ينبغي أن نكون دائما على حذر مما يتم الترويج له من مقولات تتعلق بمقومات النهوض الإجتماعي، ومن الواضح والأكيد أن الذي يقول لك أنه من الممكن جدا أن ننجح في إنشاء مشروعات خاصة لتحصيل لقمة العيش وحتى بلوغ الرفاه المعيشي في السياق الاقتصادي والاجتماعي الحاليين، وبالمجهود الفردي وحده، هو إما إنسان غافل لا يفهم حقائق المرحلة، وإما ماكر بصدد مخادعتنا ويحاول أن يزين لنا عورات الرأسمالية ويوهمنا بأنه لايزال ممكنا الحلم بالنجاح في سياقات الإستغلال وعتو الفردانية والأنانية وتدبير الرأس القائمة.
ماذا هناك في واقعنا الحاضر؟ وكيف يمكن أن تقام المشروعات الخاصة؟ ومن هم الباعثون الذين عادة ينجحون فيها؟
أغلب المشروعات في أيامنا هذه إما يقيمها أناس عندهم مشروعات سابقة ويريدون التوسع، يعني ناس يشتغلون برساميل كبيرة ويستحوذون سلفا على قطاعات اقتصادية معتبرة / اساسا الإقتصاد الخدمي والتجاري،/ وليست مطلقا حكاية ناس بدأت من الصفر، وكبر حجم رساميلهم( كيف كونوا تلك الرساميل، هذا مبحث على حدة يتعلق بأوضاع السرقة المعممة التي فقّرت معظم الناس)، بفعل النجاحات المتتالية، يعطيهم قدرة على إنشاء المزيد من المشاريع التي في أغلبها تصب في اتجاه تكبير الرساميل أكثر فأكثر وتحويلها لجملة من الإحتكارات المالية الكبيرة . لكن مع كل ذلك، فالبؤس الاجتماعي هنا لا يتبدل مهما بلغت تلك المشاريع من الإتساع، لأن هدفها الأساسي- مثلا سوبارات . محلات تجارية بمختلف اصنافها- مراكز تقديم خدمات/ هو تحقيق مزيد الربح لصاحبها / إذا ربح مليار يرغب في تحويله لمليارين وإذا ربح مليارين يريد مضاعفتهم ليصبحوا خمسة مليارات. وهكذا جنون الربح الى ما لا نهاية.. وثمرة الاستثمار تكون عادة في: عقارات – أراضي – سيارات 4*4 – ترفيه – رحلات – اجهزة فاخرة- تلفونات الجيل الخامس.. الخ.. اولاد يدرسون في البريفي) فلا تمتد حلقة الرفاه لأبعد من النطاق الضيق لباعث المشروع وصاحب الرأسمال وعائلته. هؤلاء بوسعنا تسميتهم لابسي الجزمات الثقيلة التي تصل لحد ركبهم والواقية لهم من حر الصيف ومن قر الشتاء، وبوسعهم بواسطة جزماتهم إياها تسديد الركلات المؤلمة لكل من ينافسهم أو يحاول اقتحام فضاءاتهم الواسعة المخصوصة …، والصنف الثاني من باعثي المشاريع في أيامنا يمكن تسميتهم أصحاب المشاريع الرثة أو لابسي الأحذية الراغبين في تدثير أقدامهم بجوارب داخل الحذء، وهم إما متقاعدون أو موظفون في القطاع العام يتقاضون جرايات لكن لا تكفيهم، لهذا تراهم يبحثون عن زيادة .. مثلا موظف أو متقاعد بجراية تتراوح بين 700-1000 د. يفتح محلا تجاريا صغيرا بجانب داره، أو يكتري محلا يدير أموره مع زوجته وابنته وولده، وفي العادة نجده شخصا مشبعا بعوائد البورجوازي الصغير وأخلاقه وجائعا للربح وتائقا للتحول لبورجوازي كبير تام الصفات، يبيع سلعته بالسعر الأقصى المتاح، لأنه يجلبها من المغازة القريبة ويزيد في الثمن على هواه.. ولا يقلق إذا الشارين ليسوا كثيرين، مثلا حكة شامية صغيرة يأخذها من المغازة ب 1000 يبيعها ب 1500 وباكو قوفرات ب 800 يبيعه ب1200مي وهكذا ..
بالنسبة للجماعة الأولين : أصحاب الرساميل الكبيرة . من لابسي الجزمات الثقيلة، هؤلاء صاروا لوبيات ومافيات تتكتل وتتحالف عل مبدأ خدمة المصلحة المشتركة لأعضائها، وهكذا عندما تفتح مغازتين في موقعين متقاربين لا تتنافسان بتاتا ولا تنوعان في السلعة ولا في السعر بل يفرض صاحباهما سلعة وحادة بتسعيرة موحدة، أي يتواطئان لضمان مصلحتهما الشخصية عل حساب حق الناس في الإختيار، وبذا يعطلان مبدأ أساسيا من مباديء الإقتصاد الرأسمالي : التنافس
بالنسبة للجماعة الثانية من أصحاب المشاريع الرثة القائمة على أسس متصدعة من لابسي الأحذية الباحثة عن جوارب ؛ نفهم هنا بوضوح أننا بعدما كنا خائضين في هم الناس المسحوقة التي ليست لها موارد أصلا، صرنا خائضين أساسا في همّ الناس من الطبقة الوسطى( البورجوازية الصغيرة ) التي سرقت هموم غيرها وصيرت همها الأوحد الحيلولة دون مزيد تدحرج أوضاعها بفعل الغلاء بافتكاك صلاحية إنشاء أغلب المشروعات الصغيرة الجديدة. يعني طبقا لفلسفة المنصف المرزوقي بعد أن كنا نريد إعطاء حذاء للذي يمشي حافيا صرنا منشغلين باعطاء كليسطة لمن عنده حذاء، ومن الصعب جدا أن تجد متعطلا أو عائلة بلا مورد وليس فيها عضو يشتغل سلفا قادرة على إقامة مشروع صغير لأن الساحة مكتظة بالمشاريع التي بعضها يفلس بعضها الآخر. والزحمة والتنافس لا رحمة فيهما. والساحة مشبعة لحد الإختناق بالمشاريع التجارية والخدمية الزائدة، والناس في تدافع مريع نحو التسلق، فصعود البعض لا يتم إلا بسقوط البعض الآخر وإخلاء الساحة منه لفائدة الأول.
و في السياق الاقتصادي القائم من الهراء ومخادعة الذات والآخرين وصعب حد الإستحالة أن نتحدث عن تحقيق شروط الإكتفاء المادي والمعيشي للبشر. في الوقت الذي فيه الاقتصاد مختطف كله من حفنة من الناس، من لابسي الجزمات الثقيلة طبعا الذين حصلوا امتيازاتهم بالتقادم وصارت القوانين تُعمل على مقاسهم ولخدمة المزيد من تمكنهم وسيطرتهم على السوق وتكبير حجم رساميلهم. ويأتيك أحد من الحمقى من مروجي ترهات إمكانية استمرار العالم القديم، بكل ما فيه من حيف واستغلال ونذالة / هؤلاء هم المستفيدون منه و يميزهم قصر النظر والخبث وصحة الراس والصلافة والشدان صحيح / ليقول لك الحل في انشاء المزيد من المشروعات وابدأ بالقليل وبالمثابرة ستنجح ودعك من حكاية العائلات المتنفذة التي تخنق دنيانا، فلن توصلك لشيء تلك الحكاية.. والمعني هنا ان تنفذ العائلات المافيوزية من زمن بورقيبة واستمرار استحواذها على كل القطاعات و خنقها للاقتصاد وتدمير حياة البشر هو قدر مقدر لا سبيل لتغييره؟؟
لماذا يتعين علينا أن نقول أن اللصوصية والنذالة وقلة المعروف هي اختلالات قيمية لا تُفهم إلا في سياق إجتماعي محدد يتميز بتفشي البؤس وحالات الارتهان والقهر التي تفقد الإنسان الشعور بقيمته وبقيمة كل شيء من حوله. هذا البشر الذي يمشي حافيا بلا جزمة ولا حذاء ولا جورب داخل الحذاء، فلا يبالي بشيء ولا يعطي لشيء قيمة وتسقط عنده كل المعاير الأخلاقية التي تحدد له كيفية التصرف واتخاذ المواقف وتحميه من السقوط في حمأة النذالة وتسلبه في النهاية شعوره ببشريته .
في كتاب الروائي الامريكي جون شتاينباك ” أعناب الغضب” حديث طويل عن أوضاع شبيهة بالتي نعيشها.. اللصوصية والسقوطية وضياع القيمة من كل شيء. في عز تلك الأزمة عام 29 البنوك افتكت كل شيء وفقّرت الناس وهجرتها من أراضيها وخربت حياتها. أزمة عام 29 كانت في الأصل أزمة وفرة وليس أزمة ندرة تسببت في سقوط الأسعار وانهيار الأسهم في الأسواق المالية، فاضطر الرأسماليون لإلقاء أطنان المنتوجات في الماء لإبقاء الأسعار طافية، صار الإنسان وقتها لفرط تفشي الحاجة لا يأمن على مسكنه إذا غاب عنه 3 أيام. فعندما يرجع يجد أناسا أخرى فككت المسكن وسرقت السرير وهربت به، بدا الأمر وقتها شبيها بإدانة صريحة لواقع الملكية الخاصة ورفضا مدويا لها، لكن سياط تلك الإدانة انصبت على الفقراء وحدهم.
وبعد ذلك نشهد تدافع الالاف بل مئات الالاف منهم، من الحفاة، على الطريق نحو جنات عدن في كاليفونيا. يحلمون بنعيم العمل في حقول البرتقال الشاسعة، وهناك عند وصولهم ينقشع الوهم من أدمغتهم ويكتشفون الجحيم الرأسمالي على قاعدة.. ترجمته الملاحقة والمحاصرة والتقتيل والمؤامرات والمخادعات والنذالات الراسمالية مجمعة، ولا وجود لنعيم هناك ينتظرهم، بل الشقاء بكل ألوانه، تماما مثل جموع الحالمين عندنا بالنجاح في نفس العالم الراسمالي وبشروطه. لكن مع الأسف والحزن، ليس لمستنقعات الغباء اللي نسقط فيها عندنا من قاع.
ورغم ادراجنا للصوصية والنذالة والتفاهة المعممة في سياقها الإجتماعي والإقتصادي الحالي، باعتبارها نتاجا صافيا لأوضاع القهر للكائن البشري وسلبه أبسط حقوقه وتصيره رهينة للخوف المسترسل مما سيأتي به الغد .. وحتى شكلا من أشكال الصمود في وجه هذه الأوضاع، أنا لا أبريء اللص ولا أدافع عنه ولا عن حق الناس في أن يصيروا تافهين ولامبالين .. لأنه لص صغير يمشي في نفس الثنية اللي مشى فيها اللص الكبير والعذر للأول هو نفس عذر الثاني.. كلاهما انطلق من نفس الحفرة النتنة .
نبدأ بالقليل ولازم ننجح؟ وأحصل على حذاء وتحته جورب، في انتظار بلوغ الهدف الكبير المتمثل في الجزمة الحصينة، هكذا تقول الدعاية. وتقول نفس الدعاية أنه لو كان في يدك مائة دينار فبوسعك استثمار عشرة منها في مشروع( أي مشروع ترى يمكن إقامته بعشرة دنانير هي كل ما يملكه الفقير، إذا استبعدنا فرضية الاستهزاء به) والدعاية للمشروع بالتسعين الباقية . وهكذا نقيم بتسعين دينارا نظاما للمخادعة واستغفال البشر. في نظام هو نظام الفساد المقنن؟؟ وليس نظاما يعتوره الفساد.. كم يجب ان نقول ونعيد أن الفساد في الرأسمالية ليس عارضا يصيبها وبوسعها أن تبرأ منه.. بل هو مكون عضوي فيها وكائن في أساساتها وركائزها.. تريح. تملك.. تكدس الفلوس.. وغيرك بجانبك جائعا عاريا؟ لأنك أنت ذكي ومجتهد وهو غبي وكسول، مثلما يروج لذلك دهاقة الرأسماليين، هل هذا قانون للرأسمالية أم قانون للفساد عريان من غير هدوم ؟ كم عندك في ال100 من واحد بدا بالقليل القليل ونجح؟ 5 على مائة نجحوا والبقية ماذا عملوا وأين هم وماذا صار من مشروعاتهم؟ التركيز هنا باش يكون على الخمسة الناجحين لإعطاء وهم ان النجاح هو القاعدة والفشل يعود لعوامل ذاتية لا دخل للنظام فيها وهي تباعا الكسل وعدم تطوير الذات وعدم الرغبة في النجاح واللامبالاة
أيمكن ذلك؟؟
دعنا نركز قليلا على 95% الذين فشلوا ونحاول رؤية الأمور على حقيقتها…
هناك شخص متقاعد ينتعل حذاء مهترءا، وعلاوة على معاشه التقاعدي يدير محلا تجاريا صغيرا. يعطيه في الشهر بين 200د 300د .. وواحد من أجواره عامل حرفي بارت حرفته نهائيا وافلست وصار في وضع معيشي خانق، فصار حافي القدمين، لا حذاء ولا جورب، ليس فقط لأن سوق تلك الحرفة اندثرت ولم تعد موجودة، بل لأن استمرار تلك الحرفة كان مرتبطا بأوضاع اجتماعية وبتقاليد لم تعد قائمة وبالتالي بوار الحرفة كان في حكم الأمر المحتم، لأن الزمن لم يعد زمنها، مثلا تحويل الصوف بالغزل اليدوي لم تعد هناك نساء يقمن به لأن وضع النساء في الأرياف تبدل جذريا في اتجاه إفساد نظام حياة المرأة كليا، التي خرب حايتها الركض في الحقول والعمل كأجيرة عند أصحابها. والمعامل التي كانت تغزل الصوف آليا كلها كانت تشتغل بتجهيزات من عام 60 والآن كلها أغلقت أبوابها.
إذا فكر الحرفي في فتح محل تجاري بجانب جاره المتقاعد فسيصير مزاحما له على 200د-300د. أي تقريبا سيتساويان في الفقر. يتزاحمان على عظم يابس. ويغدوان معا حافيين، والحي السكني كله محلات تجارية وليس هو فقط. كلها تتزاحم على عظم يابس ومنخور. وكلها تشترك في الحفاء، هذا عطار هذا حماص هذا خضار هذا جزار وهذا يبيع كل شيء في محله.. لوازم مدرسية على حلويات على بسكوي على لعب اطفال على شكاكل على مشروبات على مواد غذائية على مواد تنظيف على مكسرات على هم أزرق على سخط ونخط ويحلم يربح.. وكل حسنة بثوابها و العب تربح فيها قوووول.
الأقلية الذين ينظرون للنجاح المعيشي تحت الشرط النيوليبرالي و يقولون أنهم فعلا حققوا ذلك ونجحوا في مشروعاتهم.. واستحوذوا على الجزمات القوية، بأي ثمن حققوا ذلك النجاح؟ ومن منهم حقا بدأ من النقطة الصفر؟ ومن أين جاءوا بالمال؟ وما هو النجاح أصلا؟ هو بالمعيار الرأسمالي التجاري ربح مالي يعني فلوس مربوحة في الجيب من فارق السعر بين الشراء والبيع بعد السيطرة على السوق واحتكاره. هذا هو التصور الرأسمالي للنجاح، لكن ماذا عن الأرض التي نمشي عليها ونطئها بأقدامنا؟ للحقيقة أغلب الناس فقيرة ومعدلات النجاح.. حتى بهذا المعيار البائس قليلة جدا .. لكن على مستويات أخرى كيف تعيش الناس التي تقول أنها نجحت؟ وأي عذاب تعانيه..؟ وعلى أي أرض هي تسير وما الذي تغطي به قدميها؟ وبأي تضحية بحياتها تدفع ثمن ذلك النجاح المزور؟ لنطرح مثالا امرأة لديها مشروعا صغيرا لتربية الدجاج، كيف تدبر أمر العلفة والأدوية لحماية قطعها من الأمراض؟ وكيف تصرف إنتاجها وبأي ثمن تبيع وما الربح الذي يقع في يدها بعد طرح المصاريف وكل ذلك الإرهاق. باعثة مثل هذه سترى جهنم الحمراء لتؤمن لدجاجاتها العلف، وتعيش 60 جهنما قبل أن تقدر على الإفلات من حصار بولينا والمزرعة لتلقى سوقا لتصريف منتوجها.. وبالسعر الذي يكفل لها شيئا من الربح. الأمر هنا يشبه تلبيسها جوربا ليس فوقه حذاء يحميه فيتمزق سريعا، وجماعة اصبر اصبر بالشوي بالشوي وستنجح يصورون لها عذابها الأزرق هذا على أنه صمود ومقاومة بينما هو ليس غير استبسال منهك ومخزي في الدفاع عن رؤية العمل والإنتاج والحياة عموما في ظل الأوضاع النيوليبرالية.. بمعنى آخر هي لا تكافح من أجل حياة كريمة قدر ما هي تعرق وتعزق في الحقيقة لتأكيد كذبة كبيرة وترسيخها: هي أنه من الممكن أن ننجح ونحقق ممكن الحياة الكريمة مع بقاء كافة السياقات والشروط وشكال الإحتكار والأنظمة الحالية قائمة متوطدة. فهي لا تفعل شيئا غير خدمة رؤية أعدءها الإلداء من أرباب الإستغلال والظلم وافتكاك حقوق الناس .
نظام قيس سعيد ليس عنده لا رؤية ولا فكرة ولا تصور للاقتصاد غير التصور الرأسمالي الفاسد ولا يختلف مطلقا عن نظام النهضة والذي قبلها نزولا حتى سبعينيات نويرة وقوانين افريل 72 اللي أطلقت العنان للعائلات لابسة الجزمات بعد إنهاء حكاية التعاضد العرجاء في نهاية ستينيات القرن. في ذلك الوقت قالوا للفقراء هاتوا بقرة مع بقرة وهكتار مع هكتار ونعجة مع نعجة وقالوهم ربوهم مع بعضهم سيكبرون ويصبحون قطيعا وهناشير واسعة وتزهى أيامكم. أما الكبارات من اصحاب الأملاك الواسعة فعلا فلم يمسسهم أحد ولا نظام لا من قريب ولا من بعيد. كانت حكاية التعاضد تدمير أسس حياة البشر البسطاء تمهيدا للتمكين للحيتان الكبيرة التي أعطتها قوانين 72 الأسس القانونية لتسيطر على الاقتصاد.. دخل المستثمرون وولدت الكمبرادوريات.. والكمبرادورات هم الوسطاء المرتدون نعالا تحتها جوارب متينة مزوقة تصل لحد الركبة، مثل التي يرتديها طبالو الأعراس عندنا( مع عتذاري الخالص لطبالي الأعراس)، الذين يشتغلون لحساب المستثمرين الأجانب، ويروجون سلعهم مقابل حصة من الفائدة. خدمت القوانين على مستويين اثنين : مستوى إنشاء مشروعات مغلقة للأجانب أساسا فرنسيس وطلاينة والمان يبحثون عن رخص اليد العاملة وهربا من الضرائب المرتفعة في بلدانهم واستغلالا للتسهيلات في تونس والمنتوج لا نراه ولا نلبسه ولا ننتفع به.. بل كله يتصنع ويتصدر بالكامل. والمستوى الثاني هو فتح السوق على آخره للمنتوج الأجنبي اللي خلق تلك الكمبرادوريات التي همها الأوحد محاربة إقامة صناعة محلية وإنتاج محلي لأنهم متضررون منها. وهكذا أقفلوا الباب على أي إمكانية لخلق الثروة بالإعتماد على الإنتاج المحلي
هل الحل بالنسبة للحرفي الذي اندثرت حرفته وغدا مهددا حرفيا في معاشه وقوته، هو عودة الروح لصناعة الأنوال؟ هل نعرف العذاب الذي يعانيه الذين اشتغلوا فيما يسمونه صناعات التقليدية وكيف ينتجونها ؟ وهل سيلهيك تزويق الألوان وزخرفها عن رؤية الدمار الجسدي الذي ينال الحرفيين عند انتاج زربية أو كليم أو عبانة أو أي قطعة من المنسوجات. وبعد كل هذا التعب لا يجدون سوقا لبيعها ولا قدرة شرائية للناس لاقتناءها، لأن السوق أصبحت بالكامل في قبضة تركيا والصين، عندما نقول هذه حرف سادت ثم بادت.. أمرها يشبه بئر ماء فارت لمدة من الوقت ثم غارت وانتهى أمرها. ولم يعد ثمة سياق إجتماعي أو ثقافي قادر على إعادة احتضانها. ما هو الحل اللي يوفره له النظام الرأسمالي المسيطر؟ يموت هؤلاء؟ يتسولون؟ يشتغلون حمالين أو مرماجية؟؟ هل جميع الناس أو أغلبهم عندهم قدرة أن يصيروا بغالا ويبيعون قوتهم الجسدية كل اليوم؟ أم سنقول لهم “اعمل عطرية ولا حماص؟.. ومساعدة ال200د ليست مضمونة والفقر ليس أبديا.. ودبر على روحك و”خدم مخك” ( يعني كن محتالا مثلما الآخرون محتالين) ودور الزيرو متاعك. وشوف قداش من واحد عمل مشروع ” ونجح”
تكبير..
هكذا …؟
أتذكر أنه في عام 2013 معتمد القيروان الجنوبية كان نهضاويا صاحب دباير. وديمقراطيا حتى شوشة الرس.. يدخل أصحاب الحاجيات مع بعضهم وليس على انفراد لمكتبه ليظهر لهم أريحيته وصدره المفتوح. وبعد ذلك يشرع بضرب بعضهم في بعضهم.. يشرع إنسان بالشكوى من سوء حاله ويحاول استعراض التفاصيل فيقاطعه ويقول له لست وحدك في هذا انظر لخونا هناك يعاني مثلك وأكثر منك. وهكذا يخجلهم من أنفسهم و يسكتهم ويتخلص منهم كلهم… والتدبير الوحيد الذي يعرضه على كل سائل ولكل من جاءه يشكو سوء الحال هي أعمل ” عطرية ” أعمل ” حماص” وعيش على 100د وبالشوية بالشوية.. إلى آخر الهراء..
ويأتي أصحاب الرساميل الكبيرة والمتقاعدين الشاكين من تردي الحال.. وحتى الموظفين المباشرين الذين يريدون زيادة في الخير فيفتكون كل شيء ويغلقون الساحة.. بالمشروع حذو المشروع.. وجميع ما يقيمونه هي مشروعات تجارية حقيرة لا تنتج ولا إبداع فيها ولا تخلق ثروة مستدامة ولا تساعد على نشرها أفقيا.. الشيء الوحيد الذي يبحثون عنه ويتناسب مع مستويات تفكيرهم وطموحهم الأوحد هو الفلوس. بيع أكثر ما يمكن من سلعة ولم لفلوس ولا يرحم من مات.
أغلب الناس مع الأسف مازالو يحلمون بالإثراء في ظل الراسمالية.. بل أكثر من ذلك، يعتقدون أننا لسنا رأسماليين بما يكفي لنتطلع للحياة المرفهة، وإذا نشرنا القواعد الرأسمالية( بعناوينها اللبيرالية” الشفافية” ” تحسين فرص التنافس”” الحوكمة الرشيدة” ” جلب لاستثمارات” “وتحسين المناخ الاجتماعي” الذي يعني القضاء على كل روح مطلبية ضمانا لسلامة الاستثمارات) والتزمنا بها نصير فعليا شعبا مرفها، مازالت رؤوسهم متخمة بالاوهام . وليس في تلك الأذهان من تصور للحياة وللانتاج والعمل غير التصور الذي صبته فيها الرأسمالية: إما براسمالك وانشيء مشروعك على مسؤوليتك ودبر رأسك ودس على غيرك اذا لزم. والقيام بهذا يعني أننا انتهينا قطعيا للإيمان أن النجاح الفردي هو السبيل الوحيد لإقامة نوع الحياة التي نريدها. وإمّا دبر عمل مع عرف صاحب مشروع واقبل شروطه كلها. العرف هذا لا يطلب منك فقط التفاني في العمل وخدمة مصالحه وتحقيق أقصى مستوى من الربح له، بل يطلب منك التفاني في حبه وطاعته هو أي ان يصير إذلالك اليومي وخضوعك له هو نهج حياتك. تدمير شخصيتك وتذويبها في الكاريزما لمهيبة للعرف، لا ترفع رأسك أمامه ولا تنظر لعينيه ولا تفه بكلمة أمامه غير حاضر سيدي. . فالإذلال ليس موضوعيا في خضوعك لضوابط الإنتاج الرأسمالية بل هو إذلال شخصي يتعلق بسلبه لشخصيتك وقدرتك على قول كلمة واتخاذ موقف. هذه الروح المتغطرسة واذلال البشر هي بصدد التتوسع وتستحوذ على الناس بشكل كارثي. صار كل إنسان مدار تفكيره، وحياته كذلك، أن يتغلب على غيره ويسيطر على الموقف خير من تكبد عناء فهم غيره.. فالهجوم سهل والدفاع صعب.
كما أن أغلب الناس في أيامنا هذه بفقيرهم وغنيهم.. لم يفض التباين الطبقي بينهم لولادة تباين ثقافي وفكري وقيمي يرينا حدودا واضحة بين تصورين متعارضين للحياة. أملاهما واقع اجتماعي وموضوعي، بل ثمة استلاب شنيع ضحيته الفقراء الذين يتبنون مقولات البورجوازيين في كل شيء.. في خصوص النجاح والحياة المرفهة والعلاقات والنظرة للآخرين.. هم في كلمة يريدون أن يصيروا مثلهم بورجوازيين.. لنأخذ هنا شخصا من ذوي الإعاقة في علاقاته مع الناس.. بصفته التي يوصمونه بها، يعني ” معاق سمعيا ” عادة فإن حجم البخس والإذلال الذي يلقاه من فقراء الحومة مماثل لما يلقاه من بورجوازييها. الكل يحملون نفس النظرة. يتشاطرون نفس الفهم.. ساقط من السلوم ” ” ما يسواش ” ” حالة اجتماعية “.. يستعارون منه ولا يصادقه تقريبا أحد، فهم بذا متخرجون من نفس المدرسة.. مدرسة بورقيبة الفاشية الخامجة اللي فرخت جملة من الرؤى التي نفخت الناس وأرتهم الأمور على غير أحجامها الأصلية، وجملة من العائلات الجاهلة التي تسيطر على الإقتصاد بأدوات بدوية.. لا يمكن تصنيفها بأنها ليبيرالية ولا هي شيء آخر.. هي فقط مجموعات من الكمبرادور التابعة.. يتفرعنون على الفقراء ويطاطئون الرؤوس في حضرة أسيادهم الأجانب، وعلى أثارها معظم الناس يهتدون.. فسعي أغلبهم ليس لتدمير سيطرة هذه العائلات وفك ربقتها عن الإقتصاد بل أن يصيروا عائلات مثلها.. ، تحكم باحكامها وتفتك وتملك وتسيطر وتكدس الفلوس، والمغلوب المحلي يقتدي بالغالب المحلي الذي هو مغلوب من غالب أجنبي، وهكذا يستمر توالد الأفكار القديمة ويعاد استنساخ القذارات، طالما عندنا عشرة من العباد يحتكرون الصوت العالي ويتبجحون بالنجاح الذي حققوه ويخلقون اللهفة الجاهلة على “الدولشي فيتا” في ظل الرأسمالية ويعطونك القواعد العشرة للنجاح.. التي ليس واحدا منها الثورة الكاسحة على الرأسمالية من أسسها. بل تحويل وجهة الأمر برمته في اتجاه صراع بائس مع ذواتنا، باعتبارها وجه قصورنا الأعظم، إذ نحن نفشل المرة تلو المرة في استنهاض القوى الكامنة في أعماق تلك الذوات، رؤية مثل هذه هي الصورة المعكوسة لتمكيننا للروح الليبيرالية الفردانية وترسيخا لتلك الأسس وبالتالي مد أسباب الشقاء إلى ما لا نهاية. وتصوير الأمر على أنه كفاح ومقاومة وصمود.. دغدغة للنوازع الفردانية وقتلا لروح التعاون بين البشر. فيما نحن ننوء تحت أعباء تصور ورؤية مثل هذين، لن تقوم لهذا العالم قائمة ولن يهنأ احد بحياته.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.