بغض النظر عن بعض ردود الفعل السخيفة أو السطحية، يفتح الجدال الحالي حول قضية الزيارة التطبيعية لآمال المثلوثي إلى الأراضي المحتلّة فرصة ثمينة لاستئناف نقاش قديم متجدّد حول معايير المقاطعة ومناهضة التطبيع في الساحة العربيّة.
ولعلّه من المفاجئ للبعض أنّ جُلّ الجدال هذه المرّة يبدو وكأنّه متركّز مع بعض الفلسطينيّين، تحديدًا من “فلسطينيّي الـ 48”. لكن في واقع الأمر، لا يجب أن يفاجئنا ذلك، لأنّ السياق العربي الحالي يسهّل لدى بعض العرب فكرة “الفلسطينيون أصحاب القضية، وأهل مكّة أدرى بشعابها”، ما يفضي بالتالي إلى موقف “المتفرّج” أو المصطفّ آليا وراء “الموقف الفلسطيني”. كما أنّ اختلاف معايير مناهضة التطبيع بين أراضي 67 والـ 48 المُعتمدة من قبل ’اللجنة الوطنية للمقاطعة’ في فلسطين، ساهم في تعقيد الأمر بالنسبة إلى فلسطينيي 48، كما سأشرح لاحقًا.
لكن، سأسعى بداية إلى الردّ على “الحجج” المعقولة التي أثارها بعض المتدخّلين في النقاش، قبل أن أصل الى الاستنتاجات الأعمّ فيما يخصّ نشاط المقاطعة ومناهضة التطبيع في المجال العربي.
– آمال المثلوثي دخلت بجواز سفر أمريكي، وبالتالي “لا ينطبق عليها نظريًا تعريف” تطبيع الشعوب العربيّة مع العدو”” (الفنان جوان صفدي).
مثلما ذكر صاحب الكلام أعلاه، نظريًا لا ينطبق عليها التعريف، لكن ما سكت عنه – وقاله ضمنيًا – هو أنّه عمليًا وفعليًا ينطبق عليها. لماذا؟ لأنّنا بصدد قضية سياسية لا قضية تقنية أو قانونية شكلانية بحتة. يعني لو كانت آمال المثلوثي تقدمّ نفسها كفنانة أمريكية أو أنّها اشتهرت في منطقتنا كفنانة غربية، لم نكن لنحتجّ على زيارتها (خاصة وأنها ستغني للفلسطينيين لا للاسرائيليين). لكن بما أنّها تقدّم نفسها كفنانّة عربية من تونس واشتهرت في منطقتنا بهذه الصفة والجميع يتعامل معها على هذا الأساس، وبما أنّ مسألة مناهضة التطبيع تهمّ الشعوب العربية بالأساس – بل وحصرًا – فإنّ تعريف التطبيع ينطبق عليها ضرورة.
– “من حقّنا كفلسطينيين واقعين تحت الاحتلال أن نتواصل مع الفنانين العرب ونتمتع بالحقّ في الثقافة”، “مثل هذه الزيارات تفكّ عزلتنا وتعزّز انتماءنا العربي”، والخ (هذه الحجج كثيرا ما تتكرّر على لسان فلسطينيّين – خاصة من المجتمع المدني – سواء من الضفة الغربية، أو أراضي 48 حديثا).
لا أحد يجادل في حقّ الفلسطينيين تحت الاحتلال في التواصل مع الفنانين العرب والنفاذ إلى الثقافة العربية. طرح الموضوع بهذه الطريقة خاطئ، حتى لا نقول فيه مغالطة. فهذه المسألة، كغيرها، يفترض أن توضع في سياق ما يتطلبّه الصراع الفلسطينيالعربي مع الكيان الصهيوني من أولويات ووسائل نضال ومقاومة. بعبارة أخرى، يفترض أن يتّجه النقاش إلى الإجابة على السؤالين التاليَيْن : أيّهما أنفع للقضية ولتعزيز صمود ومقاومة الفلسطينيين : السماح بهذه الزيارات أم رفضها؟ وهل أنّ هذه الزيارات تسمح فعليًا بفكّ عزلة الفلسطينيين أم تؤدّي إلى تعزيزها؟
الإجابة على هذين السؤالين قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكن الإجابة الدقيقة عليهما تتطلبّ التمعّن جيّدًا في تبعات كلا الخيارين المقترحيْن.
مثلما يعيب علينا بعض الفلسطينيّين أنّنا لا نملك رؤية دقيقة عن اكراهات واقعهم، بدورنا ننتقد عدم محاولتهم تفهّم واقع وظروف نشاطنا كمناهضين للتطبيع في بقية الأقطار العربيّة. ومن المسائل التي قد لا تبدو جلّية لهم هي التبعات الكارثية لرغبة البعض منهم بفتح المجال لزيارات المثقفين والفنانين العرب للأراضي المحتلة. إنّ السماح بهذه الزيارات (بل وتشجيعها وتنظيمها من قبل بعض المؤسسات الثقافية الفلسطينية) يؤدّي عمليًا (ونحن نتحدّث هنا عن ظاهرة ملموسة تحدث الآن وليس عن تكهنات) إلى تشجيع عموم الناس في بلداننا العربية على زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلّة. وفي محاولة من ’لجنة المقاطعة الفلسطينية’ للحدّ من مخاطر هذا الأمر، بادرت إلى وضع بعض المعايير (أن تكون الزيارة لأراضي الـ 67 وأن لا يكون هناك تعامل مع مؤسسات ثقافية اسرائيلية وأن يعبّر الفنان العربي عن دعمه للقضية)، إلّا أنّ التجربة الملموسة تثبت أنّ هذه المعايير لم تكن ناجعة ولا كافية لمنع تحوّل الاستثناء إلى ما يشبه القاعدة. فمن جهة، لم يتورّع الكيان الصهيوني (الذي يدرك جيّدًا مصلحته ويعرف كيف يلعب على تناقضاتنا) في وضع معايير فرز بين الزوّار العرب إلى الضفة الغربية. اذ أنّه يتعامل بشكل انتقائي معهم وسبق له أن رفض دخول من لا تروق له مواقفه (مثلا ما حصل قبل سنوات مع نقيب الصحفيين التونسيين السابق ناجي البغوري).
كما لم يتردّد العدوّ في الاستفادة دعائيا من مثل هذه الزيارات لترسيخ التطبيع في وعي شعوبنا وكسر ما بقي من حاجز نفسي (أبرز مثال على ذلك تلك الصورة سيّئة الصيت قبل سنوات لصابر الرباعي إلى جانب الجندي الصهيوني). بالمقابل أدّى استمرار توافد الفنانين العرب على الضفة الغربية المحتلّة إلى اعطاء مبرّرات لبقية المواطنين الراغبين في زيارة فلسطين والتقاط صور تذكارية من باحة المسجد الأقصى (كما يفعل أيّ سائح يزور دولة لا تعيش احتلالا). وهو ما باتت توفّره لهم في السنوات الأخيرة وكالات أسفار مطبّعة (تتعامل مع شركاء لها في الأردن وداخل الأراضي المحتلة) تستفيد من تواطؤ السلطات في تونس وتنظّم رحلات إلى مدن الضفة الغربية المحتلّة. بل إنّ هذه الوكالات لم تعد تكتفي بمدن الضفة الغربية المحتلّة، بل تأخذ حرفاءها أيضا إلى مناطق “الخطّ الأخضر” كيافا وحيفا وعكّا وبحيرة طبريا في الجولان المحتلّ (وربّما لاحقا إلى تلّ أبيب ونتانيا والخ كما يفعل صنف آخر من المطبّعين). رغم كلّ احتجاجاتنا ضدّ هذه الوكالات، لم تتراجع عن تنظيم هذه الرحلات المخزية ولم تتحرّك السلطات التونسية لتردعها متجاهلة مطالباتنا المتكرّرة.
ماذا بقي لنا في ظلّ هذه الأوضاع المزرية؟ التوجّه إلى شعبنا واقناعه بخطورة مثل هذه الزيارات، لما تتضمنّه من قبول أن تقرّر سلطات الاحتلال بشروطها من يدخل ومن لا يدخل من العرب الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي تحرم فيه من ذلك ملايين الفلسطينيين أصحاب الأرض. وهذا هو عين التطبيع العربي… الشعبي (وهنا الخطورة الأكبر بتقديرنا!) الذي يحلم به كيان العدو الصهيوني منذ عقود، ولم يفلح في تحقيقه رغم كلّ الحروب والاتفاقيات الرسميّة.
تصوّروا حجم صعوبة هذه المهمّة (إقناع الناس بعدم التطبيع السياحي الذي صار متاحًا) عندما يرى المواطن العادي (وهو تحت تأثير رغباته الفردية والدعاية الاشهارية والخ) أنّ مشاهير الفنّ والثقافة العرب يزورون الأراضي المحتلّة بكلّ يُسر. بل ويُحتفى بهم من الفلسطينيّين أنفسهم…
ومن التبعات الإضافية لهذا الأمر، هو أنّه يسهّل على “اسرائيل” ضغطها على الدول العربية كي تقبل من جهتها دخول الصهاينة إليها. فطالما تقبل “اسرائيل” بزيارة المواطنين العرب (بعد أن تمّ تحييدهم عن حقّ الفلسطينيّين المحروم أغلبهم من ذلك)، ماذا بقي للدول العربية المتخاذلة كي تبرّر به من زاوية القانون الدولي عدم قبولها “الاسرائيليين” على أراضيها؟ بل أنّنا نلاحظ في الحالة التونسية (ونذكّر هنا أنّ الدولة التونسية لم تطبّع رسميا علاقاتها بالكيان) ما يشبه الصفقة غير المُعلنة مع الصهاينة : قدوم الاسرائيليين إلى تونس (خاصة خلال ما يُعرف “بالحجّ السنوي إلى معبد الغريبة” اليهودي) مقابل دخول التونسيين إلى الأراضي المحتلّة بتصريح اسرائيلي (هذا دون الحديث عن صمت السلطات التونسية عن زيارة فنانين تونسيين إلى مستوطنات داخل الخطّ الأخضر للغناء للصهاينة من أصل تونسي!). بمرور الوقت سيؤدّي استمرار هذه الصفقة غير المُعلنة إلى تشكّل أمر واقع جديد، وهو ما سيفضي في نهاية المطاف إلى تسهيل عملية التطبيع الرسمي، بعد أن وقع انضاجها شعبيًا بشكل غير مُعلَن طيلة سنوات.
بعد استعراض هذه المعطيات، أعتقد أنّ الإجابة على السؤالين السابق ذكرهما باتت واضحة : لا. هذه الزيارات لا تسمح بتعزيز صمود الفلسطينيين، بل هي ستؤدّي إلى تعميمها وتحويلها إلى ظاهرة شعبيّة. وهذه الزيارات (التي تجري بموافقة العدوّ وبشروطه وتحت رقابته) لن تسمح في أفضل الأحوال سوى بتحسين طفيف لظروف المشتغلين في مجال السياحة والتظاهرات الثقافية بالمناطق الفلسطينية المحتلّة، لكنّها لن تسمح قطعًا بفكّ حصار الفلسطينيين تحت الاحتلال، ولا بتمكين ملايين اللاجئين منهم من زيارة أراضيهم، فضلًا عن تحقيق “حقّ العودة” إليها. هذا دون الحديث عن انعدام تأثيرها كذلك على جرائم الاحتلال من قتل واعتقالات وتهجير واستيطان والخ. بل يمكننا أن نجيب بكلّ ثقة على السؤال الثاني بالقول بأنّ هذه الزيارات ستؤدّي فعليًا إلى تعزيز عزلة الفلسطينيين والتضييق عليهم عوض التخفيف عليهم. إذ أنّ انهيار جدار الحصار العربي الشعبي المفروض منذ عقود – من خلال حملات مناهضة التطبيع – على الكيان الصهيوني سيؤدّي بشكل ملموس إلى مزيد اضعاف صمود الفلسطينيين ومقاومتهم للاحتلال. هل يا ترى سيكون الفلسطينيون في وضع صمود أفضل لو نجح الكيان الصهيوني في إضافة تونس إلى قائمة الدول العربية المطبّعة رسميًا ؟ أنظروا كيف نجح النظام المغربي مثلا في التمهيد شعبيًا طيلة سنوات لقرار التطبيع الرسمي…
ومع ذلك، يمكن أن نُقرّ بحصول بعض الاستثناءات القليلة النادرة التي يمكن أن يُغضّ فيها الطرف نسبيًا لما تتضمنّه من منفعة جزئية للكفاح الفلسطيني. فمثلا، عندما ينجح سينمائي عربي مناصر للحقّ الفلسطيني مقيم بأوروبا من الاستفادة من جواز سفره الغربي لزيارة الأراضي المحتلّة وتصوير شريط وثائقي يفضح جرائم الاحتلال، لا يمكن استسهال ادانة هذا الصنيع. لكن بالمقابل لا يجب القياس على هذا الاستثناء النادر وتحويله إلى قاعدة؛ خاصة وأنّ العدوّ الصهيوني بات متيّقظًا أكثر من أي وقت مضى لمنع دخول المساندين (بما في ذلك الغربيين) ولا يتردّد في طردهم عند التفطّن إليهم.
يمكن أن نسترسل كثيرًا في التفاعل مع بعض الحجج التي يقدّمها بعض الفلسطينيّين (ومناصروهم من مختلف الجنسيات العربية) لتبرير “زيارات التواصل الثقافي” أو ما نسمّيه نحن في الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع بـ”التطبيع المُقنَّع”. لكن يهمّني أن أستخلص عبر اختصار الموضوع برمّته في نقطتين مفصليّتين بتقديري :
– يستسهل بعض الفلسطينيّين (حتى وإن لم يعلنوا ذلك صراحة)، وكذلك بعض العرب، مقاربة الصراع مع الكيان الصهيوني كصراع قُطري بحت، أي بين الفلسطينيّين – وحدهم – والاسرائيليين. فيما ينظرون إلى العرب كلاعب احتياط، يقع الاستنجاد به للمساندة أحيانًا، ولتحميله المسؤولية التاريخية وتقريعه على تقصيره أحيانًا أخرى. إنّ هذه النزعة القُطريّة (التي كرّسها اليمين الفلسطيني وعمّقتها سلطة أوسلو العميلة) تزيد من الالتباس الحاصل لدى بعض الفلسطينيين والعرب. إذ تجعلهم ينظرون إلى صراعهم مع الاسرائيلي على أنّه “صراعهم الخاصّ” في نهاية المطاف، وأنّه ليس من حقّ أحد أن “يعطيهم دروسًا في كيفية خوضهم صراعهم”، فهم “أصحاب الأرض، وأصحاب القضية” والخ. في الواقع، نحن مازلنا مقتنعين، أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ هذا الصراع هو عربيّ صهيوني، وليس فلسطيني اسرائيلي فحسب. طبعا لا نجادل في حقيقة أنّ الفلسطينيين هم من يتحمّلون العبء الأكبر والثمن الأغلى من أرواحهم ودمائهم، وأنّهم أدرى بشعاب أرضهم وبتفاصيل معركتهم اليومية مع العدوّ. ولذلك نحن ممّن يقرّون بأنّ معايير مناهضة التطبيع يجب أن تكون مختلفة في الساحة الفلسطينية (بحكم اكراهات العيش تحت الاحتلال) عمّا هي عليه في بقية الساحات العربية. لكن بالمقابل، لا يجب أن ينسى بعض أشقائنا الفلسطينيّين حقيقة أنّ هذا العدوّ الذي زُرع من الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية في قلب المنطقة لا يستهدفهم وحدهم. وأنّه لطالما لعب دورًا تخريبيًا لكلّ محاولات النهوض والاتحاد داخل وبين مختلف البلدان العربية. وبالتالي، نحن في معركة واحدة وإن اختلفت مواقعنا وتضحياتنا ووسائلنا لخوضها. ولذا نطلب فقط أن تسمحوا لنا بإسنادكم بما هو متاح لنا في هذا الظرف التاريخي الصعب : تعزيز جبهة مناهضة التطبيع ومقاطعة العدوّ وحصار من يحاصركم.
– تكشف بعض ردود الفعل (الفلسطينية والعربية) للأسف عن نزعة ليبرالية فردية وفئوية، حتى لا نقول أنانية، تستهل تبرير التطبيع بـ”الحقّ في التواصل والثقافة والخ”. ربّما من الضروري أن نذكّر هنا ببعض البديهيات التي لا تسقط بالتقادم : عندما يخوض شعبك وأمّتك صراعًا وجوديًا، لا يمكنك أن تتجاهل منطق الأولويات. المصلحة العامّة تمرّ قبل مصلحة الأفراد والمجموعات ذات الامتيازات، وواجب محاصرة المجرم الذي يقتل أبناءنا ويعتقل أشقّائنا ويحرمهم من العودة إلى أرضهم، تمرّ قطعًا قبل حقّي الفردي في التواصل المباشر مع هذا المثقّف أو بالاستمتاع الحيّ بأغاني تلك الفنّانة.
—–
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصرًا.