في واقعة مأساوية هزّت ولاية سيدي بوزيد والبلاد بأكملها، توفي أمس ثلاثة تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 18 و19 سنة (عبد القادر الذهبي، حمودة مسعدي ويوسف الغانمي رحمة الله عليهم) وجُرح آخريْن إثر انهيار جزء من جدار المعهد الثانوي ببلدة المزونة . يشهد هذا الحدث على تآكل البنى التحتية في مؤسسات التعليم العمومي في ظل منظومة تتسم بالتقشف والإهمال، ما يكشف مجدّدًا الفجوة بين الشعارات الرسمية والواقع المعيشي للمواطنين.
تفاصيل الحادثة
وقع توجيه سيارتي إسعاف وشاحنة نجدة إلى موقع الحادث، حيث تم إسعاف المصابين بسرعة ونُقل الشهداء إلى المستشفى المحلّي بالمزونة. وقد أفاد شهود عيان بأنّ تلميذين توفّيا على الفور في موقع الحادث، بينما لفظ الثالث أنفاسه عند نقله إلى المستشفى الجهوي بسيدي بوزيد؛ إضافة إلى إصابة اثنين آخرين بحالات صحية حرجة. استجاب الأهالي سريعًا لهذه المأساة، حيث خرج العديد منهم محتجّين إلى شوارع المدينة وأغلقوا الطريق الرئيسي الذي يشقّها ا إشعال العجلات المطاطية ورشق سيارة إدارية بالحجارة، قبل تحطيمها احتجاجًا على عدم إسراع وزارة التربية والسلطات بإصلاح سور المدرسة الثانوية المُتهالك والمعروف بخطورته، وعدم صيانة البنية التحتية لمدارس الجهة ومعاهدها التي بلغت مستوى من التقادم، ما جعلها عرضة لمثل هذه الحوادث.
يرجع تدهور الحالة المادية للمنشآت التعليم إلى ما يُعدُّ إهمالاً منهجيًا وانفصالاً صارخًا عن احتياجات العصر. إذ تم بناء السور منذ الثمانينيات. وقد صدرت في السنوات الأخيرة تحذيرات مستمرة من المتساكنين حول احتمال وقوع كارثة تهدّد سلامة التلاميذ والمارّة. وقبل خمس5 أيام فقط من الكارثة، قام وزير التربية بزيارة ميدانية إذ أأمر بإطلاق دراسات لصيانة المعهد والسور دون أن يتبع ذلك إجراءات عملية، مثل إنشاء حواجز أو وضع علامات إنذار تمنع الاقتراب من السور؛ وهو ما يطرح كذلك عديد التساؤلات عن ضرورة الدراسة والتخطيط لمجرّد إصلاح جدار.
خلفية هيكلية
تكشف البيانات الصادرة عن ميزانية الدولة لسنة 2025 في مهمة التربية والتعليم عن تناقض شاسع بين ما يُزعم من دور اجتماعي للدولة وبين ما يُخصّص فعليًا من الموارد لصيانة البُنى التحتية الحيوية والاستثمار. ففي ظل زيادة بلغت 1.6% في ميزانية التربية والتعليم، ضمن نظام يُخصّص 87% من النفقات للأجور، وقع إيلاء برنامج المرحلة الإعدادية والثانوية بـ 175,462 ألف دينار فقط للبنية التحتية من مجموع 4,183,906 ألف دينار، أي بنسبة 4%، فيما تخصص المندوبية الجهوية للتعليم بسيدي بوزيد لنفس المرحلة 2,361,000 ألف دينار للاستثمار مقابل 186,062,192 ألف دينار نفقات تأجير، أي بنسبة تبلغ 1.27%.
وعلى الصعيد الوطني، لوحظ تراجع في نفقات الاستثمار للمشاريع؛ إذ انخفضت من 164,138 ألف دينار في سنة 2024 إلى 96,112 ألف دينار في السنة الحالية، أي بانخفاض يُقارب 41%. كما شهدت اعتمادات الدفع المخصّصة لمندوبية سيدي بوزيد انخفاضًا من 2,744 ألف دينار إلى 2,631 ألف دينار، ما يمثل انخفاضًا بنسبة 13.96%، بالإضافة إلى تراجع نفقات الصيانة للمعاهد والإعداديات من 32,500 ألف دينار في السنة السابقة إلى 31,800 ألف دينار، مع تسجيل رقم 41,200 ألف دينار في سنة 2021.
هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات إحصائية، بل هي دلالة صارخة على غياب السياسات الاستثمارية الفعّالة لصيانة البنية التحتية الحيوية التي تضمن سلامة التلاميذ والعاملين في قطاع التعليم، وتشير إلى أنّ ما نشهده اليوم ليس حادثة عرضية بل نتيجة طبيعية لسياسات تقشفية أدّت إلى إهمال حقيقي للقطاع التعليمي.
ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة إلّا من خلال العودة إلى سياسات التقشف التي سادت منذ تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي (بإشراف صندوق النقد الدولي)، والذي شمل سلسلةً من الإجراءات الجوهرية، من بينها: رفع القيود المفروضة بهدف خلق مناخ يتيح حرية أكبر للأسواق، واستقطاب الاستثمارات الأجنبية في محاولة لتقليل عجز ميزان الدفوعات ؛ كذلك، احداث تغييرات جذرية في النظام الضريبي، أبرزها إدخال الضريبة على القيمة المضافة وتخفيض شرائح الضريبة على الدخل الفردي. كما وقع اتخاذ خطوات لتقليل حجم القطاع العام من خلال تحويل المؤسسات العمومية إلى القطاع الخاص. وخفض الإنفاق العام عبر تقليص الدعم وإنفاق الدولة عمومًا، وهو ما يستهدف بالأساس الطبقات الهشة.
وقد عادت تونس لعقد اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي سنة 2013، والتزمت نتيجة لذلك على امتداد العشرية الفارطة بجملة من “الإصلاحات”، وهي التوصيات التي يفرضها الصندوق كوصفة جاهزة في كلّ السياقات، من تقليص للنفقات العمومية والخوصصة وتخفيض الضرائب على الشركات ورفع الدعم .
منذ 25 جويلية 2021، شرع رئيس الجمهورية قيس سعيد في تبني خطاب يؤكد على الدولة الراعية – الدولة الاجتماعية القوية التي تكفل العدالة والمساواة بين جميع المواطنين. وقد كثّف الرئيس من زياراته للمؤسسات العمومية، مطالبًا بإحياء مجدها وعصرها الذهبي وإعادة بريقها الذي تلاشى نتيجة سوء الحوكمة والفساد. بالمقابل، واصلت حكومات ما بعد 25 جويلية في نفس السياسات التقشفية.
وفي هذا السياق، اتخذت السلطة خطوات واضحة للتحكم في كتلة الأجور والدعم، كذلك تحديد نفقات الاستثمار وفقًا لمدى التنفيذ الفعلي للمشاريع؛ إذ تم توجيه وثيقة من رئاسة الحكومة إلى الوزارات تتضمن توصيات لضبط النفقات لعام 2025، بهدف خفض عجز الموازنة والحد من الاستدانة والاعتماد على الموارد الداخلية. وتستمر نفس السياسات من خلال غلق باب التوظيف في القطاع العمومي، وكبح الاستيراد إلى جانب ترشيد دعم المواد الأساسية.
وعلى مدى الست سنوات الأخيرة، واصلت الدولة في اعتماد سياسات تقشفية في إطار خطة للإصلاح الاقتصادي، غير أن البلاد لم تنجح بعد في استعادة النمو الاقتصادي وتحسين مؤشرات عجز الموازنة. ويتجلى أثر التقشف سلبًا على معيشة التونسيين الذين يواجهون صعوبات يومية في الحصول على المواد الأساسية، إضافة إلى نقص الأدوية وتراجع الخدمات العامة، ولا سيما في مجالات النقل والصحة والتعليم.
فبين سنتي 2021 و2025، تكشف ميزانية الدولة التونسية المخصّصة للقطاعات العمومية الأساسية، على غرار الصحة والتعليم والنقل، عن واقع مغاير تمامًا للصورة التي يروّج لها الخطاب الرسمي حول “دولة الرعاية الاجتماعية”. فعلى الرغم من الأرقام التي توحي بزيادة في التمويل العمومي، إلا أن التحليل المعمّق، بعد احتساب نسبة التضخّم التراكمي التي بلغت حوالي 24.5%[1] خلال هذه الفترة، يُظهر ركودًا واضحًا، بل وتراجعًا حقيقيًا في قيمة الميزانيات المرصودة.
فعلى سبيل المثال، ورغم أن ميزانية التعليم العمومي ارتفعت اسميًا من 6.7 مليار دينار سنة 2021 إلى 8.04 مليار سنة 2025، فإنها في الحقيقة تمثّل تراجعًا بنسبة تقارب 4%[2] إذا ما أُخذت بعين الاعتبار القدرة الشرائية الحقيقية. بعبارة أخرى، فإن المنظومة التربوية تشتغل اليوم بإمكانيات أقل مما كانت عليه قبل أربع سنوات، رغم التزامات الدولة المعلنة تجاه هذا القطاع الحيوي.
ويتجلّى ذلك من خلال الواقع المؤلم الذي تعاني منه المؤسسات التعليمية، حيث يظهر العدد الكبير من المدارس التي لا تتوفر فيها خدمات الإنترنت (985 مدرسة)[3] أو الكتب (786 مدرسة)، أو التي لا ترتبط بشبكة المياه العمومية (527 مؤسسة)، بالإضافة إلى تلك التي تفتقر إلى سياج كلي أو جزئي (1204 مؤسسة) أو دورات مياه صحية (128 مؤسسة)، وكذلك نقص (533) طريقًا معبدًا تربطها وتتيح وصولها بسهولة.
أما التعليم العالي، فشهد بدوره ركودًا حقيقيًا، إذ لم تتجاوز نسبة الزيادة الفعلية فيه 0.81%[4]، ما يُعادل استقرارًا أقرب إلى التراجع أمام التحديات المتفاقمة التي تواجهها الجامعات العمومية من حيث جودة التكوين والبحث العلمي والبنية التحتية.
وفي ما يخص قطاع الصحة العمومية، فرغم ما يبدو من ارتفاع في الميزانية من 2.88 مليار إلى 4 مليارات دينار، فإن الزيادة الحقيقية لا تتجاوز 11.3%، وهي نسبة محدودة جدًا بالنظر إلى الطلب المتزايد على الخدمات الصحية، وخاصة بعد أزمة كوفيد وما كشفت عنه من هشاشة المنظومة الصحية.
أما النقل العمومي، وهو من أكثر القطاعات تهميشًا ويكتسي أهمية قصوى للطبقات الشعبية، فقد عرف في الظاهر تطورًا من 729 مليون إلى أكثر من مليار دينار. غير أن التحليل الواقعي يُظهر أن نسبة النمو الحقيقية لم تتجاوز 18.5%[5]، وهي نسبة غير كافية إطلاقًا لإصلاح بنية تحتية متهالكة.
تفنّد كلّ هذه المعطيات وغيرها مقولة توسّع “دولة الرعاية”. بل تؤكد أنّ ما يحدث في الواقع هو نوع من التقشّف المُقنَّع، حيث تُستعمل الأرقام الاسمية لتلميع الصورة وإخفاء التدهور الحقيقي للقطاعات العمومية. فالدولة التي تتحدّث عن العدالة الاجتماعية، لا توفّر لتجسيد هذا الشعار في الواقع الحدّ الأدنى من الموارد.
في الختام، تظهر هذه الأرقام والنسب أن حادثة اليوم ليست عرضية ولا نتيجة صدفة عابرة، وليست نتيجة مؤامرات مدبّرة أو دسائس تحاك في الغرف المُظلِمَة من قبل الخونة والمتآمرين وأعداء المسار. بل هي ثمرة عقود من الإهمال والحرب المُعلَنة على الطبقات المهمشة والمناطق الداخلية باسم التقشف والحوكمة والموازنات المالية.
إن سقوط هذا الجدار اليوم ليس إلا تجسيدًا لمعاني الجهوية والطبقية وتعريةً لتهافت خطابات الدولة الاجتماعية؛ إذ يحاكي توقف، بل انهيار السُلّم الاجتماعي آخذًا معه 12% من التونسيين إلى ظُلُمات الأمّية و16% إلى غياهب الفقر.
[1] Tunisia Inflation Rate 1984-2025 | MacroTrends
[2] reel = 2025 nominal 8,044,000,000 / 1.245 = 6,461,847,826
6,461,847,826−6,728,000,000 / 6,728,000,000 x 100 = -3.96%
[3] قراءة في الأرقام : ماذا بقي من مدرسة الجمهوريّة في تونس؟ – Alqatiba – الكتيبة
[4] 2025 reel = 2025 nominal 2,293,393,000 / 1.245 = 1,842,788,554
1,842,788,554−1,828,000,000 / 1,828,000,000 x 100 = 0.81%
[5] 2025 reel : 2025 nominal 1,076,470,000 ÷ 1.245 ≈ 864,614,458
864,614,458−729,500,000 / 729,500,000 x 100 = 18.5%
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.