سوريا الجديدة… طريق مليئ بالألغام والمستقبل رهين ذكاء السوريين
حتى نتمكن من تحليل الوضع في سوريا اليوم واقعيا، يتحتّم علينا ألا ننحاز إلى فكرة مطلقة أو توجه معين، قد تكون نظرتنا من خلالهما للأومور غير دقيقة وتنهار التحليلات بسبب تعقيدات الوضع برمته وتشابك المصالح الدولية وأذرع الدول الكبرى في سوريا وكامل المنطقة، ومن هنا لا يمكننا أن نرسم فكرة متشائمة أو أخرى متفائلة بهذه السرعة.
يمكن في البداية أن نضع نصب أعيننا ونوجه بوصلتنا نحو المشروع أو العصر الأميركي – الإسرائيلي الجديد، وما يقوم عليه من مساع حثيثة لتفتيت المفتت وتقسيم المقسم في كل دولنا العربية وخاصة منطقة الشرق الأوسط، وما رسمته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس سنة 2006 من خلال المشروع السياسي الأسوء في المنطقة ألا وهو مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي ينبني أساسا على “قوى الفوضى الخلاقة” والتخلص من الحدود التي وضعتها أوروبا الجشعة وتفتيت الكيانات الموجودة وبعث الإثنيات والطائفية لإعادة بناء ذلك المجال الجغرافي من جديد، وغيرها من النظريات المرعبة التي وُضِعت للشرق الأوسط الجديد من منطلق: الفوضى ستصنع التغيير.
وباعتبار أن الرابح الأكبر مما حدث في سوريا هو الكيان اللقيط الذي سارع في الاحتفاء بسقوط بشار الأسد واحتلال الأراضي السورية وشن الهجمات الجوية لتدمير كل ما تبقى من سلاح الجيش السوري وانعكاس كل ذلك بأي شكل من الأشكال على مستقبل القضية الفلسطينية وحركات المقاومة ضد الكيان المحتل، فإنه لا يمكن إنكار أن الهدف الأول للصهيو-أمركانية هو القضاء على نهائيا على حركات المقاومة الفلسطينية الصامدة ومحاصرتها من كل الجوانب لإنهاء وجود كل ما يقض مضجع المحتلّ.
لا نقصد بهذا التقديم أن ننغّص فرحة الشعب السوري وهو أكبر المنتصرين من سقوط نظام فاشي مستبد جثم على صدور السوريين أكثر من نصف قرن، لكن هي مفارقة ربما لم تجد لها كل النخب في زمننا الراهن تصويبا وتأطيرا يمكن أن تقبله كل فئات الشعب السوري.
لا شك أننا لم نعش في الثورات العربية منذ ثورة تونس سنة 2011 مثل هذا الخلاف والجدال والاصطفافات التي بلغت حد التخوين والاتهامات بالعمالة بين من يساند الثورة ضد الاستبداد والمبتهجين بها من جهة ومن أصابه الإحباط والأسف على سقوط من يعتبره نظام ممناعة عربي رفض التطبيع مع الصهيونية وساند بأشكال مختلفة وترتيبات كبرى محاور المقاومة في فلسطين ولبنان، وكان سقوطه تداعيا مباشرا لأحداث طوفان الأقصى المجيد.
وتطرح الشعوب العربية اليوم في سجالتها سؤالا محوريا هو: هل يمكننا الفرح مع الصهيوني الذي اعتبر سقوط الأسد يوما تاريخيا؟ أم نأسف على سقوط نظام يوصف بالممانع ونخشى من عودة الإرهاب واستيلاء التيارات المتطرفة على الحكم سوريا؟
في ظل كل هذه التعقيدات الشائكة في الملف السوري يحتاج منّا هذا الحدث التاريخي الفارق والمتسارع إلى كثير من الموضوعية والتأني في القراءات، بعيدا عن الابتهاج والفرح بانتصار ثورة مسلحة يقودها “الجولاني” (الشرع) المعروف بتطرفه هو وبقية التيارات المشاركة مع هيئة تحرير الشام ضمن عملية “ردع العدوان”، وبعيدا عن آراء المخذولين من سقوط نظام جعل جيشه في خدمة مطامحه الخاصة وصوب طائراته وصواريخه وبراميله المتفجرة وكل أسلحته لضرب شعبه وتقتيله وتهجيره وتدمير بلاده، بدلا من إطلاق صاروخ واحد نحو خاصرة العدو الصهيوني الذي بنى ممانعته على أكذوبة محاربته.
لم يفهم العالم بعد كيف انهار جيش بشار أمام المعارضة المسلحة بهذه السهولة وفي ظرف أحد عشر يوما فقط، وقد صمد لأربعة عشر عاما من “الربيع العربي” أمام دعم أنظمة إقليمية ودولية سلحت عشرات التيارات الجهادية والمتطرفة والمعتدلة وموّلت المعارضات المختلفة لإسقاطه دون أن تنجح في ذلك.
هذا التساؤل يقودنا إلى نقاط أساسية يجب يفهمها وهي: ما سبب تخلي حلفاء النظام عنه (روسيا وإيران) في وقت وجيز وما الهدف من وراء ذلك؟ وما الإستراتيجيا المتبعة في الأسبوع الأخير قبل سقوط دمشق وقد كلفهم دعمهم له لسنوات طويلة مليارات الدولارات ومئات القتلى من جنودهم؟
طهران لم تعد في وضع يسمح لها بدعم الأسد
في نظرنا أنّ عجز الأسد عن حماية المصالح الإيرانية في سوريا (تفجير السفارة الإيرانية، اغتيال بعض القادة..) بالإضافة إلى الفشل في حماية وتأمين خطوط الإمداد العسكرية إلى حزب الله اللبناني جعل من القيادة الإيرانية ترى في الأسد عبئا أكثر منه سندا لها في محنتها ضد الكيان الصهيوني، وهو ما أشار إليه مصدر إيراني في حديثه لصحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، بقوله إن إيران كانت محبطة من الرئيس بشار الأسد منذ نحو عام، وإن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عندما زار دمشق الأسبوع الماضي أخبر الأسد أن طهران لم تعد في وضع يسمح لها بإرسال قوات لدعمه، (مصادر أخرى تحدثت عن عدم طلب الأسد لقوات عسكرية على الأرض)
في المقابل وفي أول تعليق له على إسقاط الأسد، يقول المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، إن ما حصل هو نتيجة مخطط إسرائيلي أميركي وهو نتاج تخطيط في غرفة العمليات الأميركية والإسرائيلية، متهما تركيا بصفة غير مباشرة بالضلوع في ذلك قائلا إن “دولة جارة لسورية لعبت دورا واضحا في ذلك وما زالت تلعبه، والجميع يرون ذلك لكن المخطط الرئيس والمتآمر كانت غرفة القيادة في أميركا والكيان الصهيوني”.
يقودنا كلام خامنئي إلى العودة إلى حدثين كبيرين في المنطقة قسما ظهر المقاومة المدعومة من إيران وهما الهزائم الكبيرة والمحبطة التي تلقاها حزب الله في لبنان وخاصة استشهاد السيد حسن نصر الله ومن خَلَفه وعشرات القادة والمقاومين من الصف الأول في الضربات الصهيونية، وكذلك وحركة حماس باغتيال إسماعيل هنية ويحيى السنوار وبقية القادة الميدانيين والضربات الموجعة التي تلقتها في غزة.
يقول أندرياس كريغ الأستاذ في جامعة “كينغز كوليدج” في لندن لفرنس براس أن “محور المقاومة يفقد طابعه العابر للحدود الوطنية وعمقه الإقليمي الاستراتيجي”.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول إن النتائج كانت سلبية بالفعل بالنسبة لإيران وعجلت في تخليها عن الأسد لتبدأ التفكير في أوراق أخرى لرعاية مصالحها في المنطقة.
إيران وروسيا أكبر الخاسرين
بسقوط نظام بشار فقدت طهران حلقة أساسية في المنطقة العربية ما أسهم في إضعافها إلى حد كبير.
يقول حسني عبيدي مدير مركز الدراسات والبحوث حول العالم العربي ودول المتوسط لفرنس براس: “من الواضح أن إيران هي الخاسر الأكبر لأن سوريا كانت بمثابة قاعدة خلفية لها”، مشيرا خصوصا إلى تصنيع الأسلحة وارتباطها الجغرافي بالعراق ما يجعلها “نقطة العبور الأهم مع حليفها حزب الله اللبناني” الذي فقد خطا حيويا لإمدادات الأسلحة.
أما عن روسيا فيرى عدد من المحللين المختصين في الشأن الروسي أن السقوط المدوي لنظام الأسد سيقلب سياسة روسيا في الشرق الأوسط، فالبلد الذي يعاني ويلات الحرب ضدّ أوكرانيا، قد تكون خسارتها كبيرة في سوريا سيما خسارة أكبر قاعدة بحرية لها في الشرق الأوسط التي تتمركز في اللاذقية ومطار حميم العسكري الذي تعتبره استراتيجيا في نقل أسلحتها ومقاتليها إلى سوريا وإلى دول أخرى مثل ليبيا ودول الساحل الإفريقي.
وسيتعين عليها إخلاء هذه القواعد وخسارتها فنستبعد أن النظام الجديد في سوريا سيسمح لها بالبقاء هناك بعد ما قدمته للنظام القديم.
يقول المحلل الأمريكي توماس جراهام وهو باحث بارز في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في مقال ترجمته وكالة الأنباء الفرنسية “إن بوتين يواجه الآن كارثة استراتيجية محتملة وتداعيات واسعة النطاق ليس فقط لروسيا ولكن بالنسبة له أيضا بشكل شخصي. ويعد النجاح في الخارج مهما للغاية لشرعية أي حاكم روسي.”
ويبيّن الباحث الأمريكي أن الأكثر أهمية، هو أن الصراع في المنطقة أكد مدى ضآلة الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا فعليا، حيث لم يلجأ أحد إلى موسكو من أجل التوصل إلى حل للصراع وتحولت كل الأنظار إلى واشنطن، والآن حدثت النكسة المذهلة المتمثلة في سقوط الأسد. ويضيف أن اهتمام روسيا الفوري ينصبّ على إنقاذ قواعدها العسكرية الاستراتيجية في سوريا حيث تكتسب هذه القواعد أهمية كبيرة لقدرة روسيا على استعراض قوتها في الشرق الأوسط، حيث أنها ترسخ وجودها في شرق البحر المتوسط وتخدم كمركز لوجستي لدعم العمليات الروسية في شمال أفريقيا.
يمكن أن نستشفّ من خلال كل هذه التحليلات أن سوريا مقبلة على فترة أخرى قد تكون طويلة من عدم الاستقرار فروسيا لم تفقد كل أوراقها خاصة وأنها عمدت في الأيام الأخيرة التي سبقت سقوط الأسد إلى تغيير خطابها بشكل واضح، وبدلا عن توجيه ضربات إلى المعارضة المسلحة كما هدد وزير الخارجية سيرغي لافروف في منتدى الدوحة قبل سقوط الأسد دعمت فكرة إجراء حوار سياسي بين كل الأطراف، وربما هي التي كان لها الدور الأبرز في إقناع الأسد بالتنحي والفرار من البلاد. وخير دليل على ذلك أن وزارة الخارجية الروسية هي التي أعلنت عن فرار الأسد وحصوله على اللجوء السياسي في موسكو. وربما من خلال تغيير خطابها في الساعات الأخيرة ستحاول روسيا إقناع الحكام الجدد في سوريا بأنها هي التي سهلت سيطرتهم على حمص ثم دمشق.
تركيا الرابح الأكبر بعد الكيان الصهيوني
تعتبر تركيا الراعي الأساسي للمعارضة السورية المسلحة بدءا بالجيش السوري الحر وصولا إلى هيئة تحرير الشام وهي “الرابح الأكبر” فيما يجري، لكنّ ربما يبقى نفوذها على هذه القوى في المعارضة السورية المسلحة (الحاكمة اليوم) غير مضمون وقد تفقد السيطرة على زمام الأمور، ستظل تركيا الداعم الأكبر لقوات تحرير الشام التي تعتبر الجناح المسلح الأكبر والمهين حاليا في الساحة السورية وقد تستغل أنقرة نفوذها لإقناع القيادة الجديدة بالسماح ببقاء الروس في سوريا لأسبابها الخاصة. فمن ناحية ترى أن هناك مصلحة لها في استمرار الوجود العسكري الروسي لموازنة النفوذ الصهيوني والوجود الأمريكي في الشمال، كما قد يسعى التركي إلى دعم روسيا والعمل معها في الشمال الشرقي السوري لتعزيز وضعه ضد الأكراد المدعومين أمريكيا.
تصعب حقيقة الاستنتاجات النهائية فيما قد يحصل في قادم الأيام والأشهر فالمؤكد أن أكثر الخاسرين في هذه التطورات لن يقبل بالتخلي بسهولة عن مصالحه هناك وأكبر الرابحين سيسعى بلا شك إلى مزيد إحكام سيطرته على مناطق نفوذه وفرض أجنداته الجيوسياسية على الحكومة السورية الجديدة واستغلال أوراق الدعم وإعادة الإعمار والاقتصاد واللاجئين كأوراق ابتزاز لتثبيت سيطرته السياسية والعسكرية على الأراضي السورية.
ومع قرب استلام دونالد ترامب للحكم في الولايات المتحدة يبدو الشرق الأوسط في حالة حرب مستمرة حتى إشعار آخر وحتى حدوث تفاهمات دولية تنهي القضايا الخلافية وتحقق مصالح الغرب والدول الكبرى المتحكمة في مفاصل السياسة والسلاح في سوريا.
سيطرة المعارضة ونجاحها في الثورة ضد نظام القتل والتعذيب وضع نهاية لحقبة مظلمة في تاريخ سوريا، وفي نفس الوقت ترك الباب مشرعا أمام مخاطر وتحديات كثيرة تنتظر أهل الشام الذين نأمل منهم أن يكونوا على قدر كبير من الحذر والذكاء والوحدة الوطنية والابتعاد عن الفرقة والطائفية والانتقام وخاصة التمسك بوحدة الأرض وسيادة الدولة وأمنها واستقرارها.
ختاما نقول إن الأطماع الخارجية متواصلة في سوريا ولن تتوقف إلا بتحقيق غاياتها في تأمين المصالح العليا لدولة الكيان المزعومة بالنسبة للغرب، وتحقيق المصالح الاقتصادية والجيوسياسية بالنسبة لإيران وروسيا وتركيا، وهنا يجب على الحكام الجدد أن يوضحوا بما لا يدع مجالا للشك أو المواربة موقفهم من ممارسات الكيان والقضية الفلسطينية أولا، وموقفهم من الحريات واحترام حقوق الإنسان والأقليات والطوائف في سوريا حتى يتسنى للعالم الحر فهم سياستهم وبناء جذور الثقة في التعامل معهم.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.