عمل صحفي: عمر مرزوق
أنفوغرافيا: تسنيم ولهازي
صادق مجلس نواب الشعب، بتاريخ 29 جويلية المنقضي،على مشروع قانون قدمته الحكومة للحصول على قرض من البنك الإفريقي للتنمية بقيمة 87.100 مليون دولار للمساهمة في تمويل برنامج «دعم التطوير المندمج والمستدام لمنظومة الحبوب». الّا أنّه بالاطلاع على تفاصيل القرض يتضح أنّ الأمر يتعلّق أساسا بدعم زراعة نبتة ’الكولزا’ المستوردة، التي تُستعمل لاستخراج الزيوت النباتية وكذلك كعلف للماشية. وهو ما يفتح الجدل مجدّدًا حول مدى تلاؤم السياسات الزراعية التي تنتهجها الدولة مع حاجيات البلاد ومتطلبّات سيادتها الغذائية.
وتزعم الحكومة أنّها تسعى من خلال هذا البرنامج إلى مساندة حوالي 250 ألف فلاح في تحقيق الاكتفاء الغذائي من الحبوب ومشتقاتها. إذ يطمح المشروع لإنتاج 1.6 مليون قنطار من القمح الصلب و1.2 م.ق من الشعير و18 ألف ق من الزيت النباتي و42 ألف ق من الأعلاف سنويا. كما سيتدخل البرنامج بمساعدة الدولة خاصة في دعم مرحلة ما قبل الإنتاج وتحديث طاقات الخزن والنقل.
إلّا أنّ هذا القرض موجّه أساسا لدعم زراعة الـ ’كولزا’، بإعتبارها مصدرا أساسيا للزيوت النباتية الموجّهة للاستهلاك البشري، بالإضافة إلى كون مشتقاتها مصدرا لإطعام الماشية، ويُعتمد عليها بصفة مكثفة في إنتاج الوقود الحيوي. اذ يُرافق برنامج ’المغرب للبذورالزيتية‘ الذي أطلقته ‘تراساينوفيا‘ (المعهد التقني لمهنيّي السّلجم بفرنسا) سنة 2019 بالتشارك مع الحكومتين المغربية والتونسية وبتمويل مشترك مع الاتحاد الأوروبي، طموح البلاد المفترض في زيادة الإنتاج الوطني من الكولزا مع الإسهام في تحسين مهارات الفلاحين من خلال دورات تدريبية مخصّصة لهذه الفئة.
ولكن إتفاقية القرض لم تحظَ بالإجماع التام كما يتم تداوله، إذ يعتبرها مثلا بلال المشري، النائب عن دائرة ملولش بولاية المهدية، وهو أحد النواب المعارضين لمشروع القانون، “اتفاقية استعمارية” تمثل خطرا على النظامين الزراعي والغذائي في تونس.
الكولزا، حل استراتيجي؟
بعد تجربة متواضعة سنة 2000 تم استئناف العمل على تطوير هذه الزراعة سنة 2014 إثر مبادرة مشتركة بين وزارة الفلاحة وشركة ‘حبوب قرطاج‘، وذلك “بهدف تحسين عائد ومردودية القمح” كما جاء في بلاغ للوزارة سنة 2016. اليوم، تمّ تخصيص ما يقارب الـ 15 ألف هكتارًا لزراعة الكولزا وخاصّة في شمال البلاد.
ورغم التصريحات الرسمية المتفائلة، إلّا أنّ الأرقام تعبّر عن تفاوت شاسع بين حجم الإنتاج وحجم الاستهلاك. إذ لا يغطّي الإنتاج المحلي سوى 2.3% من حجم الاستهلاك السنوي، فقد بلغ استهلاك زيوت البذور والكسب (درنات مشتقة من الكولزا موجهة للعلف) على التوالي 281 ألف و470 ألف طن عامي 2020 و2021، وقع استيراد أزيد من 97 ٪ منها. لتضاف إلى بقية السلع التي تدخل البلاد بإسم الأمن الغذائي لتُفاقِم العجز التجاري والمديونية بالعملة الصعبة.
ولكن يبدو أنّ معادلات الميزان التجاري لا تصمد أمام تعمّد الإتحاد الأوروبي عدم زراعة النباتات المحورّة جينيا على أراضيه، كما جاء في تقرير المفوضية الأوروبية، وتعويله على أراضينا لزراعتها عبر مثل هذه القروض وقبول الطرف التونسي بذلك.
مخاطر الكولزا
في مقابل الخطاب الرسمي حول فوائد الكولزا، هناك تحذيرات من عدد من الخبراء والفلاحين المحليّين حول تأثير المواد المحورة جينيا على الأرض والتربة، خاصة أن تونس لا تملك إطارا تشريعيا وقوانين متكاملة تنظم توريد هاته المواد.
وفي هذا السياق تسائل هيثم صميدة-قاسمي، باحث في السياسات الفلاحية، في تصريحه لموقع انحياز عن جدوى تشجيع زراعة بذور الكولزا في تونس، وهل ستعتمد نفس التوجه التصديري المرتكز على مبدأ “الميزات المقارنة” من أجل العملة الصعبة، خاصة وأنّ هذه النبتة تمثل خطرا على صحة الإنسان بشكل مباشر. وأضاف القاسمي «ما الذي يشجعنا على إنتاج نبتة ضارة بينما الحال أن الفلاحة التونسية منتجة مهمة لزيت الزيتون الذي تغلب منافعه على مضارّه؟» وأوضح محدّثنا أن الوقود الحيوي يتجاوز الاستعمال المحلي لأنه يتطلب تكنولوجيا عالية، ممّا يؤكّد على ضرورة تقديم تفسير منطقي حول جدوى استعماله، خاصة وأنّ صناعة الديزل والغازوال الحيوي تشهد عجزا متواصلا في فرنسا لصالح البنزين والايثانول.
من جهته، ذكر الخبير الفلاحي علي المهيري في تصريح لموقع ’ليدرز’ أنّ “مجموعة بذور الكولزا الموصى بها تنتمي إلى فئة كليرفيلد، وهي مجموعة هجينة ومتنوعة من الكائنات المعدلة وراثيًا، يجب استيرادها كل عام، مما يفرض في الواقع، الاعتماد التام للمنتجين على المورّد الأوروبي“ويؤكد المهيري في نفس المقال أن درجة إنتاجية النبتة لا تستدعي المخاطرة مقارنة بمضارها، بالإضافة إلى اعتمادها المكثف على مبيدات سامة ومسرطنة مثل منتج إيمازانوكس.
الجدير بالذكر أنّ هذه البذور تملك خاصية مميزة فيما يتعلق بتدوير التربة، إذ يُزمع استعمالها في التناوب الثلاثي للحبوب للرفع من مردودية الأراضي. ولكن هذا يحدث، حسب عبد الحميد عمامي، الخبير في الزراعات المستدامة، على حساب المائدة المائية والمساحات المخصصة لزراعة الحبوب. كما أنّ إعتماد الكولزا في التدوير الزراعي يدخل، حسب ما جاء في تدوينة له، في منافسة مباشرة مع البقوليات الراسخة في نظامنا الغذائي. ناهيك أنّ هذا المقترح لا يزيد عن كونه حلا تقنيا لإشكالية سياسية. ويستأنف القاسمي، مقارنًا العجز التجاري في القمح بين سنوات 2012 و2020، مؤكدا أن تبعية البلاد التونسية لواردات القمح الصلب بلغت 40٪ والقمح اللين 93٪، بينما انخفضت المساحات المزروعة للأول بنسبة 18٪ والثاني بنسبة 50٪.
فيما يتعلق بالعلف، فإن الإشكال، حسب الڨاسمي، يكمن في مدى الحاجة إليه، وذلك باعتباره موجّهًا للأصناف المستوردة من الماشية غير المتلائمة وطبيعة المرعى والمعطيات البيئية المحلية. مع العلم أن زراعة الكولزا نفسها تتطلّب مُدخلات كيميائية عدّة، مع إمداد جيد بالأسمدة الآزوتية (أسمدة مركبة تستعمل في مراحل النموّ الأولى).
هل من بديل ؟
يدرج عبد الحميد عمامي الإجابة على هذا السؤال في سياق قراءة العلاقات غير المتكافئة بين الطرفين التونسي والأوروبي، مشيرا لجملة الإتفاقيات التي طرحت خلال السنوات الماضية على طاولة التفاوض، وأهمها الـ’أليكا‘ (اتفاقية التبادل الحرّ الشامل والمعمّق). ويردف أنّ علاقات الهيمنة والمصالح الإقتصادية دائما ما تختفي تحت شعارات من قبيل الشراكة والتعاون.
من جهته، لا يستبعد هيثم القاسمي «إمكانية إدراج الكولزا في أنظمة الزراعة التونسية إذا ما كان الإنتاج موجها للسوق الداخلية في مرحلة انتقالية تفك تبعيتنا لأعراق الماشية المستوردة بالتوازي مع تطوير أعراق محلية متلائمة مع المعطيات المناخية والطبيعية المحلية». ويضيف أنّ ذلك يجب أن يكون اثر حوار موسع مع الفلاحين والناشطين بالوسط الفلاحي حول الأسباب الهيكلية التي تقف وراء العجز الغذائي وإثر دراسات معمقة تُلمّ بالآثار البيئية لهذه الزراعات خاصة فيما يخص الحاجيات المائية.
في إنتظار ذلك يبدو الحفاظ على عاداتنا الزراعية والغذائية من زيت الزيتون والبقوليات أمرًا أكثر استدامة وأقل ضررًا، خاصة إذا تم توفير الدعم اللازم من الدولة على صعيد الأراضي والسيولة المالية لتوسيع المساحات المخصصة لزراعة الحبوب وتوجيهها نحو احتياجات السوق المحليّة. ففي النهاية يجب أن تكون القرارات المتعلقة بالمنظومة الفلاحية “في خدمة السيادة الغذائية وفي مصلحة المنتجين وبموافقتهم”.