شركات تعليب المياه: اعتداء مزدوج على الطبيعة والبشر

06/09/2024
شركات تعليب المياه: اعتداء مزدوج على الطبيعة والبشر

الفرق شاسع  بين تبريد الماء في إناء حديدي أو فخاري أو بلوري، وبين تبريده في قوارير البلاستيك.وإنتاج وعاء  فخاري أو حديدي أو بلوري حافظ للماء أو للمأكولات أو الغلال ليس بنفس سهولة إنتاج وعاء بلاستيكي رخيص شديد المضرّة، إذ يحتاج رؤية وتصورا للقيمة بعيدان عن الرؤية والتصور اللذان يحكمان إنتاج البلاستيك. ثمة دورات إنتاجية متعدّدة ينبغي القيام بها تفضي لتوزع مهام الإنتاج على أطراف كثيرة تستفيد بمقادير متفاوتة من عائد إنتاج هذه المواد. وهو الأمر الذي يرغب الرأسمالي بشدّة في تفاديه. حساب الكلفة هنا يغلب على حساب الصحة ويُطيح بخيار استعمال هذه المواد الأصيلة بشكل مبرم لأنه ليس لها نفس القيمة والسهولة التسويقية التي للبلاستيك ولا تكفل مستوى من الربح معادلًا له.

البلاستيك، هذه المادة اللعينة شديدة السمّية عسيرة التحلّل في الطبيعة، باعتبارها خيارا ضد الطبيعة نفسها واعتداءً عليها، يرتبط انتشارها المهول بالجنون التسويقي والاستهلاكي. لأنهّا تتيح سهولة التعليب والبيع بملايين الوحدات لمواد زائدة على الحاجة. لكن الجنون التسويقي لا يعبأ بحقيقة أنها مواد زائدة، بل يفرض قوانينه  التي تحدّد ما نحتاج وما لا نحتاج على أساس ما يجري خلفه من ربح. 

في زمننا هذا، صار ما نحتاجه ليس ما هو ضرورة حيوية لبقائنا، بل ما يكفل لماكينة الإنتاج الربحي استمرارها في الدوران دون هوادة. وما يكفل جري الناس دون توقف خلف البهرج الاستهلاكي المنتِج لسعادة وهمية لا أساس لها في حياتهم الفعلية. كثير من الناس إذَا توقفوا عن الشراء يداهمهم الشعور بالتعاسة، يشعرون أن حياتهم غدت فاقدة للقيمة وللمعنى. لأن القيمة والمعنى صارا يكمنان في الإستهلاك وحده، والإستهلاك هنا لا يعود تلبية لحاجة طبيعية أو ضرورة من ضرورات البقاء والترقي البشري الفعلي، لأنه لو كان كذلك لما كان لـ80 بالمائة ممّا يُنتج حاليا أي قيمة في حياتنا بل نعتبره محض هدر سافل للموارد واستنزافا لها في سبيل إشباع حمّى الشراء ولهفة الربح، فيصير سلوك الاستهلاك مفرَمة يلتحم فيها الضحية بالجلاد والمخدوع بخادعه في سلسلة من دورات الهدر الجنوني للموارد والطاقات، يصير الإستهلاك تلبية لضرورة موهومة، نفسية- اجتماعية وحاجة لحيازة الشعور بالسيطرة والامتلاك.. هذا الإنسان المدوّخ بالحمّى الإشهارية التي تقتحم كافة حصون مناعته النفسية والعقلية، المقهور الفاقد لأبسط أشكال السيطرة على مصيره.. يجد في الممارسة الاستهلاكية بابا خدّاعًا لإمتلاك ذلك الوهم بسيطرته على الأشياء وحيازته لها، عبر تكديسها بالشراء، ناسيا أنّه هو نفسه غدا حالة تشيّء مريعة، ليس فقط باعتباره قوةّ عمل معروضة بدورها للبيع، بل حصل له أكثر من مجرد تحوّله لسلعة. رغباته وأحلامه وأماله غدت هي أيضا محطّ تسليع ومضاربة في السوق تباع له معلَّبَة في بلاستيك مسرطن. 

ذئاب السوق من أصحاب الرساميل المهولة يسوقون ويخلقون للناس حاجيات جديدة وقيم ومعايير للسلوك كل يوم، والناس تشتري وتكتسب القيمة في حياتها بمقدار استجابتها لمعايير التسليع الرأسمالي.. والمخادعات لا نهاية لها، تواريخ الصلوحية الزائفة، ترقيات للأجهزة تجعل ما نشتريه منها قبل شهور فاقدا للفعالية ولا بد من شراء الجديد وضخ المال في الماكينة لتأتي بالمزيد، ترويج مفاهيم جديدة للوفاء عبر “بطاقة الوفاء”  يحدّدها مستوى النزوع الاستهلاكي.. فيُعاد تدوير القيم  السائدة وتعويمها  لتستفيد منها المؤسّسات التجارية القائمة على رساميل ضخمة، خلق النجوم المزيّفين، باعتماد معيار للنجومية يقوم على مقدار ما يُحدثه الواحد من ضجّة ويثيره من غبار ويروّجه من تفاهة، تمجيد النجاحات الفردية التي لا انعكاس لها على الواقع الاجتماعي المطحون. والإبهار الذي يتبع كلّ ذلك ويغيب تماما في دوامات غباره يلغي كلّ امكانية لفهم واقعنا وما نحتاجه لترقية ذلك الوقع فعليا.

نعود الى كارثة البلاستيك. شركات تعليب المياه في عرس دائم.. هي ومجامع تصنيع قوارير البلاستيك التي تعبأ فيها المياه التي تسرقها من أصحابها.. فيما هم يظلون عطاشى تعساء. والشفط لا يتوقف. ملايين الوحدات المعلبة من المياه  تدور بها شاحنات الشركات بينما العطش نجده مخيما على كافة الربوع. 

ومصانع تدوير البلاستيك كذبة كبيرة، كل ما قد يصنع من البلاستيك المرسكل لا دوام له، جميعها مصيرها بعد وقت قصير سيكون الرمي بعيدا حيث لا فائدة ترجى من المادة المرسكلة ولا سبيل للخلاص منها تذويبها في الطبيعة التي تتضاد معها بشكل جذري وترفضها، وفي النهاية نجد الطبيعة قد اختنقت  بجبال من مواد البلاستيك المستعمل الذي يستحيل التخلص منه ولا يصلح لشيء.

لا يهمّ الرأسمالي قدر ما يستنزفه من المائدة المائية الشحيحة أصلا ولا ما يرميه ويلوّث به الطبيعة ويدمّرها من مواد زائدة وضارة ولا حاجة للبشرية بها من أساسه  فهو يدور مع الكسب حيث يدور.. المهمّ النجاح  الفردي والتكسّب الفردي. في تونس هؤلاء  ليسوا حتى رأسماليين، لا ينشؤون مشاريع ولا يحرّكون “عجلة نموّ”، ولا يشغّلون عاطلين ولا يدفعون من مرابيحهم اقتطاعات للدولة تُصلح بها خراب القطاع العام، بل جملة من المحتالين المنتمين لعائلات جاهلة  تسيطر عليها روح التكسّب بصورتها البدائية الحقيرة .. تماما مثل البدوي الذي يدور مع الحشيش حيث يدور، فلا يزرع ولا ينشيء شيئا بل يسوق نعجاته الى حيث يعثر على أيّ شيء أخضر لتأكله، فتأتي عليه وتترك المكان قاعا صفصفا وتنتقل الى غيره. فأصحاب مشاريع تعليب المياه مثلهم مثل أصحاب بقية المشاريع الخاصة التي تزعم أنها تشتغل طبقا للعقيدة الرأسمالية، لا يصل بها  أداءها حتى للمستوى الليبرالي الذي يعني وضعًا من التوحّش تتحكم فيه القوانين والهيئات “التعديليّة”.. هنا  تبدو العائلات البدوية كأنها هي باعثة المشروع والمتحكمة في قوانينه وصانعتها ومنشئة الهيئة التعديلية التي ستقف منها وقفة المساندة “للضرورة ولأنه ليس أمامنا بديل غير هذا”.     

هؤلاء هم ما عندنا ممّن نسميهم رأسماليين وباعثي مشاريع: كمشة من الجهلة يملكون المال.. لا ابتكار ولا ذكاء ولا مواهب.. بعد انتهائهم من استنزاف المائدة المائية سينتقلون لغيرها ولا يعبئون بما خلّفوه وراءهم من خراب في الطبيعة وفي حياة البشر. و ستجدهم غدا يبيعون البصل أو يتاجرون في الدجاج … فيُنتنون الأرض ويحوّلون الحياة جحيما لا يحتمل.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

مقالات ذات صلة

  • تحقيق حول أزمة زيت الزيتون والبطاطا: صعوبات موسميّة وأسباب هيكلية

    لم تخلُ المواسم الفلاحيّة السّابقة في تونس من صعوبات ومشاكل طالت المحاصيل والفلّاحين تارةً والأسعار تارةً أخرى. إلّا أنّ هذا…

    اقتصاد سياسي

    blank
  • مقابلة | الباحث جون بوارس: “السيادة الغذائية نواة بديل جذري من الرأسمالية”

    على هامش لقاء تكويني في الاقتصاد السياسي، من تنظيم شبكة سيادة والمعهد العابر للقوميات والمرصد التونسي للمياه "نوماد 08"، التقى…

    اقتصاد سياسي

    Articel Jean Bourass
  • تأجيل جلسة محاكمة فلاحي البحيرين بمعتمدية برقو إلى 11 ديسمبر

    قررت محكمة الاستئناف في سليانة، اليوم الأربعاء، تأجيل جلسة محاكمة فلاحي منطقة البحيرين-معتمدية برقو من ولاية سليانة إلى 11 ديسمبر…

    الأخبار

    blank
  • النّساء والعمل الفلاحيّ: انزعوا أوهامكم عن حكاياتنا

    الثالثة صباحا، مرّة أخرى. يرنّ منبّه الهاتف. عليّ الاستيقاظ للحاق بالشاحنة التي تنقل العاملات الفلاحيات إلى مشروع فلاحيّ يعود لرأس…

    بلا حياد

    blank