علي القادري : لا حياة لمجتمع بلا مقاومة

11/10/2024
Gzc1yvtwuaars3u

مقابلة أجراها خليل كوثراني، كريم الأمين

علي القادري، الأكاديمي والمفكر العربي، أستاذ باحث في جامعة سون يات سين في جمهورية الصين الشعبية، وأستاذ باحث سابقاً في جامعة لندن للاقتصاد، وفي جامعة سنغافورة الوطنية

* أبرز مؤلفاته : « تفكيك الاشتراكية العربية » و«الحزام الواقي : قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي » و«التنمية الممنوعة » . وتصدر قريباً عن مركز دراسات الوحدة العربية ترجمة لكتابه « الإمبريالية والهدر » .

تأتي هذه المقابلة في الذكرى
الأولى لعملية 7 أكتوبر وفي مناسبة توسع الحرب في لبنان، كمحاولة لقراءة نظرية على هامش أطول حرب بين المقاومة العربية والصهيونية ومن خلفها الإمبريالية الأميركية

القادري، الذي تركّزت أبحاثه حول نظريته عن التراكم الرأسمالي عبر الحروب، يقدّم في هذا الحوار إجابات عن جدوى المقاومة كرد على هذه الحروب، فـ«المقاومة تجبر رأس المال على تحمّل التكاليف الحقيقية للإنتاج وبهذا ستعمّق أزمة رأس المال » . كما يستفيض في شرح أهمية المقاومة الفعّالة في إزالة الثقل التاريخي عن كاهل المجتمع حيث الرأسمالية تسلّع المعرفة وتحوّلها إلى أيديولوجيا تسود كأداة هيمنة تجعل تقمّص فكر رأس المال يبدو طواعياً، من دون تجاهل دور العنف : « إن للعنف الأولوية في تطبيع الجماهير عبر أثر التآزر بين العنف وبين نشر الفكر الانهزامي »

لولا العنف الإمبريالي لما كانت شعوب الجنوب في حالة الهزيمة الأيديولوجية التي عليها، وتواجد مئات القواعد العسكرية الأميركية مع الكيانات العسكرية المستنسخة من النموذج الغربي كي تكون حاملات طائرات عسكرية ثابتة كتايوان وإسرائيل


ليست الصهيونية وحدها التي تحمل الفكر الاستيطاني، إنما الشمال يتقمص الفكر الاستيطاني كطريقة حياة . وهذه التشكيلات الاستيطانية لا تتحلّل بفعل ثوارها من الداخل، مثلها مثل الكيان الصهيوني، لا تفكك إلا بإخلال موازين القوى ضدها

استفضت في أبحاثك في شرح نظرية االتراكم بالهدر، وتحديداً عبر الحروب والقتل، ضمن قراءتك البنيوية لديناميكيات الاستتباع وإنتاجه القيمة عبر العنف : لكن، ما هو الحل، في المقابل، في رأيك، والذي على قوى الأطراف اعتماده لمواجهة المركز الإمبريالي؟

– المقاومة هي الأساس في إعادة إنتاج الإنسان الاجتماعي . لماذا نقول الاجتماعي؟ لأن الإنسان المجتزأ من المجتمع ليس موجوداً . فالإنسان هو انعكاس لمجمل العلاقات الاجتماعية، وهو كعلاقة اجتماعية متجسد في كيان فيزيائي / سيكولوجي يوسط ما استثمره المجتمع في الفرد . لذا العمل اجتماعيٌّ، أي إن الفرد مشتق من المجتمع، أي مجمل العلاقات الاجتماعية، وهو كذلك موسط لقدرات المجتمع . فالإنسان أب ومواطن … لا يسقط من السماء، إنما هو نتاج للمجتمع .
أمّا عن المقاومة، فهي أساس إنتاج المجتمع . أي هي المسند العقلاني والتاريخي لعمليات الإنتاج المتتالية التي تُعنى بحياة المجتمع، ما يعني تبعاً أن الأجر الفردي ما هو إلا حصة من الأجر الاجتماعي، يقتص من الناتج الاجتماعي، والناتج الاجتماعي ينمو بالتطور التكنولوجي، لكن التحاصص بين العمل ورأس المال، أي بين الأجر والربح، يتحدّد بقوة العمل السياسي في الصراع الطبقي .
كيف يحصل ذلك في ظل علاقة رأس المال، أي العلاقة المهيمنة على كل العلاقات الاجتماعية؟ لأن المجتمع الرأسمالي له بوصلة واحدة وهي بوصلة الربحية . قانون الربحية هو ذلك القانون الذي يخفض من الأكلاف على رأس المال بأشد الوسائل بطشاً، كي يخفف التكاليف ويزيد معدل الربحية.

وللتنويه هنا يركّز رأس المال على المضاربة من أجل الربح ويعير اهتماماً ثانوياً للاستهلاك، ما يعني أن للإنتاج، أو لدورة الإنتاج، أولوية في عملية الإنتاج الرأسمالية، وما يعني كذلك أن أزمة فائض الإنتاج هي الأزمة الثابتة والملازمة لرأس المال .

فمثلاً : أي منتج عليه أن يخفض التكاليف وقدرات المنتجين المباشرين السياسية هي التي تتكفل بذلك، عبر العنف الممارس الذي يسلب المجتمع إرادته . والقدرات هذه ليست محصورة بالعنف، مع أن العنف وإعادة ممارسة العنف هما الكفيل بإعادة صياغة القوى الفكرية التي تسلب المجتمع روحه الثورية . والمجتمع هو ليس المجتمع المحصور في ظل هوية وطنية إنما المجتمعات / الطبقات العاملة أينما كانت . فعملية الإنتاج عملية مترابطة كونياً تشارك فيها كل المجتمعات، إما بعملها أو حتى باختزالها من الإنتاج بالعنف حيث إضعافها يعدّ إضعافاً لقوة العمل أو الذات، والذي ينعكس سلباً على الطبقات الأخرى، ما يعني تبعاً أن المجتمع الدولي ككل هو المنتج بكل فئاته، لكن تشكيل تقسيم العمل الدولي على أسس إمبريالية في الشمال والجنوب يعني أن مجتمع الشمال يمتص رأس المال بالريوع الإمبريالية .

مثال : الأرباح المتمثلة على أي سلعة في صيرورة إنتاجها هي تلك التي يجبر رأس المال المجتمع على دفع تكاليفها بدلاً من أن يدفعها هو . فأي عملية إنتاج تبدأ باستخراج المواد الأولية وليست هناك مواد أولية في أرض من دون شعب . ولتخفيض سعر المواد الأولية يجب تقليص إرادة المجتمعات التي تسكن فوق الأراضي التي تحتوي على هذه المواد الأولية . من هنا، عملية استخراج المواد الأولية تعني كذلك في الوقت نفسه التقليل من حصة المجتمعات والتقليص من حيوات هذه المجتمعات .

لذا، استخراج المواد الأولية ملازم لاستخراج حيوات الإنسان في الوقت ذاته . وبما أن الحرب عملية صناعية ذات سمة اقتصادية، أي تستعمل فيها التكنولوجيا العالية التي تخفض سعر المنتج مع زيادة الإنتاج، وبما أن منتوج الحرب من الموت والدمار مسلَّع ومستهلك على دورة الحياة الاجتماعية، على عكس الزمن الذي يفرضه رأس المال في حساباته القومية، تدرّ الحروب أرباحاً طائلة، عدا عن أن انتصار الحروب الإمبريالية يجرّد المجتمعات من طاقاتها وسيادتها، ما ينعكس سلباً على المجتمع الكوني .

لذا، إنّ مقاومة رأس المال هي المدماك الأوّل لإعادة إنتاج المجتمعات بشكل أفضل . أي إنهم إن أرادوا أن يعيشوا حياة أفضل يجب عليهم أن يقاوموا . وما ينتج عن المقاومة الفعّالة هو أن تكاليف الإنتاج التي كان يتحمّلها المجتمع من أجل دعم ربحية رأس المال سيحمل تكاليفها رأس المال . المقاومة تجبر رأس المال على تحمّل التكاليف الحقيقية للإنتاج وبهذا ستعمّق أزمة رأس المال .

وعندما نتكلم عن رأس المال نحن لا نتكلم عن الثراء المادي أو ركم السلع فقط، فهذه أشياء لا تفسر نفسها وما يفسّر وجودها هو مجمل العلاقات الاجتماعية التي أوجدتها والغاية التي وجدت لها . عندما نجرد الأشياء المنتجة بشكل حسي / لا تاريخي خالٍ من الذات الفاعلة، إنما نتعامل مع الواقع بشكل وضعي، أي إن الأشياء تطبع في الذهن من جراء الاختبار الحسي أو من دون الأخذ في الحسبان الفاعل التاريخي بمجمل علاقاته، والذي صنع هذه الأشياء، وبهذا المنهج التشييئي تُبتَرُ الذاتُ عن الموضوع .

عندما نتكلّم عن رأس المال نتكلّم عن علاقة اجتماعية، أي طبقة اجتماعية، تعيد إنتاج ذاتها بتقسيم المجتمع أو الطبقة العاملة، وأدلجتها إذ تتقمّص فكر رأس المال، أي تصبح أشكالاً لرأس المال . فعندما يصبح العمل ( المجتمع ) شكلاً من أشكال رأس المال يكون قد استدخل فكر رأس المال السائد وأصبح تجسيداً وامتداداً للطبقة الرأسمالية . 

حجر الزاوية في استدخال رأس المال هو تقسيم المجتمع أو الطبقة العاملة بهويات متصارعة ما يعني أن تفتيت الطبقة العاملة هو تعريف آخر لعلاقة رأس المال . وللتنويه، فإن للعنف الأولوية في تطبيع الجماهير عبر أثر التآزر بين العنف وبين نشر الفكر الانهزامي . من دون بطش لا ترتبط الجماهير بعقل رأس المال، وإن وجودها، أو إعادة إنتاجها لذاتها، منوط بالعنف المضاد . والعكس بالعكس : ينتهي رأس المال كعلاقة اجتماعية سائدة بتآزر المجتمع .

هذا من الناحية الحِدّية ( أي إذا أخذنا الأمور إلى أقصاها ) ، أمّا من الناحية العملية، ففي تقلبات التاريخ الكفة الأرجح تكون للأقوى بما في ذلك القوة الأيديولوجية . وبالذات حصر آفاق التغيير الاجتماعي في نطاق لا يقارب قاعدة رأس المال الأولى، ألا وهي ملكية وسائل الإنتاج والمصارف واستخراج الثراء الوطني بشكله النقدي إلى المركز بالتلاقي بين الكومبرادور الداخلي والطبقة المالية الدولية المتمركزة في الغرب . وكما كان المجتمع المنتج هو المجتمع الكوني، كذلك لا تصح ثنائية الرأسمال الريعي الوطني والرأسمال النقدي الدولي، إذ هي ثنائية مغلوطة، حيث يكسب ربح الرأسمال الوطني الريعي من تسييل الأصول الوطنية بما في ذلك الأصول البشرية : الهجرة والقتل قبل الأوان .

بالتزامن مع الإبادة البنيوية أو الإبادة المباشرة، يفعّل رأس المال المجازر البنيوية، أي تسليع الموت قبل الأوان المحدد تاريخياً . فبإنقاص الحيوات، كما في نقل الأكلاف الإنتاجية، من جراء الدمار الذي يخلفه، تنخفض القيمة الضرورية، الأكل والشرب والدواء … ويتزايد تباعاً الفائض المتبقي لرأس المال من جراء كل ما هو منتج . وهنا أكرّر أن حصة الطبقة العاملة من الناتج الاجتماعي منوطة فقط بفاعليتها السياسية في الصراع الطبقي الذي يتشكّل أصلاً في ظل المرحلة الإمبريالية عبر العلاقات الدولية . اصطفاف القوى المعادية للإمبريالية ضرورة في ظل موازين القوى المختلّ . 

لنظرية التراكم بالهدر، هل يعني ذلك أن الاقتصاد الإسرائيلي، ومن خلفه الولايات المتحدة، مستفيد من هذه الحرب، أم أن فعل المقاومة يؤثر على اقتصاد الحرب؟

 – يتكاثر الهدر أو يتضاءل بمدى قوة العمل في الصراع الطبقي أو بمدى ما تكوّن الطبقة العاملة عندما تتبنى الفكر الثوري فاعلاً تاريخياً، فالطبقة العاملة من دون فكر ثوري ليست بروليتاريا وهي في هذه الحالة اللا – ثورية تعيد إنتاج رأس المال لأنها شكل من أشكاله، كالسلعة أو النقد تماماً، إلا أنها تتميز كذلك بالوعي الوجودي الذي إذا ما تآكل ظرفها المادي إلى حالة تنهش فيها الكثير من نفسها فهي بالطبع ستثور، آخذين في الحسبان اللا – يقين التاريخي المرتبط بالظروف المتضافرة التي تحدّد توقيت العتبة . فالحرب والإبادة منتجان مستهلكان للتراكم بالهدر الذي تنحدر منه فئة العسكرة أو التراكم بالعسكرة، والتي هي بالتالي دائرة تراكم قائمة بذاتها والمنصة التي ينطلق منها التراكم ككل . والعسكرة بالذات، هي الحالة الأفضل لرأس المال، لأنها منتج مستهلك فوراً يدفع ثمنه المجتمع قسراً، أي إنها كعرض أو إنتاج تخلق طلبها وليست كباقي السلع التي يترتب طلبها على دخل المجتمعات . في الحرب، تدفع المجتمعات كل ما لديها بما في ذلك حيواتها .

فإذاً، الحرب في غزة أولوية لرأس المال لأنها تنتج الموت وتضعف العمل الكوني إذا ما انتصرت بها الرأسمالية . وهذه النقطة الأخيرة هي المحك، فبانتصار المقاومة وبإظهارها مثالاً على قدرات حرب الشعب هي تسقط الغموض الذي يلف الإمبريالية وأداتها الرئيسية في العالم : الصهيونية . فكما ذكرت، رأس المال مالي بالأساس، أي ريعي، وهذه الطبقة هي من نسيج واحد، إذا ما ضعفت في مكان ما، ارتد عليها الضعف أينما كانت وانحسر الهدر . وتأتي هذه الانتصارات مع صعود الصين والانتصارات الروسية وغيرها من دول المقاومة التي تخلخل ميزان القوى الدولي، أي تخلخل الكل الناظم عبر الوهن الذي يصيب منظومة الأعراف والمؤسسات الدولية . وهذا الخلل سينساب تباعاً على الحالات الخاصة الوطنية التي ستتحرك لتغيير قواعد اللعبة، ويشعل بدوره الطاقات من جراء تطور الأيديولوجيا من استكانية إلى ثورية .

ما دور الديموقراطية الاجتماعية، والماركسية الغربية، وموقعهما في حالة الهدر الكوني؟

اليسار الغربي، ممثلاً بالديموقراطية الاجتماعية، هو حربة الرأسمالية في المركز من أجل إعادة التوازن في علاقة رأس المال . بما أن الريع الإمبريالي هو السند لعملية إعادة الإنتاج في المركز، تصبح المطالبة بزيادة الأجور في المركز عملية تقاسم للريع الإمبريالي، إذ تشكّل الطبقة العاملة في المركز جيش الإمبريالية .

جيوش الديموقراطية مسؤولة عن أكبر المجازر في العالم الثالث، وللتذكير مثلاً كان فرنسوا ميتران هو جلاد الجزائر وأول من وقّع على إعدام المجاهدين .

في مقاربة آرغيري إيمانويل لصعوبة الثورة الكونية، يشير إلى أن المشكلة تقع في رأس المال ببعده المنظم، حيث يدرك أن عليه أن يخمد نيران الثورة الكونية بإرضاء فئات على حساب فئات أخرى، لأن الأولوية لرأس المال ليست الاقتصاد إنما السياسة وعلاقات القوى . الاقتصاد محدد في اللحظة الأخيرة، ما يعني أن رأس المال يثبت نفسه أولاً كعلاقة قوى تنظم عملية الإنتاج الاجتماعي بقدراته الفعلية أو العسكرية، ثم الأيديولوجية، وبعد ذلك يجني الريوع على المدى الطويل .

العالمثالثية، كمفهوم، هي بالذات أولوية السياسة هذه، ثم فهم المنظومة الغربية بما فيها من طبقة عاملة، كتشكيلة إمبريالية تفقد فيها الطبقات العاملة الغربية أفق الثورة لأنها تحدد مسبقاً بالريع الإمبريالي وتعيد إنتاج نفسها بتحديد هذا الريع بعملية استغلال هدري في المحيط .

 والوعي المترتب على هكذا دورة اجتماعية في المركز، أي النابع من إعادة إنتاج الذات بالحروب الإمبريالية، هو وعي مذخر بثقافة أورومركزية تُستقى منها النظريات، حتى إن نظرية الماركسية الغربية لا تقدر أن تثقب هذا الوعاء الثقافي بسهولة . حتى ماركس أشار إلى ذلك حينما قارب أنماط الإنتاج الآسيوية . فالماركسية الغربية تعيق التطور الثوري ليس لأنها متمركزة في الشمال وتتواصل مع ظروف مادية \ إمبريالية في الشمال فقط، هي مرهونة في تطورها إلى ثقل فائض القيمة التاريخي وأدواته المؤسساتية الغربية التي تعي أن حرب الفكر هي الحرب الأولى في الصراع الطبقي، إذ تمارس شتى أنواع التملّق والضغط على الماركسيين الغربيين ليبتعدوا عن مفهوم الإمبريالية .

وهناك أدبيات عدة تجدول المؤسسات الماركسية الغربية التي تموّل من أجهزة أمن غربية .

وتبعاً لما سبق، تصبح تشكيلات الغرب كلها مجمعات صناعية عسكرية، فكل ما فيها، حتى الإنفاق الاجتماعي، عسكرة . وهذا الاستنتاج ليس مبنياً على رؤية تجريبية إمبريقية تقيس مفاعلات رأس المال بزمنه وحساباته، فتلك جزء من صنميّات رأس المال، إنما ترتكز على منطق السببية التاريخية حيث السند التاريخي والعقلاني، أي قانون الاستغلال الهدري، يشكل حجر الأساس في التراكم الدولي .

دور الماركسية الغربية التاريخية حينها يصبح دورَ مجهضٍ للفكر الثوري، مدسوسٍ بسمّ الليبرالية، معدٍ للأحزاب الثورية بالعالم الثالث، متماهياً معها بمقدار ما يذيب الفوارق بين الطبقات العاملة في الجنوب والشمال . وهذه، كما ذكرت، ليست فوارق أجور أو مستوى حياة، إنها فوارق حدّية، حيث تنتمي طبقات الشمال إلى رأس المال كجزء منه، أي إنها ليست شكلاً لرأس المال ذا أفق ثوري، لأنها تعتاش على هدر الجنوب .

فليست الصهيونية وحدها التي تحمل الفكر الاستيطاني، إنما الشمال يتقمص الفكر الاستيطاني كطريقة حياة . وهذه التشكيلات الاستيطانية لا تتحلّل بفعل ثوارها من الداخل، مثلها مثل الكيان الصهيوني، لا تفكك إلا بإخلال موازين القوى ضدها .

وعليه، فإن العمل الثوري في الشمال يُؤتي ثماره عندما تضع قوى ثورية في الشمال نصب أعينها مقارعة الإمبريالية ذات النسيج الطبقي الواحد . وهذه طبعاً نادرة وقليلة التأثير كما في الكيان الصهيوني .

وقبل أن أنهي الإجابة، أذكر أن المطالبة بأجور عالية في الشمال لا تؤذي رأس المال، لأنها مرتبطة بمجال التداول ولا ترقى إلى طلب المساواة في ظروف الإنتاج بين الشمال والجنوب .

ملحمة اطوفان الأقصىب وارتداداتها الصراع الثقافي، مثلما أعادت الاعتبار للقراءة البنيوية لقضايا التحرّر والتنمية في خضم الإبادة . إلا أن هذه القراءة، ونظرية التبعية في القلب منها، ستعود لاحقاً لتواجه النقد الذي دائماً ما ووجهت به والذي يرميها بإغفالها مسؤولية البنى المحلية وتبرير الاستبداد والتخلّف .

 – ثنائية الاستبداد الناتج عن البنى المحلية وذلك الناتج عن البنى الخارجية ثنائية مغلوطة . أساساً، في ظل الترابط الكوني، كل الثنائيات المتسنبطة من عملية التحول التاريخي مغلوطة ما عدا الثنائيات الشكلية أو العقلانية، فتلك لها كينونة منطقية وهي لا تتطابق مع مجريات التاريخ . محاولة تطبيق ثنائية شكلية على واقع متحول ومترابط ربما تستعمل لتوضيح الصورة التي يجب تفسيرها، لكنها هزيلة عندما تنافي وحدة العقلاني والتاريخي .

وثنائية الداخل والخارج لا تمت بصلة للبنيان الطبقي، أي لبنيان الطبقة حيث هي على المستوى الأنطولوجي العلاقات مع الطبيعة الاجتماعية لإعادة إنتاج الذات . فالفلاحون، مثلاً، يتعاملون مع الأرض ومع أصحاب الأرض لغرض إنتاج حيواتهم، وبهذا يتعاملون مع علاقات إنتاج موروثة تاريخياً لإبقائهم على قيد الحياة، ويمثلون بهذا الشريحة الفلاحية المشتقة فئوياً من الطبقة العاملة ككل . وكذا ريعيو الداخل والخارج الذين يأتون على الثراء المنتج من أجل الربحية .

ريعيو الداخل، كما الخارج، محددة مساراتهم بتحولات سوق النقد الدولية، وهم اصطفاف طبقي واحد متراتب حسب موازين القوى بين الشمال والجنوب .

لكن إسقاط ما هو منطقي \ شكلي، كالمعادلات الحسابية، على ما هو تاريخي، يمثّل المنهج الرئيسي في التفكير الذي يفرضه رأس المال كي يغيّب الكينونة الاجتماعية عن كينونة الوعي . المجتمع يعيش جدلاً سلبياً وتسوء حالته مع الزمن، ولكنه منغمس في طريقة تفكير شكلية ووهمية في آن، يُسقط فيها معادلات أوجدها رأس المال كي يحصر البدائل في ما يخدم مصالحه .

كذا للزمن، فرأس المال يُسقط الزمن الكرونولوجي الذي يريد به تخفيض العمل الاجتماعي الضروري على الزمن الحقيقي، أي الزمن الذي يعيشه المجتمع بالشقاء . زمن رأس المال المجرد الذي يتحول إلى أرباح يفرض نوعية الزمن الملموس . المضاربة، مثلاً، توجب معدلات استغلال أكثر فيعيش المجتمع المنتج أقل وأقل بالنسبة إلى ما هو متوافر من إمكانات تمديد متوسط العمر . لذا، فالزمن المجرد، الناتج عن مداولات السوق بالقيمة المجردة، أي النقد، يملي على المجتمع زمناً اجتماعياً ملموساً يتقهقر به . فالإمبريالية، كحقبة تاريخية، تكثّف فيها علاقة رأس المال إذ النقد يملي الاستغلال، هي كذلك إفراط لهيمنة رأس المال ليس فقط على المكان بل والزمان أيضاً .

تلقين الجماهير يبنى على المنطق الشكلي بدلاً من الجدلي التاريخي، وبذا يتوج انتصار رأس المال الأيديولوجي .

بعد هذا التفصيل الموجز : ماذا تعني كلمة استبداد آسيوي مقارنة بديموقراطية غربية ليبرالية؟ ألم يكن الفكر السائد هو فكر الطبقة الحاكمة في الشمال؟ الكوكب، ببشره وطبيعته، في دمار، ومقبل على دمار أكبر . هُدِرَ الكوكب . الديموقراطية الغربية ليست إلا نمطاً من سبل ممارسة السلطة، تتآزر فيها كل طبقات الشمال لتعيد إنتاج ذاتها بدمار الجنوب، وعلى شكل تصاعدي، لأن أزمة رأس المال تفرض استغلالاً أعلى وفائض منتج من العمل الحي، أي من تقصير حيوات المجتمع ارتباطاً بظروف تطور قوى الإنتاج .

وللملاحظة، الزمن نوعي ولا يمكن مقارنة نوعين مختلفين بين اليوم والماضي الغابر . ونظراً إلى هذا، فإن الفاعل، أو الذات التاريخية، هي الطبقة المالية الدولية المتمركزة في الشمال، التي تنهب الثراء، أي القيمة المراكمة، من حيوات مجتمع الجنوب .

 العمل الحي هو وحده الذي يصنع فائض القيمة، وبما أن المجتمع الجنوبي، ككل، يعمل، وساعات عمله هي دورة حياته، الانتقاص من حياته يصبح، تبعاً، المكوّن لفائض القيمة . وهدر الحياة بذاته مسلَّع عندما يُسلِّع رأس المال الموت . ويأتي هدر البيئة ليكوِّن عملاً ميتاً، أو تصبح الطبيعة المريضة ماكينة، تقصّر الأعمار وترفد عملية الاستغلال . يصبح الهدر والطلب على الهدر، الذي يجبَر المجتمع على استهلاكه، الدائرة الأولى للتراكم .

الرأسمالية حالة كونية واحدة، أشدّها استبداداً هي طبقة واحدة في الشمال مع أذيالها في الجنوب . ليس هناك رأسمالية ناجحة في الشمال ورأسمالية راسبة في الجنوب كما يشاع . الكوكب كله مليء بالهدر المسلَّع وعلى قاب قوسين أو أدنى من آفات كبرى . نجاح الرأسمالية منوط بالإبادات المباشرة للطبيعة الاجتماعية، أي وحدة البيئة والمجتمع، وفاعلها التاريخي هو الشمال الذي يعيد إنتاج أيديولوجيته بممارسة الحرب على الإنسان، إذ الهزيمة، أو احتمال الهزيمة، بتفوقه العسكري، ينشّط أفكاره التي تستدخلها المجتمعات بفرط القوّة.


تضامنا مع جريدة «الأخبار»، صوت اليسار العربي والمقاومة اللبنانية، التي تتعرض الى هجمات الكترونية صهيونية، نبادر في موقع «انحياز» الى إعادة نشر بعض مقالات الجريدة الى أن يعود موقعها الى العمل.

مقالات ذات صلة

  •  عن الحلم والكابوس زمن الحرب

    من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على…

    بلا حياد

    blank
  • تضامنا مع الزميل المناضل غسّان بن خليفة

    يمثل يوم الجمعة 25 أكتوبر المناضل والصحفي غسان بن خليفة، رئيس تحرير موقع انحياز، مرة أخرى أمام المحكمة الابتدائية بتونس،…

    الأخبار

    blank
  • نقابة الصحفيين تدين ملاحقة الصحفيين وتدعو هيئة الانتخابات لاحترام حرية الصحافة

    دعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين اليوم الاربعاء في بيان لها هيئة الانتخابات إلى احترام حرية الصحافة وإيقاف جميع الملاحقات القانونية…

    الأخبار

    blank
  • إلى الحالمين بالعودة للعام 1982: أرضنا ليست للاحتلال… وليست للعُملاء!

    تضامنا مع جريدة «الأخبار»، صوت اليسار العربي والمقاومة اللبنانية، التي تتعرض الى هجمات الكترونية صهيونية، نبادر في موقع «انحياز» الى…

    بلا حياد

    blank