مثلت سنوات الثورة وما بعدها مناسبة للخيال الدرامي والإعلامي أن يبدع في تصوير “المشاكل” الاجتماعية وإسقاط الكاميرات على عائلات وحتى جهات بأكملها تعيش حالات من الهشاشة الاجتماعية
تفكيك الدولة والتطبيع مع الحياة الهشة: المالثوسية الاقتصادية على أرض الواقع (1986-2010)
رابط الجزء 2: الأسس النظرية للإصلاح الهيكلي
مثلت سنوات الثورة وما بعدها مناسبة للخيال الدرامي والإعلامي أن يبدع في تصوير “المشاكل” الاجتماعية وإسقاط الكاميرات على عائلات وحتى جهات بأكملها تعيش حالات من الهشاشة الاجتماعية. جميع تلك البرامج الإعلامية تقريبا تكون فرصة لتحريك “المدّ التضامني” والإعانات والتبرعات. لتتمكّن تلك العائلة من مسكن، أو ذلك الطفل من كرسي متحرّك أو تلك الفتاة من إجراء عملية تقدّر بما يساوي مدخول سنة لعائلة من “الطبقة الوسطى”. ونرا أحيانا أبا مريضا وأطفالا ينقطعون عن الدراسة لإعالة العائلة وكأن السكن اللائق أو الرعاية الصحية مرتبط أساسا بالموقع الاجتماعي وليس حقّا إنسانيا. كأنّنا نسينا إمكانية أن يكون للدولة دور في هذه المسألة. هنا نتحدّث عن الدولة لا في شكلها الذي تتمظهر به إلا عن طريق البوليس، بل كمحققة لحدّ أدنى من الأمان لدى الناس ضدّ ضربات الحياة وكذلك كضامنة لدوران حركة اقتصادية لا تترك أحدا على الهامش مثلما هو الحال اليوم.
يقولون: نحن دولة فقيرة. سنقول في هذه الأسطر: لا يوجد دول فقيرة. هناك دول تمّ تفقيرها عبر تفكيكها وتقليص مجالها الحيوي ومنعها من أن يتناسب حجمها مع حجم المجتمع الذي من المفروض أن تؤمّن له التغطية ويتناسب نموّ حجم الدولة مع نموّ حجم المجتمع. يقول البعض عن حسن نيّة أو تجنبا لتحمّل مسؤولية استخلاص العبر من توصيف يمكن أن يمسّ من مصالحه: إنه الفساد! سنقول أن الفساد ماهو إلا فقاعات الماء تحت نار سياسات تقليص الطلب التي سمّيت زيفا بـ “الإصلاحات”. سنغوص إذا في تفصيلات تلك الإصلاحات لا فقط من جانب تحجيمها للخدمات العمومية، لكن كذلك من زاوية تأثيرها على بنية الاقتصاد وإمكانيات تطوره. ثم سنغوص في نتائج تلك السياسات على حياة الناس من هشاشة أمام ضربات الحياة ومن تقليص لإمكانيات العيش الكريم: لا حماية ضد المرض، لا حماية ضد قطع مورد الرزق، دفع للعمل الهش في ما سُمّي بـ “القطاع الموازي” ودفع للهجرة القانونية وغير القانونية بحثا عن استثمار الكفاءة أو المعرفة أو الجسد مقابل مدخول يحقق الحد الأدنى.
1– الإصلاحات أو الإسم المنمق لسياسات تقليص الطلب
مثلما نصّ على ذلك المثال النظري لبرامج الإصلاح الهيكلي، فإنّ المبدأ الأساسي للإصلاحات هو تقليص الطلب1
. ويتمثّل تقليص الطلب عمليا في تقليص القروض المسداة للإقتصاد، دولة ومؤسسات اقتصادية وأفرادا لتقليص تطوّر الكتلة النقدية. وتطوّر الكتلة النقدية يأتي من مصدرين اثنين: الأوّل هو دخول العملة الصعبة (في شكل قروض خارجية أو استثمارات أجنبية أو مداخيل سياحية وغيرها) وتحويلهم إلى دينارات والثاني والأهمّ هو القروض التي تسديها البنوك المحلية للاقتصاد بصفة عامة. وبما أن الإشكال الأساسي الذي فتح الباب لتدخل صندوق النقد الدولي كان اختلال ميزان الدفوعات ونفاذ مخزون العملة الصعبة، فإن السيطرة على تطور الكتلة النقدية يمرّ حتما عبر كبح جماح تطوّر القروض الداخلية. ويؤكّد صندوق النقد الدولي هذا المبدأ في [KhKn] أين يوضح محسن خان ومالكوم نايت – الاقتصاديان بقسم البحوث في صندوق النقد في 1981- بالاعتماد على المثال النظري أن كلّ ترفيع بـ 10% من الكتلة النقدية عبر الإقراض المحلّي يؤدّي على المدى المتوسّط للتقليص في مخزون العملة الصعبة بـ 30% 2
. وتنقسم القروض الداخلية إلى قسمين: القروض المسداة للدولة وما سنسمّيه القروض المسداة إلى الخواص (أي لبقية المتدخلين من مؤسسات اقتصادية وأفراد).
أ- التقشف والسيطرة على عجز الميزانية من أجل تقليص القروض المسداة إلى الدولة:
تنقسم مصاريف ميزانية الدولة إلى قسمين: قسم مصاريف التسيير وقسم مصاريف التجهيز أو ما اصطلح بتسميته خلال السنوات الأخيرة بميزانية الاستثمار. تتشكل مصاريف التجهيز من مصاريف الاستثمارات المباشرة للدولة والقروض التي تسديها للمؤسسات العمومية ومصاريف الصناديق الخاصة وخلاص أصل الدين العمومي. أما ميزانية التسيير فهي ميزانية اشتغال جهاز الدولة من أجور ومصاريف المصالح والدعم وخلاص فوائد القروض. يتمّ تمويل ميزانية التسيير عبر المداخيل الاعتيادية للدولة من ضرائب مباشرة وغير مباشرة تشكل المداخيل الضريبية ومن مداخيل غير ضريبية متمثلة في الهبات ومداخل مساهمات الدولة والمؤسسات العمومية ومداخيل الخوصصة3
. ما يبقى من مداخيل الدولة الإعتيادية يسمّى “إدخار الميزانية” ويذهب في خانة ميزانية التجهيز. لكن ميزانية التجهيز لا تكتفي بذلك الإدّخار بل تلتجئ كذلك للاقتراض الداخلي والخارجي لتتمكّن من إنجاز استثماراتها. فمثلا من 1976 إلى سنة 1986 مثل التداين العمومي الصافي (=الإقتراض-خلاص أصل الدين) نسبة 22,6% من ميزانية الاستثمار.
إذا فإن حجم التداين يعبّر عن مدى رغبة الدولة في الاستثمار وسنرى لاحقا أن التداين ليس شيئا جيّدا أو سيّئا في ذاته، لكنه ضروري بالنسبة لكلّ دولة تريد تطوير الخدمات العمومية أو قدرتها على التدخل ولم لا توجيه جهاز الإنتاج الوطني نحو قطاعات بعينها. وسنرى كذلك ضرورة التمييز بين التداين الداخلي والتداين الخارجي للاختلاف الكبير في خصوصيات كل منهما. إلاّ أن صندوق النقد لا يرى ذلك في مثاله النظري، واعتماده على النظرة النيوكلاسيكية للاقتصاد يجعله يرى أن المورد الأول للاستثمار هو الادخار، ويلخّص هذا التمشي في اعتماد مؤشر واحد: السيطرة على العجز في الميزانية، لأن العجز هو الذي يقيس مصاريف الدولة الزائدة عن مواردها الذاتية.
إذا، في خضم أزمة أواسط الثمانينات، وجدت الدولة نفسها أمام شح الموارد الخارجية. وفي نفس الوقت باسم السيطرة على العجز في الميزانية، ذهبت الدولة في منحى الاستغناء عن الاقتراض الداخلي. يظهر هذا في التطور السنوي لقائم الدين العمومي الداخلي4
، بين 1983 و1989، فبينما كان تطوّر قائم الدين الداخلي بمعدّل 15,3% سنويّا بين 1983 و1986، فإنه تراجع نسق تطوّره إلى معدّل سنويّ يقدّر بـ 5,5% بين 1986 و1989.
أدّى هذا التراجع في الاقتراض الخارجي (بسبب الأزمة العالمية التي ارتدّت على بلدان الجنوب) والاقتراض الداخلي (بسبب إملاءات صندوق النقد الدولي) إلى تراجع في ميزانية التجهيز من 790 مليون دينار إلى ما أقل من 700 مليون دينار خلال الثلاثة سنوات الموالية ولم تعد ميزانية التجهيز إلى ذلك المستوى إلا سنة 1991 حيث بلغت 805 مليون دينار. أما بالأسعار القارة فإن ميزانية التجهيز لم تعد إلى مستواها الذي بلغته في 1985 (2344 مليون دينار بأسعار 2010) إلاّ سنة 1997 (2422 مليون دينار بأسعار 2010). أي بجرّة قلم فقدت الدولة التونسية إثنا عشرة سنة على الأقل في تطوّر ميزانية التجهيز، هذا دون أن ننسى تطوّر عدد السكان وحاجياتهم خلال كل تلك السنين.
كما أدّى تمشي الاستغناء عن التداين للمساهمة في تمويل ميزانية التجهيز إلى التعويل أكثر فأكثر على ادّخار الميزانية وسيكون ذلك إذا على حساب الموارد المخصصة لميزانية التسيير. وبما أن شح موارد الاقتراض بدأ من سنة 1984 فإن آثار ذلك على ميزانية الدولة يبرز من تلك السنة. فبينما كان تطوّر ميزانية التسيير يبلغ معدّل 22% سنويّا بين 1974 و1984، فقد نزلت نسبة تطوّر هاته الميزانية إلى 10% بين 1984 و1988 5
. ويبرز ذلك بصفة أوضح في تطوّر ميزانيات الوزارات “الكبرى”. فبين 1974 و1984 كان المعدّل السنوي لتطوّر ميزانية وزارة التربية يقدر بـ 16,5% ووزارة الصحة بـ 20,4% وسقطت هاتان النسبتان بين 84 و88 إلى 9,2% للتربية و6,8% للصحة. إلاّ أن ما يمكن أن نلاحظه أن هناك وزارة بعينها لم يشملها هذا الضغط على الميزانية وهي وزارة الداخلية. فقد واصل تطوّر ميزانية وزارة الداخلية نسقه العادي بل ارتفع قليلا. فقد كان معدّل نسب تطور ميزانية الداخلية يبلغ 18,7% بين 74 و84 أمّا بين 84 و88 فقد زاد ارتفاعه إلى معدّل سنوي بـ 19,5% مع تطوّر خارق للعادة من سنة 1986 إلى سنة 1987 يقدّر بـ 62,9% وكأن لسان حال الدولة التونسية يقول: لم يعد هناك مجال لأن أكون دولة تحقق الأمان، أي أمان المواطنين أمام ضربات الحياة من بطالة ومرض وغيرهما، لكن سأتحوّل إلى دولة يرتع فيها البوليس ليكون هو المحقق للأمن والأمان، لكنه أمان من نوع آخر: أمن وأمان الحاكمين من شرّ انتفاض ضحايا سياساتهم.
أخيرا وكنتيجة مباشرة لعملية الضغط على ميزانية التسيير، فقد تدهورت نسبة الانتدابات في الوظيفة العمومية انطلاقا من سنة 1985. فبينما كانت نسبة تطوّر عدد الموظفين العموميين تبلغ معدّل 5% في العشرية الممتدة من 1975 إلى 1985، فإنّها نزلت إلى 1,8% في سنوات الثلاث الموالية.
في نفس الوقت، وفي إطار تحرير الاقتصاد و”التشجيع على التصدير” تمّ التقليص في الحواجز الديوانية وإلغاء الضرائب الفلاحية6
، تقلّص “الضغط الجبائي”7
انطلاقا من 1987 من نسبة 23% إلى 20%. إذا فرض برنامج الإصلاح الهيكلي إعادة تشكيل لهيكلة ميزانية الدولة. الاستغناء عن اللجوء إلى التداين لتمويل ميزانية التجهيز وسنرى كذلك لاحقا ما أدّى إليه “الإصلاح الجبائي” لمزيد تجفيف موارد الدولة الإعتيادية. في نفس الوقت الذي فرض فيه الضغط على المصاريف أدّت من ناحية إلى كبح نسق تطور ميزانية التسيير لكن في نفس الوقت تحجيم لميزانية التجهيز/الاستثمار: من 1985 إلى 1987، نزل حجم ميزانية التجهيز مقارنة بميزانية التسيير من 71% إلى 45% وكانت فاتحة إلى تحوّل دائم في هيكلة ميزانية الدولة (أنظر الرسم البياني أدناه). وهذه إجابة لبكائيات من يشتكي أنّ ميزانية الدولة “ماشية في الشهاري”: إن الإصلاح الهيكلي هو الذي أراد ذلك! فانخفاض حجم الاستثمار مقارنة بميزانية التسيير لم يكن أبدا سببه تضخم الأجور أو كثرة نفقات الدعم، ولم تُضحّ الدولة يوما بالاستثمار من أجل الأجور بل العكس هو الصحيح: فقد ضغطت الدولة على مصاريف التسيير (ومنها مصاريف الصيانة) لكي توفّر بعض الفتاة لصالح ميزانية الاستثمار. فلا تعجبوا إن رأيتم مصعدا معطّبا أو تجهيزات بالية… إنها الإصلاحات!
ب- التقليص في القروض المسداة للإقتصاد وتعطيل الاستثمار
إن كان الجانب المتعلّق بالدولة معروفا نوعا ما ويسوّق له بصفة عامة تحت مسمّيات أخلاقويّة مثل ترشيد نفقات الدولة، فإنّ الجانب المتعلّق بتقليص حجم القروض المسداة للإقتصاد يتمّ التغاضي عنه. هذه القروض هي التي يسديها القطاع البنكي (من بنوك تجارية وبنوك استثمار) لكافة المتدخلين في الدورة الاقتصادية من دولة ومؤسسات خاصة وعمومية وأفراد ويتمّ قياسه بتطوّر قائم القروض المسداة للاقتصاد. من أبرز مخلفات تقليص حجم القروض المسداة للإقتصاد هو النقص في الاستثمار. إلا أن أصل الداء هذا في تراجع الاستثمار يتمّ التغاضي عنه ويتمّ التسويق له بعجز الدولة عن توفير “مناخ ملائم للإستثمار” وهو ما من شأنه مزيد فتح الباب لابتزاز الدولة عبر جملة قوانين الاستثمار والتسهيلات الجبائية المصاحبة وآليات التشغيل الهش التي ستزدهر في فترة الإصلاحات. ويمكن أن نلاحظ تقلّص نموّ القروض المسداة إلى الاقتصاد وخاصّة منه للمؤسسات والأفراد عبر متابعة هاته النسبة من أواسط السبعينات: فمن تطوّر يقدّرمعدله السنويّ بـ 19% من 1975 إلى 1985، سقط هذا النموّ إلى معدّل سنويّ بـ 9% بين 1985 و1989 تحت تأثير الإجراءات التي فرضها الصندوق على السلطة المالية الممثلة في البنك المركزي.
من ناحية أخرى ومنذ سنة 1986، بدأ البنك المركزي بفرض إجراءات تذهب في منحى تشجيع التصدير تحت مسمّى النشاطات ذات الأولوية8
بفرض نسبة دنيا من القروض تقدّر بـ 10% من ودائع البنوك. هذه النشاطات الأولوية هي أساسا الفلاحة والمؤسسات الصغرى والمتوسّطة والنشاطات التصديرية (وأساسا النشاطات السياحية). وقام البنك المركزي بتحرير نسبة الفائدة التي تمارسها البنوك – ما عدا فيما يخص “النشاطات ذات الأولوية” – وهو ما يؤدّي عمليا إلى ارتفاع تلك النسب. من ناحية أخرى فرض البنك المركزي تخفيضا في سقف إعادة تمويل البنوك لدى البنك المركزي9
من 15% إلى 13,5% وأعاد فرض نسبة 2% للاحتياطي الإجباري (réserves obligatoires) سنة 1989 10
. إذا هما نوعان من الإجراءات: إجراءات لتقليص تطور القروض وفي نفس الوقت تشجيع ما تبقّى من إمكانيات الإقراض إلى قطاعات توفّر العملة الصعبة.
كان لهذه الإجراءات نتائج مباشرة على الاستثمار وهو الذي بدوره تأثر بتقلّص الاستثمار الأجنبي نظرا للأزمة العالمية، حيث توقّف نسق تطور الاستثمار سنة 1982 متأثّرا ببداية تراجع المكوّن الأجنبي ليبدأ بالنزول انطلاقا من 1984 ولن يسترجع نفس المستوى بالأسعار القارة (لسنة 2010) إلا سنة 1992. أما الاستثمار الداخلي فلن يسترجع بصفة دائمة مستواه الذي بلغه في 1984 إلا سنة 1996. وما يلاحظ هنا أن بداية الضغط على الطلب الداخلي بدأت من قبل حتى استفحال الأزمة حيث أن التفكير الاقتصادي وقتها في ما يخص المالية العمومية كان يعيش تحت هيمنة خطاب مؤسسات التمويل الدولية وأساسا صندوق النقد الدولي. ومن المرجح أيضا أن السلطات التونسية بدأت تعاين تدخل الصندوق في بلدان إفريقيا وانطلقت في بعض الإجراءات علّها تقدر على إثبات حسن سيرتها حين بلوغ الأزمة.
جملة من التسهيلات الجبائية عبر بعث جملة من مجلّات الاستثمار: مجلة الاستثمارات الصناعية في أوت 1987 ومجلة الاستثمارات الفلاحية في أفريل 1988 ومجلة الاستثمارات في قطاع الخدمات في نوفمبر 1989 ومجلة الاستثمارات السياحية في مارس 1990. وكانت من أهم “الإصلاحات الجبائية” مجلّة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات” بمقتضى القانون عدد 114 لسنة 1989 حيث تمّ ضرب مبدأ التصاعدية في الضريبة على الأشخاص وتمّ تقليص عدد الشرائح المعنية بالضريبة على الدخل من 17 شريحة إلى خمسة شرائح ويتمّ التخفيض في نسبة الضريبة الهامشية للشريحة العليا من 68% إلى 35%… كلّ هذا من أجل توفير “الإدّخار” اللازم للاستثمارات. فبالنسبة للنظرة الليبرالية النيوكلاسيكية للإقتصاد، الادّخار يسبق الاستثمار11
وفي منظومتها الفكرية يتشكّل الادّخار عبر الودائع. وبما أنّ أصحاب المداخيل الدنيا والمتوسّطة لهم نزعة أكبر للاستهلاك بدل الادّخار على عكس أصحاب المداخيل العليا التي لها نزعة أكبر لادّخار مداخيلهم الإضافية، فإنّ أصحاب القرار يخفّضون الضرائب على أصحاب المداخيل العليا ويعوّضون ذلك بالترفيع في الضرائب الغير المباشرة التي تساهم في نفس الوقت في تقليص الطلب عبر كبح الاستهلاك. اللاعدالة الجبائية مكوّن أساسي في سياسة “الإصلاحات”…
الإصلاحات هي إذا تجفيف للموارد الداخلية، لا فقط بالنسبة للدولة، بل أيضا لمجمل المتدخلين في الاقتصاد.
وعلاوة على تأثير هذا على الاستثمار بصفة عامة – من استثمارات رؤوس الأموال الكبرى إلى الاستثمارات الصغيرة – فإن تجفيف الموارد هذا يتسبب آليا في ندرتها. ولا نتفاجأ إذا حين نرى أن أغلب البنوك بين أيدي عدد قليل من العائلات المالكة ولا نستغرب حجم البيروقراطية التي تواجه أصحاب المشاريع الصغرى للحصول على قرض لينطلق في الحياة.
2- التعويل على الإستثمار الخارجي: “أحييني اليوم واقتلني غدوة”
أصدرت الدولة التونسية نهاية سنة 1993 مجلّة التشجيع على الاستثمار12
. هذه المجلّة بُعثت لهدفين إثنين: الهدف الأول وهو الأهم بالنسبة لواضعي القانون هو جلب استثمارات بالعملة الأجنبية للمساهمة في تعديل ميزان الدفوعات ودعم المخزون بالعملة الصعبة، والهدف الثاني هو دعم الاستثمار – بصفة عامة – نظرا لتراجع الاستثمار الداخلي بسبب سياسة تقليص الطلب لكن كذلك من أجل أخذ مكان الدولة في القطاعات التي بدأت فيها بالتراجع. فمن ضمن القطاعات المعنية بهذا القانون، نجد في الفصل الأول للمجلّة قطاعات النقل والتربية والتعليم والتكوين المهني والتنشيط الشبابي والعناية بالطفولة والصحة… وكأنها دعوة لقراءة الفاتحة على روح الخدمات الاجتماعية للدولة!
لكن يا خيبة المسعى! لم يغيّر هذا القانون في نسق تدفّق الاستثمارات الأجنبية إلى تونس في شيء. من ناحية لأن أكثر الاستثمارات في تونس هي استثمارات مرتبطة بالصناعات الاستخراجية وهي مرتبطة أساسا بالأسعار العالمية للبترول والموادّ الأولية، ومن ناحية أخرى كانت أكثر “السنوات المضيئة” من ناحية تدفّق الاستثمارات الأجنبية في تونس بعد صدور ذلك القانون مرتبطة بعمليات الخوصصة الكبرى ولم يتمّ تجاوز حجم الاستثمارات الأجنبية الذي حققته تونس في 1993 بصفة دائمة إلاّ انطلاقا من سنة 2001. في 1998 13
ارتبط حجم الاستثمار بعمليات خوصصة معامل الإسمنت بجبل الوسط (241 م.د.) والنفيضة (168 م.د.). سنة 2000 14
ارتبط بخوصصة معمل إسمنت قابس (311 م.د.)، معمل إسمنت جبل الجلود (51 م.د.) وفي مجال الصناعات الكيميائية شركتا CODEPAR وSPCD لشركة هولندية (103 م.د.). في 2002 15
، كان حجم الاستثمار مرتبطا بخوصصة استغلال شركة الاتصالات أوراسكوم التي بعثت شركة تونيزيانا (328 م.د.) وبيع حصص من الاتحاد الدولي للبنوك (UIB) لبنك فرنسي (103 م.د.). في 2005 16
ارتبط بخوصصة جزء من بنك الجنوب (97 م.د.) وشركة SOTACIB العاملة كذلك في مجال الاسمنت (48,5 م.د). في 2006 17
سنجد بطبيعة الحال عملية بيع 35% من إتصالات تونس (2972 م.د.). في 2007 18
، ارتبط حجم الاستثمارات الأجنبية بالاستغلال المشترك لحقل “صدربعل” بين الشركة التونسية للأنشطة البترولية وشركة بريتيش غاز وكانت مساهمة هذه الأخيرة 681 مليون دينار. في 2008 19
، ارتبط حجم الاستثمارات بالصناعات الاستخراجية بمبلغ 1934 م.د. من بينهم 41% مرتبطة بشركة بريتيش غاز في نشاطها في حقلي صدربعل ومشروع “ميسكار”. لكن شهدت سنة 2008 كذلك عديد عمليات الخوصصة في القطاع المالي: 60% من البنك التونسي الكويتي (150م.د.)، 35% من شركة التأمين “ستار” (132 م.د.)، الترفيع في رأس مال الاتحاد الدولي للبنوك (57 م.د.) والترفيع في رأس مال البنك العربي التونسي (32م.د.). لكن شهدت كذلك بيع نزلي “كارطاغو” (131م.د.)… إذا استثمارات أجنبية مباشرة تتلخص في عمليات الخوصصة و التنقيب…
ولنقطع دابر تلك الفكرة التي تقول أنّ الاستثمارات الأجنبية تخلق مواطن الشغل: في تقرير البنك المركزي لسنة 2008، نقرأ في الصفحة 161 أن جملة مواطن الشغل التي خلقتها الاستثمارات الأجنبية حتى سنة 2008 بلغ 17000 موطن شغل… من جملة 3156000 عاملة وعامل بالفكر والساعد… 0,5% من جملة مواطن الشغل… ومن غير الجدي أن نتحدّث عن نقل للتكنولوجيا: فلا مكاننا ضمن التقسيم الدولي للعمل ولا طبيعة تلك الاستثمارات (خوصصات وصناعات استخراجية) تسمح لأن نلحق بأيّ شكل كان في المجال التكنولوجي.
إذا لم يكن لهاته الاستثمارات الأجنبية من فائدة إلا ما يمكن أن تدرّه من عملة صعبة للاقتصاد. لكن ما ننساه أحيانا أن من يستثمر في مكان ما يتوقّع أن تتحوّل تلك الاستثمارات يوما ما إلى أرباح يحوّلها إلى مجاله الحيوي الأصلي. المستثمرون يستثمرون من أجل الأرباح! ما نلاحظه أن الربح الصافي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة إلى تونس بدأ يتقلّص شيئا فشيئا منذ سنة 1994إلى أن وصل إلى رقم سلبيّ سنة 1996 بخروج صافي للعملة الصعبة يقدّر ب33 مليون دينار. حيث بلغ مستوى الاستثمارات الأجنبية المباشرة عامها مبلغ 273 مليون دينار و بلغ في نفس الوقت مبلغ تحويلات أرباح المستثمرين الأجانب مبلغ 306 مليون دينار. وكانت أوّل عملية إنقاذ لهذا الميزان بعمليات الخوصصة. إذ نلاحظ أن كلّ صعود معتبر للربح الصافي للاستثمارات الأجنبية المباشرة كان في سنوات الخوصصات الكبرى والاستثمارات الاستخراجية الكبرى (1998، 2000، 2002، وخصوصا 2006 و2008). فتتحوّل إذا سياسة التعويل على الاستثمارات الأجنبية إلى سياسة بيع للمؤسسات العمومية ومساهمات الدولة في سوق المزادات العالمية.
علاوة على ذلك، فإن بعض الاستثمارات الأجنبية مغشوشة. كمثال على ذلك شركة TAV التركية التي بنت مطار النفيضة، فقد قامت الشركة الأم باستثمار مبلغ 61 مليون دينار سنة 2007 و189 مليون دينار لإنشاء الشركة التونسية التابعة لها TAV-Tunisie. وللقيام بمشروع الإنجاز، قامت الشركة باقتراض مبلغ 122 م.د. من البنك الدولي سنة 2008 20
ومبلغي 131 م.د. من البنك الأوروبي للاستثمار و127 م.د. من البنك الإفريقي للتنمية سنة 2009 21
وحمّلت هذه القروض على عاتق الشركة التونسية التابعة، مساهمة في نفس الوقت في إثقال ميزان دفعات الدولة التونسية. مقابل 250 م.د. للإستثمار، تمّ تثقيل الشركة التابعة بمبلغ 380 م.د. من الديون والتي ستدفع من نشاطاتها على الأراضي التونسية. أمر مشابه حدث مع شركة تونيزيانا حيث أنها بعد الحصول على رخصة الاستغلال في 2002 باستثمار قدره 328 م.د. فإنها التجأت للاقتراض من السوق المالية في 2004 لتحصيل 361 م.د22
.
إذا هذه هي سياسة التعويل على الاستثمارات الأجنبية: سياسة مكلفة على ميزانية الدولة، مكلفة من زاوية التأثير البيئي نظرا لهيمنة الاستثمارات في المجالات الاستخراجية، مكلفة من زاوية العملة الصعبة حيث يتحول إلى عبئ على ميزان الدفوعات على المدى المتوسط، مكلف من زاوية سلب الدولة لما تملك من مؤسسات عمومية ومن مساهمات في مؤسسات رابحة ومكلفة من زاوية التشغيل حيث لا تتناسب قيمة التسهيلات والإعفاءات مع القدرة التشغيلية الضعيفة لهاته الإستثمارات…
3- أين ميزان الدفعات من كلّ هذا؟
قد ننسى أحيانا من أين انطلقنا ولذا وجب التذكير: كلّ هذا انطلق من أزمة المديونية التي عاشتها بلدان الجنوب بداية الثمانينات والتي تجلّت في تونس في نفاذ مخزون العملة الصعبة أواخر سنة 1985 وبداية 1986 بسبب شحّ الموارد الخارجية من قروض للدولة والاقتصاد ونزول للاستثمار المباشر. وتمّ حينها إنقاذ الموقف عبر جملة من القروض التي أسداها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي حتى بداية التسعينات مقابل “الإصلاحات” التي قامت بها الدولة التونسية.
أما مؤشرات المديونية فقد حافظت على توازنها لكن بتحسن متفاوت مقارنة بفترة ما قبل الإصلاحات. فكانت نسبة تغطية الواردات بالصادرات أعلى من 75% تقريبا كل فترة ما بعد 1994 مع ارتفاع نسبي تجاوز 80% بين 2005 و2008. أما نسبة التداين (أي نسبة قائم الدين الخارجي من جملة الناتج الداخلي الخام) فقد بقيت في نسبة أعلى من نسب التداين لما قبل فترة الإصلاح الهيكلي في تراوح بين 47% و53% إلاّ أنها شهدت تحسنا ملحوظا انطلاقا من سنة 2006 حيث نزلت تحت نسبة 40%. لكن لم يكن هذا التحسن مردّه نسبة نمو سريعة أو تحسّن فجئي في هيكلة الاقتصاد أو أي نوع من انواع الإقلاع: كان نتيجة لخلاص مسبق لقروض خارجية باستعمال مبلغ خوصصة 35% من اتصالات تونس، لا غير! فقد تمّ تخصيص مبالغ 341 م.د. في 2006 و429 م.د في 2007 للخلاص المسبق لبعض القروض ذات نسب الفائدة المرتفعة23
. لمن لا يزال يتساءل أين ذهبت أموال اتصالات تونس: ذهبت في ثقب الديون الأسود!
لكن إن دقّقنا النظر، فإننا نلاحظ تغيّرا في هيكلة التدفقات الخارجية. فعلاوة على التطور الملحوظ في الاستثمارات الخارجية حيث صارت الاستثمارات الخارجية بالكاد تغطّي مبالغ تحويلات مرابيح الاستثمارات الأجنبية السابقة في تونس، صار حتى الاقتصاد التونسي – إن نظرنا إليه برمّته – يقترض فقط لتسديد القروض السابقة وذلك من سنة 1986، ولم يشهد ميزان الاقتراض الخارجي حاصلا إيجابيا إلا ستة مرّات والصورة تغني عن كل تعليق حول حجم تسديد الديون الذي حصل طيلة المدة اللاحقة لتدخل الصندوق الدولي. هنا يمكن أن نقف على نقطتين اثنتين: الأولى هي أن الاقتصاد التونسي هو الذي يموّل الخارج لا العكس. فإن أردنا أن نحتسب مبالغ التداين وسداد الديون من 1986 إلى سنة 2010، فقد اقترضنا 41768 مليون دينار وسدّدنا 48631 مليون دينار. أي أننا موّلنا الاقتصاد العالمي بما يقارب 7000 مليون من ديناراتنا. وبما أن الدينار الذي دُفع في 1986 ليس بقيمة الدينار الذي دُفع في 2010، فإن نظرة أقرب للواقع بالنسبة لهذا المبلغ هي التالية: بالدينار القار لسنة 2010، اقترضنا في نفس تلك الفترة ما يعادل 58605 مليون دينار وسدّدنا ما يعادل 68298 مليون دينار. أي أن المبلغ الأقرب للواقع هو أننا “موّلنا “الاقتصاد العالمي” بما يعادل 10 مليارات من دينارات 2010، أي ما يعادل ميزانية التسيير للدولة التونسية لسنة كاملة!
النقطة الثانية التي يجب أن نقف عندها هي استحالة سداد الديون! وهذا أمر معلوم تاريخيا لكن يمكن أن ننساه تحت سيل الحجج الأخلاقوية للببغاوات الإعلامية: لم يوجد في تاريخ الدول الحديثة دولة سددت ديونها! والقولة المعروفة في هذا السياق هو أن الدولة تقوم بلفّ ديونها: تدفع أصل الدين السابق بقرض جديد وتكتفي بخلاص الفوائد، لكن مع نموّ الناتج الداخلي الخام تتضاءل قيمة أصل الدين أمام مداخيل الدولة إلى أن يفقد كلّ تأثيره على الميزانية. ما يخلق أزمات المديونية هي التغير الفجئي لشروط التداين وشحّ السيولة وتغيّر السياق الدولي بطريقة تؤثر بصفة كبيرة على مداخيل الدولة. في هذا السياق، يمكن أن نلاحظ أنّ نسبة النمو العالمية طوال المدة الفاصلة بين 1986 و2010 كانت مستقرة في نسبة محترمة، إلاّ أن الأزمة العالمية في 2008 نزلت بهذه النسبة إلى ما أقل من -1%. في نفس الوقت، التجأت الدولة التونسية إلى الإقتراض من صندوق النقد الدولي مبلغ 496 م.د.24
وكانت أوّل مرة تلجأ فيها الدولة التونسية لصندوق النقد الدولي منذ 1986. أي في أوّل أزمة عالمية أثبت الاقتصاد التونسي الذي رضيت عنه المؤسسات الدولية وقام بكل الإصلاحات المطلوبة أنه غير قادر على المواجهة دون دعم صندوق النقد الدولي!
وكانت تجربة الدولة التونسية مع المديونية الخارجية دليلا حيّا على ذلك. فقد كرّست الدولة كلّ إمكانياتها لخلاص الديون لكن رغم ذلك تواصل نموّ قائم الديون الخارجية للاقتصاد التونسي. فمن 1986 إلى 2000 لم يكن صافي التداين إيجابيا سوى مرّتين و بمقادير ضعيفة، لكن نسبة التداين لم تنزل إلاّ لمستوى 46% من الناتج الداخلي الخام. ولم تنخفض نسبة التداين بصفة ملحوظة إلاّ بعد خوصصة من الحجم الكبير. وهذا التخفيض في نسبة التداين لا يمكن المواصلة فيه إلا في ظل استقرار اقتصادي على المستوى العالمي لمدّة طويلة، وهو ما لم يتمّ تسجيله في أيّ مرحلة من التاريخ الحديث.
وهذه السياسة تُرجمت في تحوّل هيكلة ميزان الدفوعات. فقبل الإصلاح كان التداين مكوّنا أساسيا في تعديل ميزان الدفعات، حيث كانت سياسة الدولة متجهة نحو الاستثمارات الثقيلة التي تنجزها المؤسسات العمومية. ومنذ انطلاق سياسات الإصلاح الهيكلي، نزل مناب المؤسسات (العمومية والخاصة، لكن الجزء الأكبر كان للمؤسسات العمومية) من جملة الإقتراض الخارجي من معدّل يتجاوز 60% ويتجاوز عدة مرات نسبة 70% إلى نسب أقل من 40% ووصل إلى حدّ أدنى يساوي 19% سنة 1996. وما يلاحظ هو عودة صعود تلك النسبة شيئا فشيئا مع سياسة تحرير الاقتصاد وتحرير دخول وخروج العملة الصعبة وفتح المجال للمؤسسات المنتصبة في تونس للاقتراض من الخارج (بنوك، شركات اتصالات…).
وعليه، منذ أن كانت الديون الخارجية والاستثمارات الأجنبية المباشرة تمثل مكوّنا هاما من مجموع مداخيل الاقتصاد التونسي من عملة صعبة قبل “الإصلاح”، فإنه انطلاقا من 1986 تراجع مناب المديونية الخارجية من التدفقات الخارجية كما تراجعت الواردات لتصبح مداخيل السياحة ومداخيل العمل (أي تحويلات العاملات والعاملين بالخارج من عملة صعبة) كافية لتعديل الميزان التجاري وأكثر وتخصص العملة الصعبة المتأتية من القروض الخارجية والاستثمارات الأجنبية إلى خلاص الديون السابقة وتغطية تحويلات مرابيح الاستثمارات الأجنبية في تونس. إن أردنا إذا توصيف الاقتصاد التونسي في علاقة بالخارج، يمكن أن نلخص في كلمات: اقتصاد موجه لخلاص الديون وتغذية المستثمرين. كما أن الحالة التي وصلت إليها البلاد في 2010 لم تكن تبشر بخير: المنحى التصاعدي لتحويلات الاستثمارات الأجنبية صار عبئا لا يمكن مواجهته فقط باستجلاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية، ممّا كان ينبئ من وقتها بالدخول في أزمة متجددة من المديونية الخارجية ستحتّم وجوبا على حكّام لا يحملون مشروعا وطنيّا أن يلجؤوا مرّات و مرّات أخرى لصندوق النقد الدولي، وهو ما بدأ فعلا منذ نهاية سنة 2012.
4– المديونية الداخلية: الإشكال المغلوط والباب لتفكيك الدولة.
بقطع النظر عن منطق “الإصلاح الهيكلي” الذي فُرض على جميع بلدان الجنوب تقريبا، كان بالإمكان أن نفهم الحذر المفرط الذي صارت تتعامل به الدولة التونسية مع المديونية الخارجية نظرا للتجارب السابقة. لكن هناك ضحية سقطت في الحرب على الدين العمومي وهي المديونية الداخلية. فزيادة على كونها أداة بيد الدولة من أجل بعث المشاريع وتوفير الخدمات العمومية والقيام بسياسات لمواجهة التقلبات الدورية (contracycliques) في حالات الركود الاقتصادي، فإنّ إمكانيات السيطرة عليها موجودة عبر التحكم في نسب الفائدة وأو فرض نسبة دنيا من القروض تمنحها البنوك المقيمة للدولة – طالما لن نسقط في فخ “استقلالية البنك المركزي” – وفي أتعس الحالات سيكون بإمكان البنك المركزي – دائما تحت شروط عدم الوقوع في فخ الاستقلالية – أن يغطّي العجز الحاصل مثلما حدث مؤخرا نهاية 2020 ومثلما حدث ذلك سنة 1970 25
. وحتّى من دون ذلك: ننسى أحيانا أن العقل الليبرالي زرع فينا طرق تفكير كليّانية: فعكس التخلّي عن التداين ليس بشرطه التداين المفرط مثلما يفكّر في ذلك العقل الليبرالي! كذلك لن نتحدّث هنا عن الترهيب الإعلامي المتواصل من التضخم عبر المثال الساذج للخبزة التي يتضاعف ثمنها حين تتضاعف الكتلة النقدية: ليس هنا المجال لنجادل من لا يطرح في ذهنه إمكانية أن تنتج المخبزة خبزة ثانية ويحافظ الخبز على ثمنه!
إذا باسم المحافظة على نسبة عجز منخفضة، تجنبت الدولة التونسية اللجوء إلى التداين طيلة الفترة الفاصلة بين 1994 و2010 26
حيث لم يتجاوز مبلغ الاقتراض الداخلي للدولة مبلغ خدمة الدين الداخلي إلا سنة 2003 حيث اقترضت الدولة من السوق الداخلية مبلغ 2082 مليون دينار مقابل تسديد 1725 مليون دينار خدمة للدين الداخلي. أما باقي المدة فقد كان صافي الاقتراض الداخلي دائما سلبيا.
بطبيعة الحال، لم يؤثّر هذا السلوك كثيرا على قائم الدين الداخلي حيث أنه خلال كل تلك السنين لم تنخفض نسبة المديونية الداخلية من الناتج الداخلي الخام إلا بصفة ضئيلة من معدّل 20% إلى قرابة 16%.
لكن الهدف الأساسي من احتواء عجز الميزانية كما رأينا ذلك في الإطار النظري لصندوق النقد الدولي هو التقليص في الطلب الداخلي. وكانت ترجمة هذا على أرض الواقع بتعطيل سياسة الاستثمار العمومية من حيث أن التداين هو من المكونات الأساسية لميزانية التجهيز ممّا أدّى كذلك على الضغط على ميزانية التسيير لتوفير
الحدّ الأدنى من ادّخار الميزانية ممّا ادّى كذلك إلى تقليصها. وشهدت مختلف أبواب ميزانية الدولة ديناميكيات مختلفة لكن ذهبت كلها في الانخفاض. فقد بدأ الانخفاض الحادّ مع ميزانية التجهيز التي كانت في مستوى معدل تطور سنوي بـ 17% ثم انخفضت لمدة أربعة سنوات متتالية بـ 4,33%، ثم عاد معدل نسبة التطور السنوي إلى نسبة 11% حتى سنة 2001 ثم تراجع المعدّل السنوي إلى نسبة 6% ضئيلة في العشرية الأخيرة من حكم بن علي.
الفترة | 1974 -1984 | 1984 -1988 | 1988 -1994 | 1994 -2010 | 1986 -2010 |
معدّل نسبة التطوّر السنوية لميزانية التسيير (%) | 18,37 | 10,94 27 | 10,43 | 8,14 | 9,41 |
معدّل نسبة التطوّر السنوية لميزانية التربية (%) | 16,59 | 9,26 | 12,18 | 9,44 | 9,95 |
معدّل نسبة التطوّر السنوية لميزانية الصحة (%) | 20,46 | 6,88 | 11,31 | 6,75 | 7,93 |
معدّل نسبة التطوّر السنوية لميزانية الداخلية (%) | 18,79 | 19,55 | 12,58 | 6,20 | 9,58 |
من زاوية ميزانية التسيير وميزانيتي وزارة الصحة والوزارة المكلفة بالتربية والتعليم العالي 28
، فقد تقلّص معدّل تطوّرها بصفة حادة انطلاقا من سنة 1984 (لأن خطاب “الإصلاح” وتقليص الطلب انتشر منذ بداية الثمانينات في بلدان الجنوب) لكن لم يشمل هذا الانخفاض وزارة الداخلية، بل بالعكس! ثم استرجعت ميزانيات التسيير نسقا محتشما (لكن أقل بكثير من نسق عشرية ما قبل الإصلاح) لكن هذه الصحوة النسبية لم تدم كثيرا وبداية من سنة 1994 اتخذ معدّل التطور منحى بطيئا، حتى بالنسبة لوزارة الداخلية، وهو ما يمكن أن نقرأه كمؤشر أن النظام اقتنع أن الأمر استتبّ له انطلاقا من سنة 1994. هذا ما يمكن ملاحظته حتى في مستوى تطور عدد العاملات والعاملين في الوظيفة العمومية حيث نزل معدل التطور السنوي إلى 2% بداية من سنة 1995.
إن أردنا قراءة المزيد من خلال هذه الأرقام يمكن أن نستشف أن وزارتي التربية والتعليم العالي ووزارة الداخلية هما المجالان اللذان عاشا الحدّ الأدنى من التطور الذي يسمح لهما بأن يتناسب تطورهما مع تطور المجتمع. وزارة الداخلية للسيطرة على المجتمع ووزارتا التربية والتعليم العالي من الأرجح لرواسب إيديولوجية من النظام البورقيبي الذي بنى جزءا كبيرا من شرعيته على سياسات التربية والقضاء على الأمية و”الاستثمار في الذكاء”، واصلها نظام بن علي تأبيدا لوهم المصعد الاجتماعي وإمكانية الارتقاء عبر النجاح الدراسي. يمكن أن يقول الملاحظ لهاته الأرقام أن الفرق ليس بكبير بين وزارة الصحة (قرابة 8% كمعدل تطور سنوي من 1986 إلى سنة 2010) ووزارة الداخلية (9,5 %). هنا يجب أن نعيد للأرقام معناها: فهذا الفارق السنوي بـ 1,5% على مدة 24 سنة يترجم بتضاعف ميزانية الداخلية 9 مرّات وميزانية الصحة 6,3 مرّات… بلغة أخرى فإن وزارة الصحة تشتغل في 2010 بما يعادل 70% من الحدّ الأدنى (ولم نقل الطاقة العادية) الذي يجب أن تكون عليه وهذا ما سنجده تقريبا في تقرير محكمة المحاسبات حول مستشفى عزيزة عثمانة! بصفة عامة، كان هذا هو مفعول سياسات الإصلاح: تقليم متواصل لكل الأجهزة الاجتماعية للدولة إلى أن تجد نفسها مبتورة بأعضاء بأكملها!
وقد كانت العشرية الأخيرة من حكم بن علي عشرية تمّ فيها تقريبا القضاء على عجز الميزانية عملا بتوصيات خبراء المؤسسات الدولية، فقد عملت الحكومة التونسية على تقليص عجز الميزانية حتى وصل إلى نسبة 0,4% في 2008 ولم يرتفع العجز في السنة الموالية إلاّ بتأثير الأزمة العالمية. هذا الالتزام بتوصيات المؤسسات الدولية باحتواء نسبة العجز تحت نسبة 3% هو الذي ارتدّ على نسب تطوّر الميزانيات التسيير والتجهيز لتتقلص بذلك الشكل في العشرية الأخيرة. لكن هيهات: لم يسجل التاريخ أي أثر لدولة قضت على مديونيتها بفعل الفائض في الميزانية!
من ناحية أخرى أدّت هذه السياسة إلى تعطيل نموّ الوظيفة العمومية. ففي مدة 13 سنة بين 1972 و1985، تطوّرت نسبة الموظفين من إجمالي عدد السكان من 2,44% إلى 3,41% أي ازدادت نسبة الموظفين تقريبا بنقطة في 13 سنة، لكن في 25 سنة بين 1985 و2010، تطورت النسبة من 3,41% إلى 4,18%، أي بـ 0,77 نقطة في 25 سنة وتبقى النسبة التي وصل إليها عدد الموظفين من إجمالي السكان في 2010 (4,18%) ضئيلا جدّا أمام النسب العالمية29
، وحتى أمام أكثر الاقتصادات ليبرالية. فإن نسبة الموظفين من إجمالي السكان في الولايات المتحدة هو 7% وفي المملكة المتحدة 8%. لمن سيمرّ بذهنه الآن أننا نقارن اقتصادنا باقتصادات قوية، نذكره أن تعطيل تطوّر هذه النسبة جاء بسبب أزمة عالمية تسببت فيها تلك الاقتصادات القوية.
سيحتجّ البعض بحجم كتلة الأجور المرتفع مقارنة بالناتج المحلي الخام. هنا يجب أن نفتح قوسا حول من يمارس اليوم ما سمّي بعلم الاقتصاد: الاقتصاد ليس علما صحيحا ويحتمل عديد النظريات في المسألة الواحدة. هو علم يجب أن يصنّف ضمن العلوم الاجتماعية لكنه يستعمل كثيرا أدوات التجريد الرياضي. إلا أن من ينطق اليوم تحت مسمّى “الخبراء الاقتصاديين” لا يفقهون كثيرا العلوم الاجتماعية ولا يتقنون التجريد الرياضي، لذا وجب التذكير: أي نسبة مئوية هي كسر (quotient) يوضع فيه البسط (numérateur) من الأعلى والمقام (dénominateur) من الأسفل. إن وجدنا أن نسبة ما مرتفعة أكثر من اللازم، فيمكن أن يكون الإشكال في ارتفاع البسط أو في انخفاض المقام. ولا يمكن إلاّ أن يكون ساذجا من لا يربط سياسات دولة تعمل على تقليص الطلب من جهة وتأثيرها على تعطيل نسبة النمو من جهة أخرى. علاوة على ذلك، فإن اعتبار الناتج المحلي الخام كمؤشر ذو دلالة مطلقة في ظل وجود حركة اقتصاد مواز ذو حجم كبير لا يمكن إلاّ اعتباره ضربا من الدغمائية.
هذا التراجع في حجم الدولة أمام ما يجب أن يتناسب أمام حجم المجتمع هو فتح لباب الهشاشة. أبسطها مثلا تراجع خدمات النقل في المدن الكبرى يجعل الناس إما عرضة لتعريض النفس للخطر في ما سمي بالتاكسي الجماعي أو عرضة للابتزاز من شركات التاكسي الجديدة. أخطرها هو الابتزاز بالصحة: يسرد تقرير الجمعية التونسية للدفاع عن الحق في الصحة التسلسل الزمني لتدهور خدمات الصحة في [ATDDS] انطلاقا من سنة 1991 تاريخ إصدار القانون 63 لسنة 1991 المتعلّق بالتنظيم الصحي بدعم مالي من البنك الدولي، أو لنقل مقابل قرض من البنك الدولي30
وكان هذا القانون “تعويضا” للتقليص المتزايد في ميزانية الصحة على ما يجب أن تكون عليه. من ضمن الإجراءات التي ينص عليها مثلا إضفاء الاستقلالية المالية للمؤسسات الاستشفائية. تمّ على إثرها الترفيع في تعريفات المستشفيات العمومية ثلاث مرات متتالية بين 1991 و1993 31
، وهي بداية لتحميل المواطنين لجزء كبير من مصاريف الصحة ليصبح الحق في الصحة رهين القدرة الشرائية. كذلك كان هذا القانون فاتحة لتحرير القطاع لرؤوس الأموال، فتضاعف عدد أسرّة القطاع الصحي الخاص خمسة مرات من 1000 سرير إلى 5000 في 2016، تزامنا مع تدهور للخدمات الصحية في القطاع العمومي نظرا لشحّ الموارد ممّا أدّى إلى خوصصة غير مباشرة للصحة حتى لمن لا يريد العلاج عند الخواص: إمّا غياب تام للخدمات أو تحويل وجهة المرضى عبر النشاط الطبي التكميلي. ولنرى ترجمة هذا التطور على أرض الواقع، “ننصح” بقراءة تقرير محكمة المحاسبات حول مستشفى عزيزة عثمانة سنة 2018 أين يتمّ تعداد الموتى (ليس تعبيرا مجازيا) بسبب نقص موارد المستشفى واهتراء تجهيزاته.
5– ما جنته علينا “الإصلاحات”
كانت إذا الدولة التونسية تلميذا نجيبا للمؤسسات الدولية. ففضلا عن تنفيذها لسياسة التقشف في المصاريف العمومية وعدم الالتجاء للتداين لتمويل ميزانية الاستثمار (بما يناسب متطلبات العيش اللائق لمواطنيها) فقد فرضت على السلطة المالية أن تسيطر على حجم تطور القروض المسداة للاقتصاد (المقصود هنا جملة المتدخلين الاقتصاديين ما عدى الدولة) حيث بعد نزوله الحاد مع بداية تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي شهد ارتفاعا طفيفا دون العودة إلى مستوى ما قبل الإصلاح إلا أنه انطلاقا من سنة 1996 نزل مجددا وبأكثر حدة من فترة الإصلاح الأولى.
كانت تونس إذا تلميذة نجيبة لصندوق النقد، لكن لم يكف هذا لتحقق نسب نمو جيّدة أواخر الثمانينات وبداية التسعينات. تكتب كارن فايفر في [Pfe] أن صندوق النقد قد اختار أربعة دول عربية (تونس والمغرب ومصر والأردن) ليجعل منها الأمثلة التي يجب أن يحتذى بها في باقي بلدان العالم، لكن بالرغم أن هاته البلدان قد ذهبت في تطبيق أغلب الإملاءات (التقليص من عجز الميزانية، التقليص في الكتلة النقدية، التخفيض في قيمة العملة…)، إلا أنها لم تحقق حتى نصف الأهداف الموضوعة على عاتقها حيث لم تنجح في تحقيق أرقام مرضية سوى في 6,5 مؤشرات على 14 مطلوبة. ولم يتحقق بعض النجاح في بعض المؤشرات إلا بفضل العدد المرتفع من القروض والهبات التي أعطتها المؤسسات الدولية لهاته البلدان. وبالخصوص بالنسبة لتونس، لا يجب أن ننسى سياق المرحلة الذي تحدّث عنه العربي شويخة وكمال العبيدي في [ChLa]، حيث مرّت تونس بأربعة سنوات متتالية من المناخ المواتي للصادرات الفلاحية لكن كذلك استغلت الدولة التونسية الحصار المفروض على ليبيا اقتصاديا وبداية موجة الخوصصة للمؤسسات العمومية حتى إن الحديث عن خوصصة شركة الخطوط الجوية التونسية بدأ من أول التسعينات. وبالأخص مناخ “الاستقرار السياسي” الذي فرضه النظام بالملاحقات والمضايقات والسجون والتعذيب.
رغم ذلك، فقد بدأت مساوئ “الإصلاحات” تظهر للعيان منذ تلك الفترة، حيث نقرأ في [ChLa] أن التجارة الموازية بدأت تمثل قرابة 20% من الحركة التجارية في المدن الكبرى وذلك منذ بداية التسعينات. تقول سميرة شاكر في [Cha] أن أول مخلفات برنامج الإصلاح الهيكلي كان على سوق العمل. فمن ناحية في إحصاء لسنة 1989 مثل الفئة العمرية بين 18 و29 سنة 69,9% من المعطّلين على العمل ومن ناحية أخرى مع تغيّر طبيعة النسيج الاقتصادي نحو الخدمات ونقص الطلب على اليد العاملة على إثر انخفاض الاستثمارات، فقد بدأت سياسة ابتزاز الدولة باسم “تشغيل الشباب” و “أقلمة التكوين لسوق الشغل”، فبدأت برامج التأهيل لسوق الشغل عبر مختلف الصناديق والبرامج. ففي سنة 1995، انخرط 66649 تونسية وتونسي في برامج التشجيع على التشغيل (ما عُرف من وقتها بتربص الإدماج في الحياة المهنية “SIVP”) و”استفاد” 34161 آخرين من برامج صندوق التأهيل والإدماج المهني32
. وكانت هذه فاتحة للتطبيع مع الهشاشة، وهنا هشاشة التشغيل.
فبرنامج الإصلاح الهيكلي يرتكز قبل كل شيء على التقليص في الطلب، وهذا التقليص يتسبب في التقليص في الاستثمار (العمومي والخاص) والذي يقلّص التشغيل في ما عبّرت عنه سميرة شاكر بـ “القطاع الحديث”. لكن الناس لن يبقوا مكتوفي الأيدي أمام هاته الحالة. لكن كل الحلول هشة: أوّلها تلك البرامج التشغيلية التي تضعهم تحت وطأة ابتزاز الأعراف، وثانيها هي الاقتصاد الموازي الذي بدأ يشغل حسب تقديرات الملاحظين المقربين من اتحاد الأعراف أوائل التسعينات ما يقارب 40000 شخص في 1993 33
. في 2018، صار حجم الاقتصاد الموازي يقدّر بـ 54% من الناتج الداخلي الخام34
. أي يعادل نصف الاقتصاد الرسمي. أي بلغة أخرى: ثلث المواطنين خارج المجال الرسمي للوطن. بطبيعة الحال يفسّر الخطاب الرسمي للدولة والمؤسسات الدولية والببغاوات الإعلامية الاقتصاد الموازي هو كنتيجة للبيرقراطية المقيتة وكثرة الرخص اللازمة والاقتصاد الريعي والفساد وثقل الضرائب وغيرها من الأسباب. هنا نفضّل أن نرى هذه الأسباب هي نفسها كنتائج للإصلاح: لم تشهد الدولة التونسية بعث مجلاّت للإستثمار وتعديلات على الضريبة وآليات للتشغيل مثلما شهدته فترة الإصلاح! لم يتمّ إضعاف الدولة وإحالة الناس على الهشاشة المستدامة مثلما حدث خلال فترة الإصلاح، فاتحة الأبواب على مصراعيها للـ”فساد” والرشوة وإمكانيات المفاهمات “تحت الطاولة”. لم تقدّم تسهيلات ضريبية للمؤسسات مثلما تمّ تقديمها في فترة الإصلاح… كذلك نجيب من يقول مثلا أن الباعة المنتصبين هنا وهناك هم الذين قاموا بعملية حسابية عقلانية – مثلما تدرّسها كتب الإقتصاد الليبرالي – ووضعوا على يمينهم ضرورة الرخصة وارتفاع الضرائب وعلى يسارهم الصراع اليومي مع البوليس وهشاشة التشغيل وقرّروا بكلّ وعي وفي كامل مداركهم العقلية أن ينخرطوا في الاقتصاد الموازي! لكلّ منا الخيار: إمّا أن ننظر للأمور من زاوية تسلسلها الزمني وسياق تطوّرها وتحرّك البنى الاقتصادية والاجتماعية للدولة وسياستها المالية… و إمّا أن ننظر من الزاوية الضيقة للخبراء الاقتصاديين الذين لا يزالون يدعون إلى مزيد من الإصلاحات…
ثالث الحلول كان الهجرة، قانونية كانت أو غير قانونية. بين 1995 و2008، ارتفع عدد المهاجرين التونسيين35
من قرابة 600.000 مهاجر.ة إلى 1.058.600 مهاجر.ة، أي بمعدّل 5,5% سنويا بينما قدّر النموّ السكاني في تونس بـ 1% (ولا ننسى أن هذه الأرقام هي أرقام رسمية للدولة التونسية). وهذه من أتعس مخلّفات الإصلاح الهيكلي ومن أكثرها مأساوية خاصة لمن اختاروا أن يلقوا بأنفسهم في البحر بحثا عن أفق أرحب ولعائلات المفقودين منهم. ولمن يضطرّون للقبول بأجور منخفضة مقابل نظرائهم الأوروبيين ولمن يضطرّون للتخلي عن جوازات سفرهم ويبقون تحت ضمانة كافل ومن تُستغَل هشاشتها للاستغلال الجنسي… جعلنا الإصلاح سلعة بخسة في سوق الهشاشة: وطنا و بشرا وأجسادا.
لا نجد تعبيرا عن الإصلاح الهيكلي أحسن من هذا: فقد ضاق الوطن على الناس. هذه الدولة لا تسع الجميع: إمّا البطالة أو الموازي أو الهجرة أو الاحتراق أمام مبنى الولاية.
خاتمة
من الممكن أن ننقد الإطار الذي تموقع فيه هذا النص من دفاع عن “الدولة” أو حتى لما يبدو فيه من إيمان بإمكانية وجود “دولة” تضمن الخدمات الاجتماعية في نفس الوقت الذي تسمح فيه بازدهار الخواصّ. قد يكون لهذا النقد بعض الوجاهة لأن قلّة قليلة يمكن أن تفكّك خلفيات الخطاب الذي تلقيه ومن الوارد أن يكون كاتب هذه الأسطر من غير المنتمين لهاته القلة القليلة. لكن النية الأولى وراء كتابة هذا النص هو أولا الحفر في ذاكرة “الإصلاحات” التي أصابت الدولة التونسية وأسسها النظرية. ثانيها هو محاولة فهم مخلفات هذه “الإصلاحات” على الدولة التونسية، لا بمعنى أن الدولة البورقيبية كانت أحسن الدول، بل من زاوية التمشي الذي أخذته هذه الدولة (بصفة إرادية عبّرت عن رغبة التونسيين أو حتى إن كان مفروضا). فهي دولة سلكت طريق “الحداثة” أي بمعنى الاتجاه نحو شكل معيّن من الدولة يشتغل بمنطق المؤسسات والقوانين التي ابتدعت في بلدان الشمال (دون الحكم على هذا التمشي لا إيجابيا ولا سلبيا)، لكن تمّ تعطيل هذا التمشي في مرحلة مفصلية منه: مُنعت الدولة من السير نحو الأمام و لم يكن بالإمكان العودة إلى الوراء – على الأقل بالعقل الذي كانت تشتغل به وقتها – والعودة إلى تبنّي تنظّم اجتماعي مختلف.
كذلك، هذا النص لا يطرح تقديم بديل. لديّ القناعة أن لكل دوره في التقسيم الجماعي للعمل النضالي 36
. صياغة البديل مهمة للإنجاز. وفهم ما حصل في الحقبة الزمنية الفارطة مهمة للإنجاز. وتفكيك الخطاب المهيمن مهمة للإنجاز. وصياغة خطاب بديل مهمة للإنجاز. وفهم طرق اشتغال الاقتصاد على شاكلته اليوم مهمة أخرى للإنجاز لكي نتفادى رواسب اللغة الليبرالية وقوالبها في خطابنا وتصوّرنا للبدائل ويكون لنا أسلحة الدفاع الذاتي الفكرية ضدّ ما يقدّمه الخطاب الليبرالي من قوالب المعرفة العفوية والفكر المثالي والأخلاقوية المغشوشة تحت قناع المعرفة العلمية. أهمّ هذه الرواسب هي التمثل الشائع حول ميزانية الدولة وحول طبيعة المحضة للنقود.
لا تدار الدولة كما تدار شؤون المنزل. ليس على الدولة الادخار بل عليها الاستثمار. عجز الميزانية ليس عيبا. التضخم ليس أمرا سيّئا أو جيّدا في ذاته وهو طريقة من طرق خلاص الديون بمرور السنوات. المديونية ليست وصما بل هي الأداة التي استعملتها جلّ دول الشمال لتمويل نموّها. الدول لا تسدّد ديونها بل يتمّ لفّها قرضا تلو قرض و تندثر بفعل النمو والتضخم. لم يتمّ يوما خلاص المديونية عبر خلق فائض في الميزانية. إدارة البنك المركزي ليست أمرا تقنيا يستوجب استقلالية بل هو أمر سياسي في قلب السياسة النقدية للدولة ولذا فرضت المؤسسات الدولية استقلاليتها. المديونية الداخلية تختلف عن المديونية الخارجية. نحن لا نقترض من أجل خلاص الأجور. الدولة لا تعجز عن خلاص الأجور. الدعم ليس مكلفا على الميزانية بل هم يطلبون إلغاء الدعم من أجل أن تظهر حقيقة الأسعار. نحن لا نتوسّل العالم ليقرضنا بل حوّلنا هيكلة اقتصادنا وما ندفعه خلاصا للديون السابقة ولمرابيحهم أكثر ممّا أقرضونا وممّا استثمروا لدينا… هي جمل بسيطة وقد يمكن أن تكون بالنسبة للبعض منا بديهية. لكنها أسلحة دفاع ذاتي فكرية ضد أصحاب القرار وعساكرهم من الببغاوات الإعلامية. لأنهم يردّدون قوالبهم دون حياء. ودون ذكاء.
المراجع
[ATDDS] Rapport sur le droit à la santé en Tunisie, Association Tunisienne de Défense du Droit à la Santé, Octobre 2016.
[Cha] Chaker, Samira (1997). Impacts sociaux de l’ajustement structurel : cas de la Tunisie. Nouvelles pratiques sociales, 10 (1), 151–162.
[ChLa] Chouikha Larbi, Laabidi Kamel. La Tunisie, sans filet, dans le grand jeu de la libéralisation économique. Le Monde Diplomatique, Juillet 1993, pp18-19.
[Cho] Chouikha Larbi. Le “fléau” de la débrouillardise. Le Monde Diplomatique, Juillet 1993, page 19.
[Exp] A Study on The Dynamics of Arab Expatriate Communities. International Organization for Migration, League of Arab States. 2012.
[Fek] Fekih Hakim, “Trop de dépenses, trop de fonctionnaires”? Déconstruire le mythe, Nawaat.org, Novembre 2020.
[KhKn] Khan Mohsin S., and Malcolm D. Knight. “Stabilization Programs in Developing Countries: A Formal Framework. Staff Papers (International Monetary Fund) 28, no.1 (1981).
[Pfe] Pfeifer Karen. How Tunisia, Morocco, Jordan and even Egypt became IMF “Success Stories” in the 1990s. Middle East Report , Spring, 1999, No. 210, Reform or Reaction? Dilemmas of Economic Development in the Middle East (Spring, 1999), pp. 23-27.
2. بطبيعة الحال يصلون إلى هاته النتيجة بناء على المثال النظري الذي وضعوه.
3. في هذا النص لم يتمّ احتساب خدمة الدين من فوائد وأصل الدين في احتساب ميزانيات التسيير والتجهيز لتكون للأرقام بعض الوجاهة حيث أن ارتفاع خدمة الدين أحيانا يمكن أن يوحي للقارئ بأن الدولة خصصت مبلغا هاما للتسيير أو التجهيز.
4. أي مجموع المبلغ الذي على الدولة تسديده للبنوك التونسية.
5. مع اعتبار الزيادة بـ27% سنة 1987 وهي متأتية من إدراج مداخيل صناديق الخزينة ضمن ميزانية التسيير بمداخيلها ومصاريفها. إن لم نعتبر تلك الزيادة، فإن تطوّر ميزانية التسيير بين 1984 و1988 يقدّر بمعدّل سنوي بـ 4% - أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1987 في الصفحة 119.
6. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1987 في الصفحة 111.
7. أي نسبة الضرائب من الناتج المحلي الخام.
8. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1986 انطلاقا من الصفحة 154.
9. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1986 في الصفحة 155.
10. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1989 في الصفحة 179.
11. على عكس المقولة المنتشرة حتى لدى مسيّري البنوك التي تقول "القروض هي التي تخلق الودائع" بما أنّ عملية إسناد قرض هي عملية خلق للنقود.
12. قانون 120 لسنة 1993.
13. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1998 في الصفحة 162.
14. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2000 في الصفحة 148.
15. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2002 في الصفحة 147.
16. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2005 في الصفحة 161.
17. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2006 في الصفحة 148.
18. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2007 في الصفحة 162.
19. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2008 في الصفحة 161.
20. أنظر التقرير حول المديونية الذي يصدره سنويا البنك المركزي لسنة 2008 في الصفحة 13.
21. أنظر تقرير المديونية لسنة 2009 في الصفحة 13.
22. أنظر تقرير المديونية لسنة 2004 في الصفحة 18.
23. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2007 في الصفحة 188.
24. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 2009 في الصفحة 170.
25. حيث قام البنك المركزي بتقديم تسبقة لخزينة الدولة قدرها 42,5 مليون دينار (أي ما يعادل تقريبا 530 مليون دينار بأسعار 2010) منها 25 غير قابلة للإرجاع. أنظر الفصل 11 من القانون عدد 17 لسنة 1970 والذي سمّي بقانون تطهير المالية العمومية.
26. المعطيات حول السنوات الفاصلة بين 1990 و1993 غير متوفرة.
27. تطوّر ميزانية التسيير استفاد من إدراج مداخيل و مصاريف بعض الصناديق ضمن ميزانية التسيير انطلاقا من سنة 1987.
28. تمّ دمج أرقام الوزارتين.
29. أنظر التحليل المدقق لهذه النقطة في [Fek].
30. أنظر [ATDDS] في الصفحة 14.
31. أنظر [Cha] في الصفحة 153.
32. أنظر [Cha] في الصفحة 157.
33. أنظر [Cho].
34.Économie informelle en Tunisie : la république de la débrouille" Frida Dahmani, Jeune Afrique, Mars 2018"
35. أنظر [Exp] في الصفحة 93.
36. تحيّة وسلام للرفيق فريديريك لوردون الذي صاغ هذه الفكرة وقدّمها بهذا الشكل البليغ.