من أعظم الأفلام في التاريخ: ’شجرة القباقيب الخشبية‘، للمخرج الإيطالي أرمانو أولمي” وقد وقع انتاجه سنة 1978.
رغم إنتاجه نهاية السبعينيّات، فإنّ هذا الفيلم ينتمي لتيار سينما الواقعية الجديدة التي ظهرت في إيطاليا غداة الحرب العالمية الثانية. وكان من أبرز إنتاجاتها، علاوة على هذا الفيلم، فيلم ’سارق الدراجة‘ لفيوتوريو ديساكا.
يصف أرمانو أولمي عمله هذا بأنّه “يقع في منتصف الطريق بين سينما الخيال والسينما الوثائقية …” وهذه الجملة تعكس بدقة أبرز ملامح هذا التيار الفني الجديد الذي يحتقر النجومية ويناصر الفقراء وأبطال الطبقة العاملة من البشر المنسيّين في كدحهم اليومي لمواجهة أعباء البقاء على قيد الحياة. لذا قبل الحديث عن الفيلم في مستوياته المضمونية والفنية يجدر بنا تقديم تعريف موجز بهذه الحركة التي اندرج في سياقها ظهور فيلم ’شجرة القباقيب الخشبية‘ ومثل السمت منها وذروتها الفنية .
ظهرت حركة الواقعية الجديدة بين 1941-1961 كأثر من آثار محنة الحرب على الوعي الثقافي العام في إيطاليا، على يد الناقد غويدو آريستاركو صاحب مجلة ’السينما الجديدة‘ وروبيرتو روسيليني مخرج الفيلم الكبير ’روما مدينة مفتوحة‘. وأبرز ما يميّزها تفرّدها بسرد قصص الفقراء بتصويرها مباشرة في مواقع حصولها دون الاعتماد على ممثّلين محترفين. أي هنا الأمر يبدو كأنّ المخرج يقوم باقتطاع مشطرة حية من الحياة الواقعية للبشر الفقراء والمهمّشين ويصبّها في قالب فيلم. وكانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية العسيرة، تلك الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، تعطي الفيلم حبكته والمشاهد دلالتها ومغزاها بدلا من الرؤى المسقَطة من قبل المخرج. هي إذن سينما تُصوّر الواقع البائس لحياة الفقراء مع إفلاتها من الوعاء الايديولوجي الذي كان سيُفسد تلقائية الفيلم وواقعيته.
لحركة الواقعية الجديدة الفضل الأكبر في إخراج كاميرا السينما للشوارع والساحات والحقول والقرى. إذ قدّمت أفلاما دارت أحداثها داخل أطر اجتماعية عكست بصدق بشاعة الواقع القائم، ولم تعد حبيسة أستوديوهات مغلقة تتمّ بين جدرانها فبركة المشاهد المبهرة والزائفة.
كانت ردًا قويًا على سينما “السرديات الكبرى” التي حاول تركيزها نظام موسيليني وركّزت على البطل الخارق والملاحم الوطنية الكبرى. أي السينما التي تعكس التوجه الفاشي للنظام وتكرّس حسًا قوميا شوفينيا متفوقا، حسًا قريبا من الحسّ الألماني النازي الذي عكسته سينما ألمانيا في تلك الفترة.
لكن لا يمكن القطع بأنّ التوجه نحو تصوير هموم البسطاء بشكل مباشر مع الحفاظ على الرقيّ الفنّي للصورة والذهاب لعالم التفاصيل اليومية لبشر بائسين يعيشون في أحياء مهمشة أو قرى منسيّة كان توجها نضاليا صرفا. ليس بعيدا عن الحقيقة الجزم أنّ توجها كهذا من قِبل رواد تيار الواقعية الجديدة عكس في الحقيقة، ربما بأساليب السينما السابقة لتلك الفترة، بحثا عن تقنيات وأساليب فنية جديدة وجدوها في رسم الزمن على وجوه بشر عاديين ثم الذهاب بتلك الوجوه للسينما. وهكذا في وسعنا استعراض فيلم ’شجرة القباقيب الخشبية‘ ووضعه في إطاره كشريط مثّل الذروة الإبداعية لتلك الموجة، وأنّ إظهار بشاعات الحياة وبؤسها كان “أثرا جانبيًا” نزَت من خلاله حقائق الواقع الاجتماعي للفقراء وأنّ محاولات روّاد ذلك التيار نتج في سياق سعيهم لاجتراح مفهوم جديد للسينما.
بيْد أنّ أسهم سينما الواقعية الجديدة قد هبطت بداية من الخمسينيّات، لأن رؤيتها مثّلت في نظر المنظّرين للمعجزة الاقتصادية الإيطالية، التي عكسها ارتفاع مستويات الدخل، عاملا محبطا ومسيئا لمعنويات أمّة ترنو للنهوض بعد خراب الحرب ودكتاتورية موسيليني. واتّخذ بعدها الإهتمام وجهة الإقتداء بأفلام البهجة الأمريكية القائمة على تضخيم بطولات الفرد. بل وصل الأمر ببعضهم أن وصف سينما الواقعية الجديدة بأنها” قذرة” و”غسيل لا ينبغي غسله وتعليقه ليجفّ في العراء”. فما هو هذا الغسيل “القذر” الذي يعيب فيه صاحب هذا الرأي على مخرج ’شجرة القباقيب الخشبية‘ نشره في العراء دون خجل؟
الفيلم يتميّز بقدر مذهل من الشفافية والصدق والإقناع… إذ يتحدث عن حياة الفلاحين في أحد الأقاليم الايطالية في نهاية القرن التاسع عشر. المشاهد كلها تمّ التقاطها في مقاطعة لومبارديا الفلاحية في شمال إيطاليا، التي كانت غارقة في الفقر والبؤس في ذلك الوقت. ينطلق الشريط بسلسلة من المشاهد الطبيعية الخلابة تعطي المشاهد انطباعا قويا بأنّ تلك المنطقة ليست غير الجنة على ظهر الأرض. في صورة مفارقة جدا لما سيتبيّن لنا لاحقا في بقية فصول الفيلم: مشهد حقل من الذرة ثم مشهد غابة ثم مجدّدا مشهد مقرّب لحقل الذرة، ثم شريط طويل من الأرض المحروثة حدودها يغشاها الضباب، ثم الحقل مجدّدا وقد عاد أخضرا وترعة تجري فيها المياه، ثمّ فلاحين يحرثون ويزرعون في مشهد من التكاتف الجميل، ثم تضيق الحلقة التي تغطّيها الكاميرا حتى نجد أنفسنا في التجمع السكنى الذي تدور حوله رحى الحياة في المزرعة.
أربع عائلات من أبناء تلك المقاطعة تقيم في مزرعة لا تملكها، وتعيش على نصيب من الإيراد يمنحها إياه المالك ممّا تنتجه جهودهم في خدمتها، ويميزها أمران: الخضوع التام لقوانين الواقع الفلاحي الشاق وشدّة التديّن. وجميع العائلات تشترك في غلبة الفاقة على حياتها؛ إحدى العائلات لديها طفل يضطر والده إلى إرساله إلى مدرسة على مسافة 6 كلمترات.. وقصة هذا الطفل هي واحدة من القصص الثلاث التي تلتفّ حولها عقدة الفيلم. مع قصة الأرملة التي تحمل عبء إعالة ستة اطفال، وقصة الشاب المغرم بإحدى فتيات القرية وينتهي غرامهما بالزواج في مشهد جميل من مشاهد الإخلاص المتبادل.
يشعر والد الطفل، رغم أمّيته وفظاظته، بأنّ تلك المسافة أكثر ممّا يستطيع ابنه أن يتحمله ويشكو الأمر لأُسقُف القرية لعلّه يمكّنه من حلٍ يخفّف معاناته. لكن الأسقف لا يخفر عهدا لما اعتاد تقديمه من إجابات سفسطائية تغرف من ثقافة القسوة وتُعوّم كافة أشكال المعاناة في يُمّ القدر المقدور الذي لا يُرَدّ. فلا يُحيل الأمر إلى ظلم واقع على العائلة أو شظف مُجبرَة هي على العيش في ظله، بل يُجيب الأبَ القلق بكل بساطة أنه: طالما تلك هي الطريق التي سيسلكها ابنه فذلك لأن الرب ارتآه مهيئا لسلوك تلك السبيل، ورأى فيه شخصا قويا ويُعدّه لمهام معادلة لتلك القوة. فقطعه لتلك المسافة كل يوم ما هو غير تنفيذ لمشيئة الربّ لتصييره ما يريد منه أن يكون، وهنا قطع ستة كلمترات يوميا لا حرج منها على طفل.
يتم تعويم بؤس الطفل في غمرة التزامات التديّن محوّلا كلّ شعور بالألم إلى نوع من التطهّر ينتهي بالسموّ الروحي الذي يحرّر البشر من دنس المادة. ذلك كان مسلك الجميع للهروب من بؤسهم في المزرعة التي يسيطر عليها مالك لا يكادون يرونه باعتباره يمثل صورة” الرب”. ظل ثقيل يخيم على حياتهم، وقد يمنحهم أحيانا نوعا من الحماية والسلوى ونوعا من تلذذ المعاناة، لكن ليس بوسعهم التعرّف عليه ولا إمساكه أو مساءلته.
هكذا تتوالى التفاصيل في تلقائية مذهلة، ونرى أهل القرية والمزرعة في حياتهم وكدحهم اليومي الذي ينتج حبكاته من وحي التطور التلقائي لتلك الوقائع اليومية الصغيرة. الفرس التي تقطع حبلها وتغادر مربطها وجمع من القرويين خلفها حتى ينجحون في إمساكها. مولد البقرة وشعور عجلها الصغير بالذعر وهو يحاول الوقوف على قوائمه أمام نظرات الأطفال المحيطين به. الروع الذي ينتاب الأرملة وهي ترى بقرتها الوحيدة التي تعتاش من بيع حليبها عاجزة عن النهوض، ثمّ يأتي البيطري ليخبرها أن البقرة ميئوس منها.
كذلك مشهد الحبّ بين الشاب القرويّ الوسيم والفتاة الجميلة التي تعيش مع إحدى العائلات. لا يصارحها بحبه بفجاجة بل يكتفي، وهما متوقفان في أحد الثنايا قريبا من القرية، بالقول أنه رغب أن يقول لها مساء الخير، فترد عليه أنه يسعدها أن تتمنى له بدورها مساء خير مماثل ثم يفترقان. مشهد القروي الذي يجمع سماد الدجاج من أجل مشاتل الطماطم التي ينوي زراعتها.. قِطعٌ من الحياة اليومية بكامل حيويتها وواقعيتها بنبضها وفظاظتها كذلك.
في احدى رحلات الطفل للمدرسة تتكسر إحدى فردتي القبقاب الذي ينتعله، فيقرّر والده التسلل ليلا للغابة المجاورة التي تتبع للمزرعة ويقطع خلسة إحدى شجراتها ليصنع من خشبها فردة بديلة لطفله. لكن رغم تحوطه يكتشف صاحب المزرعة قطع الشجرة ويعرف الفاعل فيقرّر معاقبته بالطرد من المزرعة. هنا تحضر البشاعة الأليمة التي يقترفها كلّ مالك مستبدّ: قطع قدمي الطفل من أثر السير حافيا والإعياء أهون عليه من خسارة شيء من أملاكه. تُتابع بقية العائلات واقعة الطرد وتشرّد الرجل وعائلته – لديه زوجة وابنان – بحزن وألم… لكن الاستسلام والشعور الأليم بالعجز يغلب على موقفهم من صاحب المزرعة.
وراء العجز، وفي قالب من الشفافية والإخلاص والحنان المتناهي، ثمة شعور بمرارة تلك الحياة ووحدة المصير يمتدّ بين البشر الفقراء، نلحظه في النظرات الطويلة الصامتة والكلمات المقتضبة التي تمثّل جملا لا تكتمل.. وعلى مستوى ثان في الفيلم نرى الشاب الوسيم وقد ارتبط بفتاته التي أحبّها ويقومان بالرحيل لمدينة ميلانو على متن عبّارة بطيئة. هذين الشكلين من الرحيل يترجمان فعليْ الحياة والموت والتنازع بينهما. طرد الرجل وعائلته يعني حرفيا إرساله للموت جوعا. بينما رحيل الشاب وحبيبته كان نحو حياة جديدة رأسا.
لم يقدّم المخرج فيلما ثوريا دعائيا ولم نتابع ثورة المقيمين في المزرعة على مالكها الظالم في النهاية.. رغم أن هناك إشارات آتية من المدينة المجاورة، حيث ارتحل الشاب وفتاته، تكشف عن غضب وحالات عصيان.. بل قدّم لنا فيلما فاتنا ممتعا بتركيز فني عالي على التفاصيل اليومية الصغيرة، التي رغم قبحها وشظف الحياة التي يحياها الفلاحون، مثّلت المعنى المُلهم لاستخراج الجمال من ثنايا ما في الحياة من بشاعة.
ركّز الفيلم على الحبّ والتآزر بين البشر. وطوال ثلاث ساعات، هي عمر الفيلم، عشنا ما لا يحصى من تفاصيل الحياة الصغيرة ووقائع تضامن مؤثر بين بشر لا يملكون شيئا غير اهتمام أحدهم بالآخر. رغم أن جرعة التدين بين سكان المزرعة كانت عالية جدا، مما يستدعي معه مقولة ماركس كوصف سديد لما يعيشونه : “إنّ طلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو طلب التخلي عن وضع بحاجة إلى وهم” . يريد الفيلم أن يقول أنّ ذلك الإهتمام المتبادل هو أهمّ شيء في حياة الناس وأكثر ما يمنحها معنى، ويُبقي على صلات متينة بينهم… فالفيلم دعوة خالصة للحب…
الممثلون أشخاص حقيقيون، هم فلاحو وفلاحات الإقليم موضوع الفيلم. لم يستنجد المخرج بممثلين محترفين مطلقا. ولعلّ في ذلك الإختيار يكمن سحر الفيلم وروعته الكاملة: أنه ليس فيلما مصنوعا بل مشطرة فعلية من حياة طائفة من البشر لم يكونوا أثناء التصوير يقومون بتمثيل، بل يمارسون حياتهم بعفويتها التامة، وبحقائقها القاسية كذلك…