عن الحلم والكابوس زمن الحرب

15/01/2025

من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على كلّ حال. وباستطاعتي أن أريه كلّ الندبات، أن أحدّثه عن ذكريات الطفولة واحدةً تلو الأخرى.
عند استشهاد الدُّرّة، لم يكن عمري سوى ثلاث سنوات، ولكنّ حسرة الأب وهو يحتضن الصغير بين  ذراعيه كانت تُلاحقني لسنوات طويلة في أحلامي. لم أدرِ أيّ كاميرا التقطت الصورة، لم أدرِ من يكون الطفل وأبوه، ولم أدرِ من تكون فلسطين.
عند سقوط بغداد في 2003، كان عمري يناهز الستّ سنوات، وظلّت صورة صدّام ودموع أبي في 2006 تُطاردني أيضًا. لم أعلم ما يحدث بدقّة، ولم يكن أبي بعثيًّا أو مناصرًا لصدّام، ولكنّي أتمثّل لوعته حتى اللحظة.

لسوء حظي أنّي شهدت بعض الانكسارات الجماعية صغيرًا، وتمثّلتها حسّيًّا بسبب نشأتي في عائلة تُتابع الشأن العام عن كثب. لحسن حظي أني شهدتها أيضًا؛ إذ شكّلت الجروح والندبات جزءًا من وعيي الحاليّ وعلامة فارقة في كلّ الخيارات اللاحقة.
في كلّ الحالات، أؤكّد لكم أنّني لم أنسَ شيئًا. كبرت وترعرعت بكوابيس مفزعة ومتكرّرة، وبمشاهد دمويّة أرّقت الكثير من لياليّ.

عن البكاء الأوّل في غزّة

مع اندلاع السابع من أكتوبر، وانتفاضة البندقية الفلسطينية في وجه الكيان الغاصب، توقّعت ردًّا بشعًا من أولئك المجرمين الصهاينة. أجريتُ كلّ المحادثات الداخلية، وجرّبت كلّ أنواع المونولوغ من أجل إقناعي بأنّ لحروب التحرير ضحايا، وأنّ للتحرّر كلفة. تابعتُ كلّ المجريات الميدانية والإعلامية بهذه الحصانة الذاتية التي توهّمتها.
تابعت جرائم الاحتلال الصهيوني المُتلفزة مُباشرة عبر القنوات الفضائية، وتتبّعت ما استطعت من الجرائم المسجّلة على وسائط التواصل الاجتماعي. كان ذلك رغبةً مني في توثيق قدر هائل من الأحداث، ومراكمةً وتخزينا لكلّ ما أمكنني من عاطفة خالصة، استعدادًا لأيّ انفجار قادم، سواء كان فرحًا هستيريًّا أو غضبًا مدمّرًا.
طيلة الأشهر الأولى، كان هذا التحصين فعّالًا. أرى المجازر هنا، فأبحث عن الانتصار العسكري هناك. أرى الدمار في غزة، فألقي نظرة على خوف الأعداء من صواريخنا. وكانت المعادلة، في ذهني، متوازنة حتى ذلك الحين.
كان أول انهيار حقيقي لي  جرّاء  شيخ يبكي بيته المنهار الذي ظلّ يحلم به لأربعين عامًا. لم يكن المشهد عن الموت أو الدم. كان فقط عن منزلٍ وبناء. وما زاد من انهياري حينها أنّ الشيخ اختتم قوله بـ: “كلّو فداء فلسطين” و”راح نعمّر واحد ثاني”.
رأيتُ في الشيخ قدوة آنذاك، إذ اختلطت الحرقة عنده بأمل قادم. رأيتُ فيه بطلًا ملحميًّا من أبطال الواقعية الاشتراكيّة، رغم أنّه لم يحمل السلاح، ورغم أنّه لم يبكِ ابنه أو ابنته (حتى ذلك الحين على الأكثر)، ولكنه كان مستعدًّا للتخلّي عن حلم الأربعين عامًا وعن حلم العمر ببناء مسكن لائق، لأجل الوطن، ولأجل ما هو جماعيٌّ كبير.

حرب غزّة والتروما (الصّدمة النفسيّة):

مع تواصل الحرب، تتالت الفظاعات بحقّ الشعب الفلسطيني، وبحقّ الحاضنة الشعبية للمقاومة وأطفالها. كان من المتوقّع أن أنهار في بعض اللحظات. تفطّنت حينها إلى أنّي حصّنت نفسي من عدد الشهداء، ومن الموت عامّة، ولكنّي لم أستطع الصمود أمام كلمات ونظرات من يرثيهم.
قرأت مئات الكلمات ممن فقدوا أحبّاءهم. قرأت كلمات الحبيب عن الحبيبة التي ارتقت قبل أيّام من الزواج، وقرأت كلمات الصاحب لصاحبه، والرفيق لرفيقه. وبكيتُها كلّها.

شاهدت نظرات الأطفال المفزعة، شاهدت الصدمة في عيونهم، تلك العيون المتسعة التي لا تفهم – أو لا تصدّق – كلّ ما يحدث. أولئك الذين فقدوا أبًا وجدًّا وأخًا وأكثر، الذين سيكبرون وأصوات “الآف-35” وأنّات الجرحى لا تفارق آذانهم الصغيرة، الذين سيكبرون ولا لون في عيونهم إلا الأحمر السائل على الإسفلت وبقايا الأبنية.
هنا، تدخّل الكثير لنصحي ولإضفاء مقومات جديدة للصمود: “كفّ عن المتابعة وتجنّب رؤية ما يحدث”. خضت حوارًا عصبيًّا مع طبيبي النفسي، المُبتسم دائمًا، وهدّدت بالقطيعة مع الأدوية كاحتجاجٍ على ما يحدث في هذا العالم.
أيقنتُ لاحقًا أنّ احتجاجي الصغير لن يُجدي نفعًا، وأنّني سأعود لتناول الأدوية خجولًا بفعلتي، بعد أن أدركت أنّ صديقًا في غزة لم يجد ذات الدواء متوفّرًا في خضمّ الحرب.

من خالد وحنظلة إلى “روح الروح”: من الرمز إلى الحقيقة

خالد شخصية في رواية، لكنه لم يكن مجرد شخصية روائية بالتأكيد. خالد، الذي حمل نظرة عاطفية مثل أبيه وأمه (سعيد وصفية)، امتلك أيضًا رؤية نقدية وشمولية تجاه القضية. لن يفهم القصة من لم يقرأ رائعة “عائد إلى حيفا” للمناضل الفلسطيني غسان كنفاني.
خالد هو من أدرك أن العودة إلى الوطن تحتاج حربًا. هذه الشخصية، التي احتلت جزءًا هامًا من ذكرياتي ومن فهمي الأول لفلسطين، شاهدتها تتجسد أمامي بأمّ العين.
كان خالد سنوارًا ونصر الله، وكان الصاروخ الأول فجر السابع، وكان الضفدع البشري الأول، وكان رحلة العبور المقدّس.
حنظلة، رمز القضية، الذي خطته أنامل الأيقونة ناجي العلي، جسّده الطوفان: بلفتة غير مكتملة بانتفاضة غير منتهية، وبوجه نصف مكشوف.
كانت هذه الرموز وغيرها أدوات لصقل الوعي، ولبناء شخصية الكثيرين. كانت تكثيفًا صادقًا ونقلًا أمينًا للمعاناة الفلسطينية ولصمود الجبّارين.
ولأن التاريخ سعيٌ متواصل لإنصاف أهله – أو هكذا أرغب في تصوره كي أبقى على قيد الحلم – أعاد الواقع تشكيل رموزه من جديد: بتقنيات الكاميرا الحديثة، بأصوات البكاء المسموعة، وبألوان الدم الحقيقي.
من لم يدرك خالد وخلدون/دوف وخيبة سعيد وصفية، فقد شاهد خالد نبهان (صاحب عبارة “روح الروح” الشهيرة) وهو يلحق بروحه وحفيدته شهيدًا.
ومن لم يدرك حنظلة، الطفل الفلسطيني الذي أدار له العالم “الحر” ظهره، فقد أدرك آلاف الشهداء من الأطفال يُقصفون، ويُمزقون، ويتحولون إلى أشلاء تحت أنظار عائلاتهم، وتحت أنظارنا.
ومن لم يسمع عن الشبل الذي يمشي على الجمر، أو عن الحبيب الذي يصل إلى حبيبه شهيدًا، أو عن فرقة أغاني العاشقين، أو عن ملاحم بيروت؛ فإن التاريخ يُعيد نفسه ليُطارد جيلًا آخر أحلامه، رغم ألم الكوابيس التي عاشها، ويعيشها.
يبدو أن قدرنا أن نتأرجح بين الحلم والكابوس، حتى يغلب الأول الثاني، فنحيا هانئين في النوم واليقظة.

أبو صالح غزاوي

مقالات ذات صلة

  • تحرك أمام سفارة السلطة الفلسطينية احتجاجا على استهداف مخيم جنين

    نفّذ عدد من أعضاء تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين، اليوم الخميس، وقفة احتجاجية أمام سفارة السلطة الفلسطينية في تونس،…

    الأخبار

    blank
  • سقوط الأسد وإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط

    سوريا الجديدة... طريق مليئ بالألغام والمستقبل رهين ذكاء السوريين حتى نتمكن من تحليل الوضع في سوريا اليوم واقعيا، يتحتّم علينا…

    رأي

    blank
  • افتتاحية | عن صعوبة المرحلة وبعض دروسها…

    عندما كتبنا قبل حوالي شهرين ونصف عن "الأيّام المصيرية" التي تعيشها المنطقة العربية، لم نكن نتوقّع أن تتسارع الأحداث بهذه…

    افتتاحيّة, الموقف

    blank
  • محكمة فرنسية توافق على الإفراج المشروط عن جورج إبراهيم عبد الله

    وافقت محكمة فرنسية، اليوم الجمعة، على الطلب الحادي عشر للإفراج المشروط عن المناضل الثوري اللبناني، جورج إبراهيم عبد الله، وفق…

    الأخبار