عمّ علي: سطر ضائع في كتاب الحياة

12/03/2025

صورة مصممة بالذكاء الاصطناعي

يُعتبر عمّ علي (84 عاما) واحدا من أقدم بائعي الخضر في “مرشي طريق حفوز”، القائم في الضاحية الغربية لمدينة القيروان. عايش بداياته في نهاية الثمانينيات مع سقوط بورقيبة وبداية عهد الجنرال، الذي يُعدّ زمن رخاءه المزعوم، قياسا لما عاشه هو من محن، محض إشاعة سخيفة. وهو إلى الآن مرابط في قلب أجواء ” المرشي” الفوضوية الصاخبة، على عادته منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، بنصبته الصغيرة، التي لا تضم غالبا أكثر من أربعة أنواع من الخضر؛ هي الفلفل والطماطم والبصل والبطاطا. جميعها بكميات صغيرة، ممّا يسمح له بالتزود من السوق المركزية في الطرف الشمالي البعيد من المدينة برأس ماله الصغير. وربما زاد عليها كلما اعتدل السعر، بنوع واحد من الغلال يكون عادة ” ڨاجو” من البرتقال أو التفاح.. في تلك الزاوية المعتادة من فضاء “المرشي” الضيق المستطيل المكتظ بشكل جهنمي، التي يستدير معها الطريق الممتد خلف مدرسة حي النصر، ليمضي جنوبا محاذيا لحائطها الشرقي.

 لا شيء تبدّل في حال عم علي، رغم مرور أكثر من ثلث قرن على امتهانه لبيع الخضر في هذا المكان، ولم يفكر يوما في تغيير مهنته أو موقعه أبدا، رغم سهولة تحريك نصبته المتكوّنة من أربعة ألواح ومصطبة تمتد فوقها، ينشر عليها بضاعته. ولا استجاب لإغراءات تحويل وجهته، جريا خلف ربح أوفر، فجرّب يوما أن يهجر زاويته الأثيرة وحطّ الرّحال عند ناصية الطريق الرئيسي الذي، بوقاحة بلغت حدّ الاجرام، ابتلع أرصفته الباعة المنتصبون وأفاضوا على الطريق نفسه فاحتلوا ثلثه مسببين بذلك زحمة خانقة.

 يقف عمّ علي كل يوم خلف عربته، ووراءه حائط المدرسة المرتفع، الذي ازدانت صفحته بجمل مكتوبة بخط بدائي معوج على مثال ” يا جماعة المرشي راكم هلكتوا”.. يقف منذ شروق الشمس حتى الثالثة بعد الظهر، في هيئة تعطي الناظر انطباعا بأنه يعتبر الآخرين تقريبا غير موجودين بالنسبة له، لشدة لامبالاته بمن يأتي وبمن يروح. وهو في وقوفه ذاك، كأنه يمارس شأنا شخصيا لا علاقة له بالناس، محض هواية أو شغف له صلة وثيقة ببحثه عن هدف أبعد من البيع والشراء، لعلّه السكينة والسلام، فلا تسمعه ينادي على بضاعته أو تراه مهتما بأن يُرغّب فيها المشترين الذين لا تتوقف جموعهم عن التدفق من مختلف الجهات. تشعر بأن الرجل منذور لمهمّة أكثر سموًا من مجرّد بيع الخضر وقبض بعض الملاليم. روحه مريدة عنيدة، كثير النظر إلى أمامه ساهما شاردا، وليس في نظراته شيئا من الإنتظارية التي تطبع قسمات بائع. لديه بعض المزاجية وينفر من الازعاج وقليل المخالطة، لكن الروح الطيبة غالبة عليه، فلا يمنعه ميله الفطري للصمت وللانعزال من الردّ على سؤال أو الانخراط في محادثة صغيرة مع واحد من معارفه القدامى الذين يمرّون صدفة من هناك.

عم علي
صورة جانبية لعم علي بعد رفضه التقاط صورة مقربة لوجهه

 رغم سلوك القناعة هذا عند عمّ علي، بوسعنا اعتبار الموقع الذي يحتلّه في “المرشي” موقعا استراتيجيا، لكونه في القلب منه وعلى مسافة خطوات من تقاطع طريقين كلاهما غاصّ على الدوام بالباعة والمشترين. يستفيد عم علي استفادة متوسطة دائما من موقعه هذا، لكثرة النصبات على يمينه ويساره، ولقلة تنوع بضاعته، وللسلبية الغالبة عليه، التي هي الوجه الآخر لتحرّره من روح الطمع، فلا نرى الازدحام شديدا حوله. وقد يفضي به الأمر في العديد من المرات إلى التسليم بحقيقة تلف البضاعة لقلة المشترين، مما يعني هزال نصيبه من الربح كل يوم.

اذن طالما لا وجود لمكسب مادي يُغني فتيلًا، يبّرر به كل هذا الاصرار والمداومة، ماذا يفعل عم علي في مرشي طريق حفوز العامر بالفوضى، وما الرمز الذي يمثله بوجوده هناك؟
 في كل مرة أشاهده واقفا بصبر خلف نصبته، غير عابئ بالسن التي بلغها ولا بتقلبات الطقس أو مناورات الحرفاء، الذين غالبا ما يكون باعثهم على التوقف أمامه رفع الملام أو مجاملة سنه ومثابرته شبه الأسطورية الممتدة كما ذكرنا على أكثر من ثلث قرن، بينما هم يضمرون التحول للنصبة المقابلة، التي يشغلها – للمفارقة – ابنه الأكبر، لما فيها من تنوع سلعي وسعر أخفض. أرى فيه شيئا من شيخ همنغواي في صراعه الملحمي مع بُخل البحر وعناد السمكة.

  وإن كان شيخ همنغواي قد صمد وصارع واقع وحقيقة العودة بمركب خال من البحر لمدة ثمانين يوما، دون أن يكلّ أو ييأس، قبل أن يظفر بتلك السمكة وتجره خلفها لثلاثة أيام أخرى نحو أعماق البحر، فان صراع عم علي وصموده، وهو الكادح المنسي – شأنه في ذلك  الملايين من أمثاله الذين يمثلون ملح الأرض وسمادها – مستمر منذ أزيد من ثلاثة عقود.
 لم توهنه السن ولا كروب الحياة أو عتو الظروف. بحره الفسيح هو” المرشي” الفوضوي بمزاجية حرفائه وأجواءه الغبراء غير الرحيمة. وزورقه يتكون من عنصريْن؛ أولهما دراجته العتيقة التي يقطع على متنها المسافة كل صباح، من بيته في المنطقة الخضراء، حيث يعيش وزوجته، إلى نصبته التي تركها تبيت في الزاوية المعتادة، بما تبقى فيها من خضر الأمس التي لم يجد لها مشتريا، بعد أن نشر فوقها غطاء بلاستيكيا وشدّه إلى العربة بحبل، مسافة تقرب من كلم واحد، يقطعها ذاهبا في الصباح وإيابا عند الثالثة ظهرا.

والعنصر الثاني للمركب هو العربة نفسها، بألواحها وسطحها الذي رغم أنه لم يغيّره أبدا، حافظ على صلابته وتماسك أجزاءه. وسمكته التي ما ينفك يطاردها كل يوم، بدأب وصبر وهدوء يحسد عليه، وربما بلامبالاة وبشيء من الاستخفاف، ولا يظفر منها في النهاية بغير هيكلها العظمي، بسبب زياداته المشطة في الكمّية عند كل وزنة، تضيع معها الفائدة كلها، هي تلك القطع النقدية القليلة التي يدرّها عليه انتصابه هناك، ويختلط عليه كثيرا عند عدها، نسبة رأسماله مع نسبة ربحه الصافي.

 لا يبدو عم علي مكترثا كثيرا بمن يُقبل عليه ومن يمرّ لامباليا، رغم شحوب وجهه والغضون التي ملأته بفعل السنون والتحدبّ النسبي لظهره وتقوس قامته، وطول الوقت الذي يحتاج منه البقاء واقفا خلف العربة. ولا يضجره طول الوقوف، ولا يتأفف من قلة الإقبال. ليس فحسب لأنه تعود عليه، فهذا التعود بوسع الزمن نفسه، الذي غرسه فيه، أن يهدّه ويوهن عزمه، لتداعي القوى التدريجي، وهو ما لم يحصل يوما مع عم علي، عدا فترة تعرض خلالها لأزمة قلبية تعافى إثرها. تخاله يعيش يومه هناك كأنه منذور ليكون رمزا ومثالا، أكثر منه مجرد بائع يمارس انتصابا فوضويا، طبقا للتصنيف الرسمي الذي لا يرحب بأمثاله ولا يعيرهم اهتماما أو قيمة، في سوق هامشي قررت السلطات تركه مطلق العنان، دون رقابة أو إحاطة من أي نوع. تسيره رياح الصدف ومشيئة بائعيه، بما يجتهدون للاتفاق حوله مما يطرأ عليهم من مشكلات، وبحولهم القليل ورساميلهم الشحيحة. ماضيا نحو مصيره المحتوم ليكون البؤرة التي تتلقف الفاشلين في المجتمع والمطرودين من مختلف هياكله الطبقية، بعيدين جدا عن اللحاق بركب البرجوازية الصغيرة من خلال التحول الى تجار قارّين، لأن تجارتهم عشوائية لا قانون ينظمها أو ضابط غير ما يتفق عليه البائع والشاري. وهم لا يملكون محلاّت أو يكترونها، بل يشتغلون عبر عرض البضاعة من الخضر في عرض الطريق وعند ناصيته. وليسوا كذلك طبقة عاملة لها مواعيد قدوم ومغادرة، ومنظمات أو نقابات تدافع عن حقوقهم وتفاوض نيابة عنهم أو تمارس الوصاية عليهم. وليس لديهم أنظمة لتلقي الأجر وأرباب عمل. أغلب المنتصبين إما هم مالكون لعرباتهم أو يشتركون مع آخرين فيها، مما يفتح الباب لحالات تضامن وتآزر فريدة.

Inhiyez.com

هؤلاء الذين يؤثثون رحبة “المرشي” ويملؤون فضاءه على مدار اليوم هم هامش الهامش. القاسم المشترك بينهم هو قبوعهم في قاع السلّم الحياتي. لا يتوفر لهم حتى أكثر أغطية الحماية المهنية والاجتماعية هشاشة ولا يستجيبون لأي تصنيف طبقي. يأتون إليه من مسلك العمل اليومي كأجراء ومشتغلين بشكل ظرفي لا يعثرون على العمل إلا نادرا، لكثرة العرض من اليد العاملة قياسا لقلة الطلب عليها. فيفرّون نحو “المرشي” هربا من البطالة وحياة الافلاس، ليجدون في الهامشية المخرج الدائم من التعلّق بركب أمل لا يحمل لهم على ظهره غير الخيبات المتلاحقة. أمّا “المرشي”، فهو نظام الخيبة حرفيا، ليصير اجبارهم على قبول حياة الانتصاب في العراء، في حرّ الصيف وبرد الشتاء، بمثابة نظامٍ للفشل المستمر واتخاذا للهامشية نهجا حياتيا دائما.

عم علي هنا، أكثر من مجرّد بائع للخضر على عربة قديمة تنتصب في زاوية من السوق اليومي المكتظ، يرتقي بسبب التواتر والمواظبة المدهشة منه على مزاولة نفس العمل تحت مختلف الظروف ومنذ عقود طويلة، إلى مستوى الرّمز، أو إلى العلامة الدالة. هو عبارة عن سطر ضائع منسي كتبته أصابع إرادة حرة مقاومة، منفلتة عصية على التصنيف. تشكلت هويته من خلال العمل الدؤوب. يجاهد بضراوة ليجد لنفسه مكانا في كتاب الحياة، بأكثر معاني الوجود نبلا، كفاح جسور مثابر لامتلاك القيمة في عالم يسلب الكائن كل قيمة.
 حالة إصرار نادرة للوقوف على القدميْن بينما جميع الظروف تتآمر لدفع الإنسان للجثو على ركبتيه ومد يد التسوّل. عايش عم علي مختلف مراحل تاريخ مرشي طريق حفوز، منذ أن كان عبارة عن نهج جانبي هادئ تقوم على جانبيه  صفوف من البيوت، وليس في وسطه المترب غير ثلاث نصبات صغيرة وبعض الدكاكين. كان هو بعربته، من أوائل من شغلوه في مطلع كهولته، بعد انتقاله وعائلته الوفيرة العدد من بلدة بوحجلة، حاطًا الرحال في المنطقة الخضراء التي كانت تجمُّعًا سكنيًا رثًّا، في بيت شديد الصغر. عمل الأبناء بعد أن كبروا وأمكن لهم تأمين بعض الموارد ( منهم الدهان والخضار وعامل البناء والعامل الفلاحي) على توسيعه وتحسينه بقدر ما استطاعوا. واستمر بعضهم مقيمين فيه مع الوالديْن، وبذلك حافظوا على وحدة كيان العائلة.

لكن عم علي رغم تقدمه في السن، يأبى أن يعيش عالة على أبنائه، حتى وقد بلغ الثمانين.
 رجل عنيد في جسارته، وجسور في عناده، مثّل حالة من الاعتماد على الذات نادرة المثال. في ساعات العشية، بعد تغطية عربته ومغادرة المرشي، لا يركن عم علي إلى الرّاحة، بل ينصرف على دراجته إلى شأن آخر، مردوده المالي ليس أقل هزالا من مردود عربة الخضر؛ التجول في الحي وجمع العلب البلاستيكية. ترى الصورة غريبة وفائضة بالدلالات، وعم علي كل عشية يقود الدراجة بتؤدة دون أن يركبها، لأنه وضع على ظهرها كيسا ضخما معبئا بالقوارير البلاستيكية، وعلى ضخامة حجم الكيس فان وزنه في النهاية، بعد جولات كثيرة ومرهقة في مختلف الأنهج والأزقة، لا يتعدى الخمسة كيلو. ممّا لا يعطي عم علي عائدا يتعدى الديناريْن، فتشعر أنه جراء مجهوده السيزيفي الذي لا يتوقف عنه لأي سبب، مكلف ذاتيا بتخليص عالمه من أوضار البلاستيك، أكثر مما هو يسعى خلف دخل مالي إضافي.

لكن لا سبب يدعو عم علي للقلق، فجامعي البلاستيك في هذه الضواحي المنسية المهمشة أكثر من أن يدخلوا تحت عدِّ، تراهم مع مطلع كل فجر يهيمون في الشوارع بظهور محدّبة، رافلين في بقايا أسمال ” الفريب”، يلتقطون القوارير الملقاة أو يطرقون الأبواب للحصول عليها. يعيشون على الفتات في النهاية. هذا المشهد اليومي المتكرر غدا مألوفا لدرجة تجعل المرء مقتنعا أن مصير هذه الضواحي يتقلّب بين مآلين، قد يجتمعا عليها معا، إما أن تغرق في نفايات البلاستيك، أو تغرق فيما حولته ماكينة الاستغلال والتفقير إلى نفايات بشرية، تهوم في أرجاءها فاقدة للأمل، ضائعة الهوية مطموسة الملامح.

بعد انتهائه من مختلف هذه المهام، يصل عم علي إلي بيته مساء، متحررا من عبء كونه رمزا لوجود صامد، لا يحق له أن ينحني أو يذعن لسلطان التعب. هنا في بيته، يستعيد البطل سماته البشرية، بجسد ترك عليه الزمن علاماته البينة، إنسانا تنهكه الأعباء اليومية التي يخجل من رميها على كاهل أي من أبنائه، فيتمدد على الحصير ويخلد إلى القليل من الراحة. وفي نومه المتقطع المتوتر قد يراوده الحلم بالأيام القديمة. ويرى نفسه قد عاد شابا في بلدة بوحجلة، سنوات طويلة قبل فيضانات 69 وبدايات العبث الليبرالي زمن الهادي نويرة، فلا يرى أمسه يختلف في شيء عن يومه. فقبل مجيئه لمدينة القيروان، عمل العم علي طوال سنين شبابه في مهنة البناء الشاقة، وتنقل بين مدن كثيرة جريا خلف لقمة العيش. اشتغل بنّاءً في صفاقس وفي بوزيد وفي قفصة، وانتهت هذه المسيرة بإصابته بالصفراء في يديْه، التي كانت في حالته عبارة عن  التهاب تماسي تحسسي في الجلد، وهو رد فعل جلدي تحسسي للتعرض للمركبات الموجودة في مادة الاسمنت.

عم علي 3

التهاب الجلد التماسي التحسسي مزمن ومنهك، إذا لم تتم معالجته بشكل صحيح. في ستّينات وسبعينات القرن الماضي، كانت الصفراء من نوع التهاب الجلد الاسمنتي شائعة جدا بين عمال البناء وأقعدت الكثيرين منهم عن الاستمرار في العمل. فمنهم من سقط بين براثن الفاقة، ومنهم من نجح بمنتهى المشقة في التخلص من جلده القديم الذي فتّتَتْه سموم تلك المادة ونجا من تأثيراتها المعمّمة على بقية جسده وصار حمّالا أو بائعا جوالا أو بوّاب عمارة أو عاملا فلاحيا يشتغل بشكل موسمي أو سافر للعمل في ليبيا، أو مثلما هو الحال مع عم علي، بدّل مكان الإقامة سعيا خلف حياة أقل قتامة. فبارح بوحجلة ونزح إلى القيروان، مقيما في أفقر ضاحية فيها في منزل يشبه الكوخ، الذي كان السمة الغالبة لجميع المساكن المجاورة له. وبما وسعته الحيلة والجهد، اصطنع لنفسه عملا من لا شيء، عربة صغيرة هي عبارة عن مجموعة من الألواح المشدودة إلى بعضها رصف فوقها القليل من الخضر، يدرج بها كل يوم نحو التجمّعات الأكثر ازدحاما في المدينة. ويختلف  حظه من الربح من يوم لآخر، لكن لا يفوت حدود الكفاف مطلقا، حتى حطّ الرحال في مرشي طريق حفوز الذي كان أحد مؤسسيه. ثم صار بفعل التقادم، رمزه الأكثر ايحاء، لما تفعله روح المثابرة التي تغالب بشكل يومي جميع عوامل الوهن الذاتية والموضوعية، لتتمكن من افتكاك عناصر صنع المصير ذاتيا. لكن ربما كان آخر ما كان ينتظر أن يراه مرتسما على صفحة أيام حياته المديدة، هو أن ينتهي به الأمر والمغامرة على هذه الشاكلة التي تسلبه كل فخر، فيكتشف أخيرا أنه لم ينجز شيئا في حياته، غير قضاء أكثر من ثلث قرن، سجين إكراهات عربة خضر في سوق عامرة بالفوضى والقذارة. لا يستطيع عم علي أن يفعل شيئا حيال الروائح الخانقة التي تنبعث من النصبة المجاورة له، التي يمتهن صاحبها بيع الدجاج الحي بعد ذبحه و”ترييشه” فوريا حسب الطلب. لأن لذلك الجار، علاوة على الرائحة الفائحة منه، همه ومعاناته الشخصيّيْن، الذين يجبران عم علي على الصمت، تتجه معه أصابع الإدانة بصدد كل هذا البؤس، نحو طرف معروف للجميع. لم تفلح ثورة 17 ديسمبر ولا مختلف أفعال المقاومة منذ ذلك التاريخ وحتى قبله، في إزاحته من موقع التحكم في مصائر البشر وابقائهم متردّين في أسفل السلّم المعيشي.

قد يجد عم علي عزاء بائسا عندما يتلفت حوله، فيرى حشودا غفيرة من البشر في أيامنا، قد صاروا عجائز دون حاجة ليقطعوا نحو ذلك المصير مسافة الثمانين عاما التي قطعها هو. لقد صمد هو كل هذه العقود وظل واقفا على قدميه. إنجازه الوحيد في الحياة هو اعتماده الدائم على الذات. لم يستند يوما على ساعد غير ساعده. بينما انهاروا هم في سن الشباب، فلا مسافة قطعوا ولا حياة كريمة أقاموا.. لكن لا ذنب لهم ولا مسؤولية في حصول هذه الخيبة المدمّرة. الأمر يبيّن بجلاء أن المرء قد يشيخ شابا. وقد يستل رواء الشباب من يبس الشيخوخة. والتاريخ لا يتقدم أبدا بشكل خطي نحو الأفضل مثلما يزعمون، بل قد يكون الأسوأ في الانتظار، خصوصا عندما تكون الخطط والسياسات العامة، الموضوعة بشكل أحادي ووفق إملاءات من فوق، ثقوبا في أشرعة الحياة وليس ريحا تملأها وتدفع بها إلى الأمام.

يقف عم علي شاهدا على أزمنة  عديدة وتحولات كثيرة، لكن لو خطر ببالك أن تسأله عن رأيه فيها أو المقارنة بينها، فسيُجيبك بهزة رأس مستنكرة، ربما لأنه لم يعش منها أو يرى شيئا غير التحول من السيء إلى الأسوأ، مما لا يجد من الكلمات على لسانه ما يعبر عنه. هو الرجل الأمّي، الذي رغم أمّيته، وهبته الحياة بصيرة عرف بها كيف يجتنب انطباق الرؤية المالتوسية لكيفية تدبر سبل البقاء عليه : ” البقاء للأصلح ومن ثمّ للأقوى”. ليكتفي من شرور كل هذه الأزمنة التي عاشها صامدا مكافحا، بخلاصة جامعة ومختصرة، تغنيه عن الضياع في التفاصيل، هي:

” ما يعجبك في الزمان كان طولُه”.

حي النصر – القيروان

06-03-2025

مقالات ذات صلة

  • افتتاحية | 2024: سنة احتضار السياسة

    اعتدنا الكتابة والتّعليق على مستجدّات السّياسة في معناها العام والواسع. ومع انتهاء هذا العام، نجد أنفسنا نكتب عن غيابها أو…

    افتتاحيّة

    blank
  • فيديو | إحياءً لمئوية وفاة لينين: الوطد الاشتراكي ينظم ندوة أممية

    نظم الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي يومي 16 و17 نوفمبر ندوة أممية في مسرح الحمراء بتونس العاصمة، إحياءً للذكرى المئوية لوفاة…

    الأخبار

    blank
  • تحراك تضامني أمام محكمة القيروان لدعم عمّال مصنع ‘ريتون’ الموقوفين

    تحيين: تم رفض مطالب الافراج عن الموقوفين. تجمّع اليوم الخميس عدد من النقابيين والمواطنين/ات أمام المحكمة الابتدائية بالقيروان، لدعم عمّال…

    الأخبار

    blank
  • افتتاحية | ما بعد الانتخابات الرئاسية: تونس إلى أين؟

    انتهت إذن الانتخابات الرئاسية بنتائج لم تكن مفاجأة لأغلب المتابعين. إذ كانت حدثًا فاترًا غاب عنه التشويق والتنافس الساخن بحكم…

    افتتاحيّة

    blank