يرى الباحث هنا أنه من المُحزن أن الآراء المُتصلّبة التي تقف ضد انخراط دول إفريقيا في جهود التصنيع مازالت رائجة بين العديد المنظمات ومراكز البحوث “ذات النوايا الطيبة”.
مراجعة هيثم صميدة-قاسمي
سمير أمين – المسألة الزراعية قرنا بعد ثورة 1917: فلاحة رأسمالية وفِلاحات في الرأسمالية1
سمير أمين (1931 – 2018)، مفكّر اقتصادي وسياسي مصري-فرنسي ماركسي. وُلِد في القاهرة وعاش طفولته وأوّل شبابه في مناخ سياسي مُحتَدّ بالحرب العالمية الثانية وحروب التحرّر الوطني في العالم الثالث وثورة الضباط الأحرار في مصر.
زاول دراسته الجامعية في باريس حيث تحصّل على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية سنة 1957 وكانت أطروحته حول ما يسمى بالاقتصادات “المتخلفة” (underdeveloped economies). عاد بعدها إلى القاهرة حيث اشتغل بين 1957 و1960 باحثا في “معهد التصرف الاقتصادي” الحكومي ممثلا للدولة في مكاتب مدراء شركات القطاع العام. في نفس الوقت، انغمس في الشأن العام المصري الذي طغت عليه أحداث تأميم قنال السويس وحرب 1956 وتكوين حركة عدم الانحياز.
من ثمّ، انطلق سمير أمين إلى العاصمة المالية باماكو حيث عمل بين 1960 و1963 مستشارا في وزارة التخطيط تحت حكم الرئيس موديبو كايتا، كما درّس في جامعات باماكو وباريس. سطع نجم أمين كمستشار لعديد الحكومات في العالم مثل الصين وفيتنام والجزائر وفنزويلا وبوليفيا.
راوح سمير أمين بين انخراطه السياسي في نضالات العالم الثالث والتزامه الأكاديمي فشارك في تأسيس مجلس تطوير البحث في العلوم الاجتماعية في إفريقيا (CODESRIA) سنة 1973 ومنتدى العالم الثالث (TWF) سنة 1975 الذي كان طرفا في تأسيس المنتدى العالمي للبدائل سنة 1997.
كان أمين رائدا في نظريات التبعية (Dependencia) ومنظومة العالم (World-System) جنبا إلى جنب مع منظرين لامعين آخرين مثل إيمانويل والرشتاين (صاحب موسوعة منظومة العالم المعاصرة في 4 أجزاء2
) وأندري قندر فرنك (الذي غيّر وجهة الفكر في ستينات القرن الماضي عبر مقال تنمية التخلف3
) وجيوفاني أريقي (الذي ساهم في هذه المدرسة من خلال كتاب القرن العشرين الطويل4
).
كان يسمّي أمين نفسه وإيّاهم بـ “عصابة الأربعة – Gang of Four” وقد اشتركوا في العديد من المؤلفات من أهمها ديناميكية الأزمة العالمية5
سنة 1982 وتحول الثورة: الحركات الاجتماعية ومنظومة العالم6
سنة 1990.
ولكنه كان يفضّل أن تُطلق على إطاره الفكري تسمية “مدرسة المادية التاريخية العالمية”. فمنذ أن قدّم أطروحته في الدكتوراه، والتي تم نشرها ككتاب سنة 1974 بعنوان “التراكم على الصعيد العالمي”7
، اشتغل المفكر على تطبيق التحليل الماركسي للرأسمالية – انطلاقا من وتركيزا على قانون القيمة – على الصعيد العالمي.
كانت من أُولى استنتاجات سمير أمين أنّ الاقتصادات المتخلفة (underdeveloped) ليست وحدات مستقلة بل هي مكون أساسي للاقتصاد الرأسمالي العالمي. وعليه، فإنّ هذه الاقتصادات “الطرفية” (Peripheral) ليس في قدرتها ولا مصلحتها “اللحاق” بالمركز داخل اقتصاد رأسمالي عالمي، وذلك لحدّة الاستقطاب داخل النظام وتركيز التراكم لدى الاحتكارات.
يصعب حصر عصارة تفكير سمير أمين في مقدمة مقال مراجعة، ولكن أهم النقاط التي ركّز عليها المفكر نقده للماركسية الغربية التي تجاهلت تاريخ شعوب العالم غير الأوروبي ولعل أهم مقترحاته في هذا السياق اعتباره لأنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية أنماطا “إتاوية” (tributaires) وأن النظام الإقطاعي الأوروبي والياباني لم يكن سوى نمط إنتاج “مخصوص” ولذلك نجحت فيه ثورة المرور إلى النظام الراسمالي8
.
بناء على أبحاثه وانخراطه في سياسات العالم الثالث، أصبح سمير أمين مناديا صادحا بمقولات “فك الارتباط”9
و “التنمية المتمركزة على الذات” داخل نظام “سيادي شعبي ديمقراطي” كطريق للاشتراكية.
يندرج المقال، موضوع التلخيص والمراجعة، في مجال اهتمام سمير أمين بالمسألة الزراعية في العالم الثالث وعلاقتها بالنظام الرأسمالي العالمي باستقطابه وتراكمه وإمبرياليته. صدر هذا المقال في مجلة “الجنوب الزراعي” (Agrarian South) في عدد خاص يحتفي بالذكرى المئوية لثورة 1917 البلشفية في روسيا10
. كما تم إدراج هذا المقال في كُتيّب يجمع بعض أفكاره نشر إثر وفاته بعنوان “المسألة الزراعية ما بعد النيوليبرالية”11
.
نظرا لطول المقال وغزارة أفكاره، فإنه سيتم تقسيم عملية تلخيصه ومراجعته إلى جزئين. يتناول هذا النص الأول المقال من بدايته إلى صفحته العاشرة.
تحديات
ينطلق المقال من نقطة إندلاع ثورات روسيا والصين. يرى سمير أمين أنّ أهمّ تحدِّ واجه هاتين الثورتين العظيمتين كان متمحورا حول تحقيق المسألة الزراعية في بلدان ذات أغلبية شعبية فلّاحية.
من ثمّ، قدّم أمين تحليلا موجزا للتحديات التي واجهت الثورتين في مرحلة ما بعد الثورة فلخّصها في الآتي:
- مثّلت مسألة الاشتراكية في بلد واحد تحديا أمام الأنظمة السوفيتية والصينية نظرا لواقع إنتماء البلديْن إلى أطراف النظام الرأسمالي العالمي وصعوبة إيجاد سبل امتداد الثورة تحت ظروف العداء والعنف الدائميْن من قِبل العولمة الامبريالية.
- تَمَثَّل التحدي الثاني في مسألة الديمقراطية من خلال البحث عن سبل إرساء المؤسسات التي تضمن مشاركة جميع أطراف الطبقة العاملة في مسارات اتخاذ القرارات على كل مستويات الحوكمة الاقتصادية والاجتماعية.
- أما التحدي الثالث فيتعلق بالبعد الإيكولوجي الذي يشدّد أمين على اعتماده كنقطة انطلاق في تشكيل منظور اشتراكي صلب في القرن الواحد والعشرين.
يحيلنا سمير أمين إلى كتابه “ثورة أكتوبر 1917: بعد قرن”12
الذي قدم فيه تحليلا شاملا لهذه التحديات مبينا أهميتها للحركات المجتمعية المعاصرة التي تتميز بكونها مدينية/حضرية في مجملها، كما أنها تجهل المسألة الفلّاحية (Peasant Question) ممّا يَحُول بينها وبين صياغة استراتيجيا متماسكة للاشتراكية في القرن الواحد والعشرين.
في المجمل، يطرح هذا المقال تساؤلات وأفكارا حول:
- التمشي الذي اعتمدته الرأسمالية التاريخية في تحقيق المسألة الزراعية لشعوب الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة في المركز ومدى إمكانية إعادة تطبيق هذا المنوال التنموي لصالح شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
- استراتيجيا، المراحل كمسار طويل المدى نحو بناء البديل الاشتراكي لهذه الشعوب.
يقدّم سمير أمين إسهاما معرفيا جديدا للمدرسة الماركسية التاريخية من خلال التفريق بين “الفلاحة الرأسمالية والفلاحة في الرأسمالية”. رأى منظّرو الرأسمالية أنّ تحقيق المسألة الزراعية في أوروبا والولايات المتحدة يمرّ عبر تطبيق منوال تنظيم العمل والإنتاج المعتمد في القطاع الصناعي الكبير على القطاع الفلاحي (الفلاحة الرأسمالية). أثبت التاريخ خطأ هذا التمشي من خلال تغول الاحتكارات المالية على القطاع الفلاحي وتهديد وجود الفلاحة العائلية.
ورثت الاشتراكية السوفييتية هذا التصور الغالب الذي طغى في القرن التاسع عشر ونقله كارل كاوتسكي إلى القرن العشرين. يعتبر أمين أن هذا كان خطأ فادحا في تاريخ الإتحاد السوفييتي حين اعتمد سياسات التجميع (collectivization) التي قطعت أواصر التحالف بين العمّال والفلاحين، الذي كان بدوره (أي التحالف) سببا في نجاح ثورة أكتوبر.
تداركت الاشتراكية الماوية هذا الخطأ في الصين من خلال تطبيق مبدأ النفاذ المتساوي للأرض لكلّ سكان الريف من أجل تحقيق المسألة الفلّاحية، ويرى أمين أن هذا المبدأ مازال ذا أهمية بالنسبة لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.
الفلاحة بين الشمال والجنوب
يقارن سمير أمين في مستهلّ صدر المقال بين أنماط الإنتاج الفلاحي في بلدان مراكز رأس المال العالمي وأطرافه.
تطغى الفلاحة العائلية على أنماط الإنتاج الفلاحية الأخرى في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. يتميز هذا النمط بكفاءته العالية حيث أنه يوفر الغذاء للسوق الداخلية كما أنه يحقق فائضا للتصدير.
لا تحمل هذه الفلاحة الخاصية الأساسية لنمط الإنتاج الرأسمالي، ألا وهي تقسيم العمل، حيث أنه غير ثابت ومتنوع ويعتمد على اليد العاملة العائلية ولا يضطر إلى تأجير عمال فلاحيين إلا في مناسبات موسمية مثل جمع المحاصيل. في هذا المعنى، لا تُعتبر الفلاحة العائلية فلاحة رأسمالية.
ولكن، تمثل الفلاحة العائلية في دول الشمال جزءا لا ينفصل عن الاقتصاد الرأسمالي: لم تعد للاستهلاك الذاتي قيمة وأصبح الإنتاج موجها إلى السوق وانتفت علاقة تشابه المنتجين في هذا النمط بفلّاحة الماضي في أوروبا أو فلّاحة الحاضر في العالم الثالث.
يعود تفسير كفاءة هذه الفلاحة العائلية إلى توفّر المُعدّات الحديثة، فهؤلاء المنتجون يملكون 90% من المعدات الفلاحية في العالم التي اشتروها فصارت ملكيتهم الخاصة. من جهة أخرى، فإنّ للدعم الحكومي دورا مهما في تعزيز كفاءة الفلاحة العائلية الشمالية.
أخيرا، يمثل تمكُّن هؤلاء المنتجين من أراض جيّدة وذات مساحات متلائمة مع الإمكانيات اللوجيستية عاملا آخر مُهِمًا من عوامل كفاءة هذا النمط الفلاحي.
أما في الجنوب العالمي، فإن الإنتاج الفلاحي يعتمد على فلّاحين فقراء يمثّلون نصف سكان العالم (حوالي 3 مليارات نسمة). تتميز الفلاحة الفَلّاحية (peasant agriculture) في الجنوب عن الفلاحة العائلية في الشمال بالنقاط التالية:
- أهمية الكفاف والاستهلاك الذاتي في عملية الإنتاج لأنه يمثّل الطريقة الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
- ضعف كفاءة الفلاحة الجنوبية.
- فقر المجال الريفي المدقع في بلدان الأطراف حيث أنّ ثلاث أرباع مَن يعانون من نقص التغذية ريفيّون.
- عجز هذا النمط الفلاحي على توفير الغذاء للمدن.
في المقابل، تنخرط الفلاحة الفلّاحية في الجنوب في النظام الرأسمالي العالمي المهيمن من خلال التبعية للمدخلات الزراعية مثل المواد الكيميائية والبذور المختارة كما أنها تقع ضحية الاحتكارات العالمية التي تتحكم في تسويق هذه المنتجات.
السبيل نحو سدّ الهُوّة
يطرح سمير أمين في الجزء الموالي من المقال سؤال “هل أن تحديث الفلاحة في الجنوب عبر الرأسمالية ممكن ومرغوب فيه؟”
يناقش هنا أمين فرضية استراتيجيا تطوير الفلاحة من خلال إعادة اعتماد دول الجنوب على نفس نظام التحديث الذي تم تطبيقه في الشمال.
يُطرح هنا التصور بأنه بإمكان 50 مليون ضيعة حديثة أن تنتج نفس احتياجات المستهلكين الحضريين في العالم التي يتلقونها من الإنتاج الفلّاحي الحالي. يتم، بالطبع، تمكين هذه الضيعات من النفاذ إلى مساحات شاسعة من الأراضي المُفتكّة من عند الفلّاحة وتمتيعها برأس المال اللازم للحصول على تجهيزات الإنتاج.
يقفز إذن سؤال بديهي حول هذه الفرضية: ماذا سيحدث لمليارات الفلّاحة الآخرين الذين سيفقدون أراضيهم لصالح الضيعات الحديثة؟
ليس بإمكان أي تطور صناعي بنسبة نمو سنوية تناهز 7% خلال الخمسين سنة القادمة أن يمتص مخزون الطبقة العاملة. هكذا، يتسبب تحديث الإنتاج الفلاحي عبر توسيع رأس المال في تدمير مجتمعات برمتها.
يمكن التوسع في هذه الفكرة من خلال مقال “أوتسا باتنايك” حول “نظرة بديلة حول المسألة الزراعية في أوروبا والبلدان النامية”13
والذي تمت مراجعته وتلخيصه بالعربية على موقع انحياز14
.
يستنتج سمير أمين، إذن، أن الرأسمالية في جوهرها عاجزة على تحقيق المسألة الفلّاحية فهي تعد بكوكب من الأحياء القصديرية ومليارات من البشر “الزائدين”. لقد دخل هذا النظام مرحلة الشيخوخة المتقهقرة وأصبح منطقه غير قادر على ضمان استمرار البشر إذ أنه يقود مباشرة إلى المجازر. وعليه، فمن الضروري استبداله بنظام أكثر عقلانية.
يطرح كاتب المقال إذن السؤال اللينيني التاريخي: “مالعمل؟”.
مباشرة، يُقرُّ أمين بضرورة المحافظة على نمط الإنتاج الفَلّاحي (peasant agriculture)، على الأقل خلال ما تبقى من القرن الواحد والعشرين. ينفي أمين رومانسية العودة إلى الماضي في هذا المقترح. بل يشدّد على أن حلّ المشكل يكمن في تجاوز منطق الرأسمالية والمشاركة طويلة المدى في التحول نحو الاشتراكية العالمية. وذلك من خلال تكسير حلقة نمط الإنتاج الاستنزافي للموارد الطبيعية ولقوّة العمل والمحكوم بمنطق مراكمة رأس المال على حساب إنتاج قيَم استعمالية.
بالتالي، صار مُلحّا أن يتم اعتماد سياسات تعديلية للعلاقة بين السوق والفلّاحة من خلال حماية الإنتاج الوطني، وبالتالي تحقيق السيادة الغذائية الوطنية، وذلك عبر فك ارتباط الأسعار الداخلية بما يسمّى بالسوق العالمية.
من جهة أخرى، يحُث أمين على العمل على تصعيد إنتاجية النمط الفلّاحي ولكن بنسق متدرج وبطيء ومستمرّ، وذلك خاصة للحدّ من ظاهرة النزوح نحو المدن عبر الترغيب في العمل الفلاحي من خلال مردوديته المقبولة.
أخيرا، ولمواجهة اعتداء السوق العالمية على الأسواق المحلية، وجب الاعتماد على اتفاقيات إقليمية تتلاءم مع متطلبات تنمية تجمع بين الشعوب.
السيادة الغذائية
إثر تقديم مداخل الخروج من الأزمة التي ولّدها عجز النظام الرأسمالي عن حلّ المسألة الزراعية والمسألة الفَلّاحية في العالم الثالث، يُصرّح سمير أمين بأنْ لا بديل عن السيادة الغذائية.
يبيّن أمين الاختلافات العظمى في مستويات تلبية احتياجات الشعوب للغذاء في العالم. اذ أنها ممتازة في غرب أوروبا ووسطها وأمريكا الشمالية، مقبولة في الصين، رديئة في آسيا وأمريكا اللاتينية وكارثية في إفريقيا.
هنا، يُلفِت الكاتب نظرنا إلى علاقة الترابط بين قيمة الغذاء ومستويات التصنيع في مختلف الأقاليم: كلّما تقدمت الصناعة في بلد إلا وصار قادرا على توفير الغذاء الجيّد لشعبه انطلاقا من إنتاجه الفلاحي الخاص.
يقارن أمين بين تلك الدول التي اتخذت طريق التصنيع فأصبحت تسمّى، حسب المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية، “بلدانا ناشئة” (emerging countries) مثل كوريا الجنوبية وتايوان والصين، وصارت قادرة على توفير الغذاء لشعوبها ودول إفريقيا التي لم تدخل حقبة التصنيع بعد فبقيت شعوبها تعاني من نقص التغذية المزمن والمجاعات.
يرى الباحث هنا أنه من المُحزن أن الآراء المُتصلّبة التي تقف ضد انخراط دول إفريقيا في جهود التصنيع مازالت رائجة بين العديد المنظمات ومراكز البحوث “ذات النوايا الطيبة”.
ينتقد هنا سمير أمين دول المراكز الإمبريالية العالمية التي تعتمد السيادة الغذائية في توفير الغذاء لشعوبها، وذلك من خلال تطبيق سياسات اقتصادية هيكلية في بلدانها. بينما، تفرض هذه الدول – عبر أذرعها الأيديولوجية كالبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والإتحاد الأوروبي – دول الأطراف على سلوك طريق “الأمن الغذائي” كسبيل لتغطية عجزها الغذائي من خلال الاعتماد على التجارة العالمية.
للإطلاع على الفرق بين مفاهيم السيادة والأمن الغذائي، يمكن الاطلاع هنا15
.
تعود هذه “النصيحة” إلى عهود الاستعمار وتتمثل في تخصص دول الجنوب في إنتاج محاصيل زراعية ذات “ميزات تفاضلية” في السوق العالمي. وإلى يومنا هذا لم يُحقق هذا التمشي أي تطور في حياة هذه الشعوب وخاصة الفلّاحة منهم.
يستنتج أمين بالتالي أن مسار تنفيذ السيادة الغذائية في دول الجنوب لا يتحقق من دون الاعتماد على اقتصاد متنوّع يكون فيه التصنيع ركيزة أساسية لهذا الاقتصاد السيادي. كما أنه يعتبر السيادة الغذائية السبيل الوحيد للسيادة السياسية، حيث أن التاريخ قد أثبت أن الغذاء كان دائما سلاحا يتم استعماله للإخضاع والقسر.
أين نحن من هذا؟
يتتبع هذا الجزء من المقال خيطا ناظما ينطلق من التحدّيات التي واجهتها الثورات الروسية والصينية في القرن العشرين والعراقيل التي اعترضت هذه الأنظمة الاشتراكية للمسألة الزراعية، والتعامل مع المسألة الفلّاحية كأهم اختبار مازال يؤرّق حاملي الفكر الاشتراكي في القرن الواحد والعشرين. يرفض هذا التحليل الفكرة القائلة بتطبيق آليات تنظيم العمل في القطاع الصناعي على القطاع الفلاحي مبيّنا فشل هذا التمشي تاريخيا.
من ثمّ يحيلنا كاتب المقال من خلال المقارنة بين الفلاحة في دول الشمال بتلك المعتمدة في دول الجنوب على تهافت أقوال “تحديث” الفلاحة في العالم وخطر هذا المنطق الرأسمالي على الوجود الإنساني.
فينتهي به المطاف إلى الدعوة إلى الحفاظ على نمط الإنتاج الفَلّاحي (peasant agriculture) من خلال تبني مفهوم السيادة الغذائية المرتكزة على سياسات تصنيعية كسبيل لتجاوز منطق الرأسمالية والانخراط في بناء الاشتراكية العالمية.
يزخر هذا الجزء الأول من المقال بأفكار جمّة تدحض العديد من “نظريات التنمية” التي تعتمدها مختلف دول العالم الثالث، ومن بينها تونس، حيث يطغى مفهوم “الأمن الغذائي” على النظام الفلاحي متجسّدا في تبنّي سياسات تنحو بشدة نحو التخصص ونمط إنتاج موجه للتصدير لغاية في نفس “الميزان التجاري”.
(للإطلاع أكثر على تاريخ السياسات الفلاحية في تونس، يمكن مراجعة هذا المقال16
).
وبعد أكثر من خمسين عاما منذ الانخراط في هذا النظام، لم يُغَطّى العجز قطّ ولم يتوفّر البتة غذاءٌ جيّد وكافٍ للمواطنين، بل تكدّست جحافل البطّالة النازحين في أحزمة المدن.
لم يعد هناك أي عذر لمن أدرك الفكرة وتخلّى عنها في صفوف الحركات الاشتراكية المعاصرة. فمن العبث أن لا تفكر هذه المجموعات في بناء استراتيجيا لفضّ المسألة الزراعية والمسألة الفَلّاحية في دول أطراف رأس المال، حيث يتكثف الصراع الطبقي على الصعيد العالمي بين نصف سكان الكوكب وحفنة من الاحتكارات التي مازالت تمتص القيمة امبرياليا من خلال تراكم أوّلي متواصل17
.
في الجزء التالي، يتناول سمير أمين مسألة إصلاح حيازة الأراضي كنقطة انطلاق تنبع من قلب الخيارات المتعلقة بمستقبل المجتمعات الفلّاحية.
1. Samir Amin (2017), The Agrarian Question a Century after October 1917: Capitalist Agriculture and Agricultures in Capitalism, Agrarian South: Journal of Political Economy 6(2) 149–174.
2. Immanuel Wallerstein (1974), The Modern World-System, vol. I: Capitalist Agriculture and the Origins of the European World-Economy in the Sixteenth Century, New York/London: Academic Press.
——— (1980), The Modern World-System, vol. II: Mercantilism and the Consolidation of the European World-Economy, 1600–1750, New York: Academic Press.
——— (1989), The Modern World-System, vol. III: The Second Great Expansion of the Capitalist World-Economy, 1730-1840s, San Diego: Academic Press.
——— (2011), The Modern World-System, vol. IV: Centrist Liberalism Triumphant, 1789–1914, Berkeley: University of California Press.
3. Andre Gunder Frank (1966), The Development of Underdevelopment, Monthly Review,
Vol. 18, No. 4: September 1966
, DOI:
https://doi.org/10.14452/MR-018-04-1966-08_3
4. Giovanni Arrighi (1994), The Long Twentieth Century: Money, Power, and the Origins of Our Times, Verso.
5. Samir Amin, Giovanni Arrighi, Andre Gunder Frank and Immanuel Wallerstein (1982), Dynamics of Global Crisis, Monthly Review, ISBN: 9780853456063.
6. Andre Gunder Frank, Giovanni Arrighi, Samir Amin and Immanuel Wallerstein (1990), Transforming the Revolution: Social Movements and the World-System, Monthly Review, ISBN: 9780853458081
7. Samir Amin (1974), Accumulation on a World Scale: A Critique of the Theory of Underdevelopment, Monthly Review Press, 978-0-85345-272-0.
8. Samir Amin (1976), Unequal Development: An Essay on the Social Formations of· Peripheral Capitalism, Monthly Review Press, 13-16.
9. Samir Amin (1986), La déconnexion: Pour sortir du système mondial, Cahiers Libres, 9782348011924.
10.
Agrarian South: Journal of Political Economy
, Revolution and Liberation: 100 Years since the October Revolution, 50 Years since the Arusha Declaration, Volume 6 Issue 2, August 2017:
https://journals.sagepub.com/toc/agsa/6/2
11. Samir Amin (2022). The Agrarian Question Beyond Neoliberalism: Essays on the Peasantry, Sovereignty and Socialism. Harare, New Delhi and São Paulo: Agrarian South Network in collaboration with Sam Moyo African Institute for Agrarian Studies, Centre for Agrarian Research and Education for South, and Coletivo Novo Bandung:
http://aiastrust.org/wp-content/uploads/2015/10/AMIN__The-Agrarian-Question-Beyond-Neoliberalism__ASN-e-Book-2022.pdf
12. Samir Amin (2017), October 1917 Revolution, A Century Later, Daraja Press:
https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwi5-fievZWAAxV4RqQEHWCvD9MQFnoECA8QAQ&url=https%3A%2F%2Four-global-u.org%2Foguorg%2Fen%2Fdownload%2FFeatured%2520Authors%2Fsamir_amin%2FSamir-Amin_October-1917-Revolution-A-Century-Later.pdf&usg=AOvVaw1kJQ37qbjXgu5bvXfs74-t&opi=89978449
13. Utsa Patnaik (2021), An alternative perspective on the agrarian question in Europe and in the developing countries,
Handbook of Critical Agrarian Studies
, Edward Elgar Publishing, 45-51, ISBN: 978 1 78897 245 1
14. هيثم صميدة-قاسمي، مراجعة "أوتسا باتنايك – نظرة بديلة حول المسألة الزراعية في أوروبا والبلدان النامية“، انحياز، 13/07/2023.
15. هيثم صميدة-قاسمي، الأمن الغذائي والسيادة الغذائية: يكمن الشيطان في المفاهيم، ملف "قمحي لا ينقسم"، محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس، انحياز، 20/04/2022.
16. هيثم صميدة-قاسمي، جذور سياسات التبعية: في تاريخية امتصاص الفائض الزراعي، ملف "قمحي لا ينقسم"، محمد سليم بن يوسف، هيثم ص. ڤاسمي، وليد بسباس، انحياز، 19/04/2022.
17.
Sam Moyo
,
Paris Yeros
, and
Praveen Jha
, Imperialism and Primitive Accumulation: Notes on the New Scramble for Africa,
Agrarian South: Journal of Political Economy
,
Volume 1, Issue 2
, 01/08/2012,
doi.org/10.1177/227797601200
10.