أغلب خرّيجي الوحدة المناصب البارزة له أسباب واضحة، حيث يُفضَّل خرّيجو الوحدة 8200 في الجيش لأنّ الوحدة تركّز على تجنيد الأشخاص ذوي القدرات المتميّزة في مجال التّكنولوجيا قبل انضمامهم إلى الوحدة”(6).

تمثّل الوحدة نقطة التّقاطع بين ما هو استخباراتيّ واستراتيجي وما هو دعائيّ إعلاميّ، وقد لعبت دورا مهمّا في التّجسّس وجمع الأخبار في حرب طوفان الأقصى، إذ رصدت المصادر المتعدّدة على منصّات التّواصل الاجتماعيّ لتُطابقها مع المصادر الاستخباراتيّة الّتي تمتلكها.

المضامين صهيونيّة، واللّسان عربيّ

مثلما نجد فلسطينيّي المولد والنّشأة وفلسطينيّي القضيّة والبوصلة، نجد أيضا صهيونيّي النّشأة والمولد والمصلحة، أولئك الّذين لهم مصلحة مُباشرة في استمرار الكيان، وصهيونيّي الوظيفة والأداة.

كلّنا مع فلسطين، شعوبا وحكومات وإعلاما، لعلّ الطّوفان المجيد قد فنّد هذه الأساطير المُعوّمة أيضا.

سارعت بعض القنوات العربيّة إلى غضّ البصر عن مصادر المُقاومة الإعلاميّة وعن مُنجزاتها السّياسيّة والعسكريّة، منذ بدأ الطّوفان حتّى الآن، وتهافتت لتنقل لنا ترجماتها للأخبار “العبريّة” بلسان عربيّ ركيك.

أطنبت في استضافة المحلّلين وقيادات جيش الاحتلال، والنّاطقين باسمه، وتبارت في إجراء الحوارات مع بعض الوجوه المأجورة المطرودة من لُبنان والمحكومة بالسّجن جرّاء التّخابر مع كيان الاحتلال.

الآن وأنا أكتب هذا المقال، وهذه الكلمات بالذّات، فتحت قناة “الحدث” في بثّها المباشر، ويا لها من مصادفة عظيمة “إعلام إسرائيليّ يتحدّث عن سيطرة على عيتا الشّعب الجنوبيّة وينشر فيديو لرفع العلم الإسرائيليّ”. ويتراءى للمارّ من أمام شاشة التّلفاز دون متابعة الأحداث بدقّة كون جيش العدوّ أو جيش الاحتلال (الجيش الإسرائيليّ كما تسمّيه القناة) قد سيطر في مشهد مُخيف على جنوب لبنان.

أعلنت المقاومة عبر إعلامها الحربيّ، وعبر فيديواتها الموثّقة لعدد عمليّات الصّدّ الّتي نجحت فيها لمنع أيّ توغّل صهيونيّ برّيّ، أنّها تمكّنت من الإطباق عليه عبر جملة من الخطط العسكريّة والكمائن، فحتّى التوغّلات المحدودة تنتهي بكمين مُحكم يقضي على عناصر جيشه. وقالت إنّ الاحتلال يضحّي بعدد من الجنود والعتاد ليقوم بتصوير علمه فوق بيت مهجور، ليزعم تقدّمه وليسوّق انتصارا وهميّا.

سكاي نيوز عربية، هي الأخرى، لا تتوقّف عن نشر أخبار الضّربات الأمريكيّة لمراكز ذخيرة “الحوثيّين” وتستهجن ضربات المقاومة اليمنيّة السّاعية لمحاصرة الكيان. وآم تي في تحرّض على شعبنا اللّبنانيّ وتستبيح أهدافا للمقاومة عبر ما تنشر. وتنقل لنا الجزيرة بشكل أكثر حرفيّة و”صنعة” حجم الدّمار المُحدث في غزّة وتُسلّط الضوء عليه منذ بداية الحرب دون التّركيز ذاته على الانتصارات العسكريّة للمقاومة، أمّا حين تجد نفسها مُجبرة على ذلك فهي تُفتي بين الشّهيد “القسّاميّ” والقتيل “الحزبيّ” (حزب الله). ربّما هي مُصادفة أيضا كونها تُسوّق للجهود القَطَريّة في عقد الاتّفاقات والهدن والصّفقات أو أنّ أخبارها تتقاطع مع هذا الدّور القطريّ في المنطقة.

تسعى هذه القنوات بدرجات مُتفاوتة (لا بدّ من الوعي بحجم التّواطؤ الّذي تلعبه كلّ من هذه المؤسّسات الإعلاميّة دون وضعها باليقينيّة نفسها في السّلّة ذاتها) في بثّ خطاب الهزيمة والأمر الواقع والتّفرقة وإحداث الشّروخ بين محور المُقاومة، إذ أنّها تضرب وحدة السّاحات بأرخص الأساليب الطّائفية والإثنيّة، وتضرّ مباشرة بالمقاومة الصّامدة في وجه هذا العدوان الغاشم.

يحيى السّنوار يُكذّب رواية العدوّ حيّا وشهيدا

منذ السّابع من أكتوبر، روّج إعلام الاحتلال عبر تصريحات ناطقيه، وعبر وسائل إعلامه، أنّ قيادات المُقاومة تسكن الأنفاق، لتُدير عمليّاتها العسكريّة من هناك، في حين تُضحّي بالمدنيّين فوق الأرض ليكونوا فريسة سهلة لسلاح الجوّ الصّهيونيّ.

وأصرّ الكيان على استعمال مقولة “الدّروع البشريّة” حتى تبنّاها بعض العرب في لحظات. ورغم أنّ الشّهداء القادة ارتقوا أكثر من مرّة فوق الميدان، إلّا أنّه واصل دعايته تلك.
وكان يحيى السّنوار واحدا من أكثر الأسماء الّتي تعلّقت بهم الرّواية. وكانت تُبثّ على المسامع وتُوجّه كتهمة.

يعرف الجميع أنّ الحرب خطّة وقيادة، وأنّ المُقاومة، وحتّى تبقى صامدة وثابتة، لها الحقّ أن تبقي الخطط والقيادة بمكان آمن.

ليس عطفا أو حنانا تجاه المدنيّين أن يستعمل الإعلام الصّهيونيّ مثل هذه الأقاويل، فهو يريد أن يطال بسلاح جوّه عسكريّين ومدنيّين وقيادات، وبنايات وأشجار وحيوانات. لكنّ عجزه طيلة عام كامل على الوصول إلى العقول المدبّرة، في أرض منبسطة وفي مساحة 360 كم مربّع محاصرة، أوصله إلى هذه التّخاريف.

ورغم كلّ ذلك، أطلّ السّنوار يوم 17 أكتوبر 2024، مُقاتلا مشتبكا مع جنود الاحتلال، مجاهدا ملتحما مع بقيّة المجاهدين، فوق الأرض وتحت الشّمس، قبل أن يرتقي شهيدا.
كان السّنوار بالذّات، سيّد الطّوفان وعقله، عماد الدّعاية الصّهيونيّة بهذا الصّدد.

ومن سُخريّة القدر بالنسبة إليهم، ومن بسالة شهيدنا، أنّه قد ضرب بهذه الدّعاية عرض الحائط، بل أنّ الاحتلال قد أخرجه البطل المُقاتل الّذي يرفض الاستسلام دفاعا عن شعبه وعن أرضه، وصوّره في أجمل حلّة، فدائيّا يقصف العدوّ بما لديه حتّى آخر أنفاسه.

تناقلت قنوات صهيونيّة على التّلجرام أنّ الجنود الّذين سرّبوا المشاهد الأخيرة من استشهاد أبي إبراهيم، قد عرّضوا أنفسهم للعقاب بهذا التّصرّف المُتهوّر (وهم لا يعرفون حينها من الأساس من يكون هذا المجاهد)، ويبدو ذلك منطقيّا للغاية.

أراد الاحتلال قتل السّنوار، في نفق أو في حفرة أو في أسره، لكنّهم خلّدوه حتّى الأبد.

إنّ مقولات الحياد الّتي يتبجّح بها العدوّ، وأبواقه الدعائيّة الغربيّة والعربيّة لا تغدو سوى مقولات لتزييف الوعي وكيّه، وهي إحدى إفرازات الهيمنة الثّقافيّة الّتي خلقتها الرّأسماليّة العالميّة والامبرياليّة، من أجل بثّ خطاب الهزيمة والتّشتيت والتّفريق، ومواصلة الهيمنة كمصير حتميّ لشعوبنا.

وإنّ دورنا في صدّها، يكمن في الانحياز الموضوعيّ للمُضطهدين فوق هذه الأرض، دون تضخيم للأحداث وتجميلها ودون خلق ما لم يُخلق من الأساس.

فليحيا الطّوفان، ولتسقط خطابات الهزيمة


(1) السّيطرة على الإعلام، الإنجازات الهامّة للبروباجندا، نعّوم تشومسكي، ص8.

(2) تقرير نشرته هيومن رايتس ووتش https://www.hrw.org/ar/report/2024/07

(3) https://www.aljazeera.net/news/2023/10/26/لوموندتشككفيروايةالاحتلالبشأنقصف

(4) https://www.aljazeera.net/encyclopedia/2024/4/9/الهاسبارارأسحربةالدعاية

(5) السّيطرة على الإعلام، الإنجازات الهامّة للبروباجندا، نعّوم تشومسكي، ص20.

(6) https://www.trtarabi.com/explainers/الوحدة-8200-أكبر-شبكة-تجسس-للاحتلال-اخترقتها-المقاومة-الفلسطينية-15516651

مقالات ذات صلة

  • مسيرة في تونس العاصمة تأبيناً للسنوار ودعماً لغزة ولبنان

    نظّمت اليوم، الجمعة، الشبكة التونسية للتصدّي لمنظومة التطبيع وتنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين في تونس، مسيرة في تونس العاصمة…

    الأخبار

    blank
  • فاعلون ثقافيون يدعون إلى مقاطعة ’مهرجان جوّ‘ ويندّدون بالتعامل مع المؤسسات الثقافية الاستعمارية

    ينشر موقع انحياز بياناً صادرًا عن مجموعة من الفاعلين الثقافيين، يدعون فيه إلى مقاطعة الدورة السابعة لمهرجان "جو تونس" للفن…

    الأخبار

    blank
  • القضية الفلسطينية: العودة إلى جذور الصراع

    لطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا للاستيطان والاستعمار منذ نشأتها، إذ ارتبطت بالإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين، مثل الهنود الحمر،…

    رأي

    blank
  • تواصل التتبّعات والإيقافات في حقّ مناضلين يدعمون المقاطعة والمقاومة

    تم الاحتفاظ منذ قليل بغسان البوغديري، عضو تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين في تونس، وإحالته في حالة تقديم على…

    الأخبار

    blank