رأي | الشهادة مرآة للعقيدة الثورية

10/12/2024

حسن نصر الله في بيروت 1985 (وسائل التواصل)​​​​​​​

الشهادة مرآة للعقيدة الثورية: قافلة الاستشهاديين التاريخية

“فزتُ ورب الكعبة… والله ما فاجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقاربٍ وَرَد، وطالب وَجَد، وما عند الله خير للأبرار”. – الإمام علي بن أبي طالب (ع) مخاطباً قاتله بن الملجم في محراب مسجد الكوفة.

في مدرسة الإسلام الحسينية، الإنسان مسؤول ولو كان وحده، حتى لو واجهته قوة غاشمة تتحكم في مصائر الناس. هذا المبدأ يشبه إلى حد كبير، ويكاد يطابق، مَبدَأَنا الماركسي الحديث الذي يقول: “اعتبر نفسك الماركسي الوحيد، وباشر بالثورة”. لكن النهج الحسيني في “الشهادة” أقدم عهداً، وأكثر شمولاً وأقرب إلينا عقائدياً، لأنه من تراثنا وسيرة أجدادنا، وليس مستورداً. ورغم التضحيات الثورية التي قدمتها البشرية على مدار تاريخها، ليس لدى مفهوم “الشهادة”، بما يحمله من معاني ومضامين لدى أُمّتنا، ما يماثله في جميع الحضارات التي وجدت على كوكبنا، ولم تقدر حتى الثقافة الغربية على فهمه وسَبر غوره، إلى الآن، حتى بات “الاستشهاد” اليوم فعلاً يكاد يكون لا يصدَّق، وبات “الاستشهادي” بطلاً أسطورياً لا وجود له. إن مدرسة آل بيت رسول الله (ص)، الثائر الأعظم، هي التي علّمَت الرجال “فن الموت جيداً”، الذي حُرم منه العدو آنذاك وحتى اليوم، والأبطال وحدهم من أتقنوه واطمأنوا إلى نتائجه وسعوا إليه واستقبلوه بلا تردد.

الحسين ثائراً وأول الاستشهاديين

في عام ستين للهجرة، خرج الإمام الحسين بن علي، سبط رسول الله، ليواجه قدره الذي كان من قدر الأمة. اختار الجهاد طريقاً للجنة، والتزم المسار الشاق الذي قطعه أباه، معتنقاً مبادئ الثورة الإسلامية وتعاليمها وإرث جدّه المصطفى. كان ذلك الموقف، في هذه الفترة التاريخية بالتحديد، موقفاً يستعصى على الفهم لأولئك الذين قرأوا عنه، وحتى هؤلاء الذين عاشوه وقتها. آنذاك، وقد استفحلت السلطة الأموية وقبضت بأنيابها على الإمبراطورية بأكملها، لم يكن بمقدور أحد، وحتى صحابة رسول الله وآل بيته، أن يعلنوا الثورة على الطاغية يزيد، لأن بني أميَّة أبادوا كل من قال لا أو أثقلوهم بالذهب أو السلطة والجاه، أو لأن البعض استسلم وانعزل للتعبُّد والصلاة.

بعد خمسين عاماً من رحيل النبي الأعظم إلى الرفيق الأعلى، لم يبق أحد، وحكم الصمت والقلق في كل مكان من خراسان إلى دمشق، وعادت الجاهلية في ثوب جديد ومعها الطبقية والعنصرية، وأصبح الإيمان مُخدِّراً للأمة، ورُفعَت المصاحف على أسنّة الرماح. آنذاك، كان الإمام الحسين هو وارث الإسلام وتلك الثورة، ولكنه لم يرث جيشاً ولا سلاح ولا أي قوة أو سلطان، ولذلك كان دوره التاريخي يكاد يكون مستحيلاً. وبالمقابل، كان حكّام “الكعبة الخضراء” في دمشق يتحكمون في كل شيء وكل شخص، وكانت أفكارهم التي أشاعوها بسطوة السلاح والذهب ورجال الدين المرتزقة تصدَح وتطغى على المشهد، ولم يكن للحق نصيراً وكان للباطل أفواجاً مُؤلّلة.

ومن أعماق هذا الظلام الدامس، وحده الإمام الحسين كان البطل والمصير، وحده تمثَّلت فيه حركة التاريخ كما تمثَّلت من قبل في جدّه الثائر الأعظم، وقدَّم وحده الجواب الأمثل على سؤال العصر. لقد كان ومازال الإمام الحسين إلى يومنا هذا إنسانٌ تاريخي، منذ أعلن ثورته من مهد الأنصار وكعبة رسول الله، وقدَّم عقيدة جدّه روحاً للعصر، وروحه وجسده ورأسه المنحورة شواهداً على بعثها وتخليدها حتى آخر الزمان. توجّه الإمام الحسين بعد إعلان الثورة من جوار بيت الله بقوله “خط الموت على جيد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة”، إلى مدينة الكوفة، بعدما كثرت دعوات أهلها إليه أن “أقدم علينا فليس لنا إمام”، وغادر مكة إلى الموت وهو يعرف مصيره ومصرعه.

لم يكن ذلك انتحاراً، ولا مغامرة، ولم يكن نابعاً من يأس. كان تذكية للأمة وقرباناً للإنسانية، كان ثورة نحيا اليوم بفضلها. كان فعلاً تاريخياً، والأول من نوعه، والأعظم، والأشمل، والأكثر عطاءاً وثورية. كان خلاصة الخبرة الإنسانية والثورة المحمدية والتعاليم العلوية، تمثَّل الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، وصار عقيدة ومنهجاً ونهجاً حتى بعد مرور القرون، وإلى آخر الزمان. لم يكن ليكون الحسين هو الحسين الذي عرفناه لولا ثورته المستمرة إلى يومنا هذا وكربلائه، فبدونهما لا يكون الحسين سبطاً للرسول وابناً لعلي وممثلاً لقيم الإسلام والثورة. كانت شهادة الإمام الحسين، ولا تزال، الفعل الذي مثَّل إكليل زهور عقيدة الجهاد المحمدية، والذي استمرت أصالته حتى يومنا هذا، وبات اليوم يكتسب المزيد والمزيد من الأبطال التاريخيين الساعين إليه.

الجهاد عقيدةً والشهادة منهجاً: حزب الله نموذجاً

يشير الدكتور علي شريعتي، في كتابه «الشهادة»، إلى أن الفعل الاستشهادي في الأصل فعل تاريخي. في الشهادة، لا يمضي المرء إلى حتفه، على يد عدوه، ليقدم تضحية ويصبح اسمه شهيداً. الشهادة ليست الموت الذي يفرضه العدو على المجاهد، وإنما تعني أن يختار المرء، بوعي كامل وتصميم، طواعيةً، أن يواجه العدو في ساحة القتال، ويلحق به الهزيمة بالدم والموت، حتى لو كانت كل موازين القوى ضده. هكذا شهادة تكون ضماناً لحياة الأمة وأساساً لبقاء العقيدة، وإثباتاً للجريمة الكبرى وكشفاً لأقنعة الباطل، وصرخة غضب في صمت قطع الحناجر. وبهذا المعنى، لا تحفظ شهادة المجاهد مكانها في التاريخ وحسب. الشهادة، بالنسبة إلى شريعتي، ليست وليدة لحظتها أو محدودة بها، ولا هي بالحدث العابر، وإنما فعل يحرِّك التاريخ ويشكِّله ويوجِّه حركته، ويكون قدوة لمن يأتي ويريد أن يكون، وهي حضور إضافي للمجاهد في الحياة والتاريخ، ليست تراجيديا ولا وسيلة ما، وإنما منهج وأنبل هدف في حد ذاتها، ومسؤولية كبرى وصعود من أقصر الطرق إلى معارج الإنسانية.

يقدِّم الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، في كتابه «حزب الله»، إطاراً عقائدياً لمفهوم الشهادة. في الجهاد الدفاعي، وبقرار من الولي الفقيه بعد تقدير الظروف وجدوى الجهاد، وقواعد المواجهة وضوابطها، يتوجَّه المجاهد إلى مقارعة القوة الغازية دفاعاً عن الأمة والأرض. وقد يكون ذلك عملاً طويل المدى، تتفاوت فيه التضحيات وتتراكم مرحلياً حتى تحقيق النصر. والرغبة بالشهادة لا تضفي الشرعية على الاستهتار بالظروف أو المغامرة، لأن الشهادة ليست رمياً للنفس إلى التهلكة، والجهاد يعني الدفاع لإسقاط أهداف العدو بكل الوسائل الممكنة، ونتائجه لا تتحقق إلا تراكمياً وبعطاءات الشهداء والأسرى والجرحى. وبهذا المعنى، الجهاد هو صيغة تعاقدية ومبايعة مع الله، والتزام بالتكليف الشرعي الملقى على عاتق المؤمنين في الدفاع عن أنفسهم وأرضهم.

وبحسب الشيخ نعيم، فإن الأصل في الارتباط بالدين هو الاندفاع نحو الشهادة وليس الهروب منها، ولكن هذا لا يأتي إلا بعد تثقيف وبناء روحي وأداء عبادي، أي اكتساب المرء سمات شخصية خاصّة وفريدة من نوعها. عندما يتربى المرء على النصر هدفاً، يتوقف سعيه إلى مواجهة العدو عندما تكون موازين القوى ليست في صالحه. ولكن إذا تربى المرء على الشهادة، يكون آنذاك أكثر عطاءً، وينال ما ارتضاه إذا استشهد، وإذا انتصر حيَّاً فقد أنعم الله عليه بقطف ثمار جهاده في الدنيا. وبهذا المعنى، فالشهادة عمادها الإيثار الروحي، أي تفضيل الآخرة على الدنيا، والأمة على الفرد، والتضحية بالنفس في سبيل الله ودفاعاً عن المستضعفين.

يمكننا من خلال هذا النقاش أن نفَهم معنى الشهادة وفلسفتها. أولاً، هي فعل عنيف، يستهدف إلحاق أقصى الضرر بالعدو، حسب واقع الصراع وموازين القوى، وبواسطة أقصى وسيلة ممكنة. ثانياً، هي فعل طوعي إرادي يُقدم عليه الإنسان المتمسك بالحياة والحريص عليها، والمدرك لأهمية المواجهة مع العدو في سبيل تحقيق الأهداف الكبرى الاستراتيجية من دون تحقيق النصر المباشر. ثالثاً، هي فعل تاريخي لا يتوقف عند حدود عصره وزمانه، وإنما يمتد بجذوره وأصالته من الماضي إلى آخر الزمان، مُشكِّلاً التاريخ ملحمةً، وموجِّهاً حركته نحو النصر. هكذا كان الإمام الحسين عندما أعلن الثورة، كان أول الاستشهاديين وأعظمهم، والمُعلِّم الأول لـ “فنّ الموت جيداً”، وكان فاتح طريق التاريخ صوب آخر الزمان، مرشداً بمآثر كربلائه الثورة والثوار على مرّ العصور.

الاستشهادي والعنف الثوري

وفي الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1982، انطلق الشهيد أحمد قصير، فاتح عهد الاستشهاديين، بسيارة مفخخة بكميات ضخمة من المتفجرات، ونسف مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في مدينة صور بجنوب لبنان، وأوقع نحو 150 عسكرياً صهيونياً بين قتيل وجريح، ومع ما صاحبها من عمليات أخرى، اضطر العدو إلى الانسحاب في عام 1985 من أكثر من نصف الأراضي التي كان يحتلها. كانت هذه العملية الاستشهادية فريدة من نوعها في لحظتها التاريخية، وكانت فارقة في صعود المقاومة الإسلامية.

يشير الدكتور سيف دعنا، في دراسته «المقاومة الإسلامية في فلسطين»، إلى أن عملية الشهيد أحمد قصير أطلقت شرارة ثورة داخل المعسكر الفلسطيني، في وقت كان معظم الفلسطينيين فيه يعانون من الإحباط بسبب تمزُّق الصورة التي كوّنوها عن الفدائيين، كوادر وقادة منظمة التحرير الفلسطينية، وكانت انتفاضة 1987-1993 تعبيراً عن أزمة ثقافية استغلتها حماس بنجاح لبناء هيمنة مضادة. آنذاك ظهر فدائيون فلسطينيون من نوع جديد، الاستشهاديون، الفئة الأكثر عطاءً بين الشهداء، والقوة الأكثر أهمية في حماس خلال ذلك الوقت، وأحد الأسباب الأساسية في غزو حماس للمشهد الثقافي والسياسي في فلسطين، واستراتيجية تحررية وسياسية جديدة لنزع الشرعية عن الاستعمار الصهيوني في أعقاب اعتراف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود.

يطرح دعنا، في دراسته أن هذا النوع من الشهداء، بصفته الرمز الثقافي الجديد، هو ابتكار قدمه في الأصل حزب الله عبر إعادة اكتشاف كربلاء وبناء عقيدة مقاومة عربية ثورية جديدة. وفي مقاله «عدالة المستضعفين»، يحدّثنا دعنا عن استشهاديين جدد بعيون فرانز فانون، ويشير إلى دور العنف الثوري، ليس بصفته عنفًا مضادًا للعنف الاستعماري الهمجي وحسب، وإنما بصفته الوظيفية التحررية والنهضوية والإبداعية، والاجتماعية النفسية بشكل خاص. وهذه الأخيرة استراتيجيَا من نوعها، تكفل للمُستعمَر أن يتجاوز حالته الدونية التي خلقها المستعمِر في ذهن المستعمَرين، أي الشرط الأول للكفاح والثورة والمقاومة. وبهذا المعنى، يمكننا استخلاص أن الاستشهادي هو السلاح الأفتك في ترسانة العنف الثوري ضمن عقيدة المقاومة العربية الثورية الجديدة التي وطَّنها حزب الله.

إن قتل عدد من المستوطنين الصهاينة بوسائل لا تشمل التضحية بروح مجاهد واحد، لهو أمر واجب وتكليف شرعي وإلزام إلهي. ولكن إن لم يكن بمقدور المجاهدين إلحاق مثل هكذا ضرر إلا بالتضحية، عندها سيظهر الاستشهاديون من مثل أحمد قصير. هذا النوع من الاستشهاديين (المعروف في الغرب باسم الانتحاري) لا يحقق الانتصار ويقلب المعادلة وحده، ولكن شهادته تَسُد نقصاً في القدرات وعجزاً في ميزان القوى. وبهذا المعنى، فالاستشهاديون نوعان: الأول يُكلَّف مباشرة، في مرحلة معينة من مسيرة جهاده، بتقديم روحه وجسده فداء الأرض والشعب في مكان معين ولحظة محددة.

أما النوع الثاني، فهو شهيدٌ منذ الخطوة الأولى التي يخطوها في طريق الجهاد مقبلاً على الشهادة ومنتظراً الفوز بها في أي لحظة حسب إرادة الله. هذا الأخير هو الشهيد الأخطر على العدو من حيث إحداث الأضرار في المدى المتوسط والطويل، وهو النوع الذي لا تتوقف شهادته عند حدود اللحظة التي يفارق فيها الحياة، وإنما يصبح فعله هذا تاريخياً، ليس بمعنى أن التاريخ يُخلِّده، وإنما بمعنى أنه يوجّه حركة التاريخ ويشكِّل مسارها. هكذا كان الإمام الحسين أول الاستشهاديين التاريخيين، وهكذا هو السيد نصر الله.

مأثرة سيد شهداء المقاومة

في تسعينيات القرن الماضي، العقد الذي صدحت فيه أسطورة “نهاية التاريخ”، وقد تفكك الاتحاد السوفياتي وثبَّتت الإمبراطورية الأميركية هيمنتها على العالم، كان مسار حركة التحرر العربية مظلماً وكان الجميع يعتقد أن الثورة والمقاومة والتحرر في هكذا ظروف أمرٌ يكاد يكون مستحيلاً، باستثناء استشهاديّو هذا الزمان. كانت مصر خارج المعادلة، ودخل العراق في حرب، ومضت فلسطين في أوسلو. لقد كانت مرحلة جزر عصيبة لقوى التحرر عربياً وعالمياً، لكن التاريخ في جعبته الكثير من المآثر.

وفي الثامن عشر من شباط عام 1992، ألقى السيد نصر الله خطابه الأول بصفته أميناً عاماً لحزب الله، خلال تشييع الشهيد السيد عباس الموسوي في البقاع، وقال كلماته الشهيرة: “هذا الطريق سنكمله، لو قتلنا جميعاً، لو استشهدنا جميعاً، لو دمّرت بيوتنا على رؤوسنا لن نتخلى عن خيار المقاومة الإسلامية”. بهذه الكلمات، لم يكن السيد نصر الله يعلن أنه سيكمل مسير السيد الموسوي وحسب، وإنما كان يعلن مرحلة جديدة، كانت أولى خطواتها دخول صواريخ الكاتيوشا إلى المعركة مع الكيان الصهيوني لأول مرة، بعد ساعات من هذا الخطاب، وقصف المقاومون بها مستعمرات شمال فلسطين كرد على اغتيال السيد الموسوي.

كانت هذه أولى كلمات السيد نصر الله الذي عرفناه، نحن الذين نشاهده ونسمعه ونقرأه عبر الشاشات، ولم تكن هذه الكلمات محدودة بلحظتها، وإنما حَملَت في طيّاتها الماضي الأصيل المُتأصِّل في الحاضر والممتد إلى أعماق المستقبل، وكانت مكثَّفة إلى درجة يمكن من خلالها قراءة العهد الذي قطعه السيد نصر الله، ليس بصفته الأمين العام الجديد وحسب، وإنما أيضاً بصفته الشخصية، وبكامل حياته ومن معه، إلى ربه وإلى المجاهدين وإلينا، بأن المقاومة هي الماضي والحاضر والمستقبل، وأن الجهاد هو الطريق الوحيد لانتزاع الكرامة والأرض والحرية وتحقيق النصر، وأن الشهادة هي سبيل الخلاص والهدف الأنبل والأنقى والأكبر. بهذه الكلمات، أعاد السيد نصر الله “الشهادة” إلى الصدارة مرة أخرى، ليس بصفتها وقائع تاريخية، وإنما عقيدة في الحياة ومنهجاً في الموت، وأعلن أنه ومن معه استشهاديون على طريقة الإمام الحسين ومن ناصره.

وفي الرابع عشر من تموز عام 2006، قال السيد نصر الله للصهاينة في خطابه الأول خلال الحرب “أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون، أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي والحسن والحسين وأهل بيت رسول الله وصحابة رسول الله، أنتم تقاتلون قوماً يملكون إيماناً لا يملكه أحد على وجه الكرة الأرضية”، وأعلن بعد ذلك استهداف البارجة العسكرية الإسرائيلية في البحر قبالة بيروت قائلاً “انظروا إليها تحترق”، ورأيناها تحترق. رغم الاختلال الكبير في ميزان القوى، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً، قام السيد نصر الله بتوطين المقاومة نهجاً متأصِّلاً في تاريخنا وتراثنا وثقافتنا وحضارتنا. بهذه الكلمات، استدعى السيد نصر الله خلاصة الثورتين المحمدية والحسينية، وقدم عقيدة مقاومةٍ عربية روحاً للعصر، وإجابة على سؤاله.

رأيناه يودِّع ابنه الشهيد هادي قائلاً “اللهم تقبل منّا هذا القربان”. ورأيناه يقول “أوهن من بيت العنكبوت”، و”هزمت الروح هنا الروح هناك”، وتأكدنا من ذلك بأمّ أعيننا وكان محقاً. رأيناه يصدَح “أبالقتل تهدّدني، أما علمتَ بأنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة”. هذه هي العقيدة الثورية، وهذا هو القائد التاريخي، وكلاهما لنا وللإنسانية والتاريخ. عاش السيد نصر الله طوال هذه المسيرة العظيمة شهيداً يوجّه المجاهدين وحركة التاريخ، ويصنع من العروبة والإسلام إكليل زهور أبطال تاريخيين جدد نشهدهم اليوم، ونظام عالمي جديد نشهد مخاضه الآن.

الطوفان العظيم.. ملحمة الاستشهاديين

عاد مَد حركة التحرر العربية يتراكم ببطء مع الانتصارات المتتالية لحزب الله والمقاومة اللبنانية، وانتصار حماس بالانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 في غزة. وفي العقد التالي، دخل عالمنا العربي في دوامة وأحداث عاصفة، وأصبح جزء من الأراضي العربية مرتعاً لقوى الظلام وعلى رأسها ’داعش‘. ومع ذلك، كانت هذه الفترة التي تبلور فيها محور المقاومة بشكله الذي نعرفه اليوم. تراجع النهج التقليدي للإخوان في غزة مع صعود الشهيد القائد السنوار والقيادات الجديدة التي عززت علاقاتها بأطراف المحور، وطهَّرت المقاومة العراقية أرض البلد من التكفيريين، في حين استطاع أنصار الله درء جيوش ومرتزقة السعودية والإمارات وتشكيل حكومة تسود اليوم ثُلثَ البلد تقريباً، بينما فك حزب الله الحصار المفروض عليه وحررّ خطوط إمداده بين لبنان وسوريا، واستعادت الأخيرة آنذاك جزءًا كبيرًا من أرضها.

وفي العقد الجاري، رغم أننا شهدنا في عام 2021 خلال معركة سيف القدس، أول تطبيق متماسك لمفهوم “وحدة الساحات”، كانت فلسطين غائبة عن المسرح العالمي، وكانت القضية برمتها في مربع الخطر، وكانت مشيخات الخليج تسير مندفعة في طريقها الإبراهيمي، ومصر تعزز علاقتها بالكيان الصهيوني أكثر من أي وقت مضى. كان مشهداً قاتماً رغم التصاعد التدريجي لمَد حركة التحرر العربية، وكان جيش العدو الصهيوني يحتفظ بمعادلة ردع قوية إلى الحد الذي جعل البعض يعتبره “قوة مطلقة”، وكانت أيضاً موازين القوى في صالحه. كان ذلك هو ظاهر الأمر، آنذاك، ولم يكن أحداً بمقدوره أن يتخيَّل انقلاب موازين القوى لصالح المقاومة، في هذا التوقيت وبالطريقة والسرعة التي انقلبت بها، ولكن التاريخ في صفنا ولديه المزيد.

وفي صباح السابع من تشرين الأول عام 2023، رأينا قائداً عربياً يعلن الثورة. سمعنا القائد محمد الضيف يصدَح من فضاء الصمت “انتهى الوقت الذي يعربد فيه [العدو] دون محاسب، إننا نعلن بدء عملية طوفان الأقصى”. سمعناه يقول “يا جماهير شعبنا وأمتنا، يا أحرار العالم، اليوم يتفجر غضب الأقصى، غضب شعبنا، غضب أمتنا، غضب أحرار العالم”، ويوجِّه المجاهدين “اقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم”، ويؤكِّد “اليوم، يستعيد شعبنا ثورته، ويصحح مسيرته، ويعود لمشروع التحرير والعودة وإقامة الدولة، بالدم والشهادة”. ورأينا بأم أعيننا مقاومين فلسطينيين، استشهاديين، يعبرون بالطائرات الشراعية والصواريخ من غزة إلى أرض عربية محتلة، وجنود المستوطنين الصهاينة يسحقون بأيادٍ عربية، وعادت فلسطين قضية العالم، وصار بإمكان الذين لم يكونوا يصدقون أن يتأكدوا من أن الكيان الصهيوني شيء مؤقت وعابر.

وفي الثامن من تشرين الأول العام الماضي، بعد يوم واحد من انطلاق المعركة، أطلق حزب الله صواريخ وقذائف مدفعية على المواقع التي تحتلها إسرائيل في مزارع شبعا اللبنانية. وبعد أيام، في الثامن عشر من الشهر ذاته، استهدفت المقاومة الإسلامية في العراق القاعدة الأميركية في عين الأسد في الأنبار بطائرات مسيرة. وفي الواحد والثلاثون من الشهر نفسه، أعلن اليمن بشكل رسمي عن تنفيذ ثلاث عمليات عسكرية، بدفعة كبيرة من الصواريخ الباليستية والمجنحة وعدد كبير من الطائرات المسيرة، ضرب خلالها أهداف مختلفة في الأراضي المحتلة.

في هذه المعركة، رأينا كيف يواجه المقاوم الغزّيّ الدبابات وجهاً إلى وجه ويسحقها، وكيف يواجه استشهاديو الضفَّة أعتى الجنود بالسكاكين وينتصرون. رأينا كيف يُخرج مجاهدي حزب الله المستوطنين من الأراضي التي احتلوها بعد أن فقأوا عيون جنودهم. وقرأنا عن صرخات الجنود الأميركيين في العراق وسوريا. وشاهدنا مقاتلي اليمن الحفاة يطاردون ويقصفون أعتى أسطول عسكري على وجه الكرة الأرضية. رأينا كيف يقف التاريخ في صفّنا، وكيف يفتح لنا آفاقه، وكيف تستجيب المقاومة. رأينا الأرض تعود، وقادتنا في الأقصى يُصَلّون بعد الفتح. مع الانطلاقة، لم تكن موازين القوى في صالحنا، ومع ذلك أقدم المقاومون العرب على صناعة التاريخ، ودفعوا بدمائهم حركته في مسارها، وقدّموا ملحمة بعمر عام ونيف، مازالت مستمرة، كل مجاهديها استشهاديون، كل مقاوميها أبطال تاريخيين.

ثم ودّعنا أشرف من فينا

في الثالث من تشرين الثاني العام الماضي، أكَّد السيد نصر الله للجميع، في أول خطاب له منذ انطلاقة طوفان الأقصى، أن المعركة “من أجل فلسطين… وشعب فلسطين”، معلناً أن انضمام حزب الله وجبهات المقاومة للمعركة يستهدف إسناد المقاومة والشعب في فلسطين، وهو الأمر الذي أعاده علينا مراراً حتى خطابه الأخير، الذي قال لقادة ومجتمع العدو خلاله أن “جبهة لبنان لن تتوقف قبل وقف العدوان على غزة”، وأكَّد للجميع “أيّاً تكن التضحيات، أيّاً تكن العواقب، أيّاً تكن الاحتمالات، أيّاً يكن الأفق الذي تذهب إليه المنطقة، المقاومة في لبنان لن تتوقف عن دعم ومساندة أهل غزة وأهل الضفَّة والمظلومين في تلك الأرض المقدَّسة”. في هذه الخُطَب والكلمات التي ألقاها علينا طوال المعركة، كان يقول ويؤكد أن الاستشهاديون الحسينيّون في لبنان يخوضون معركة للتاريخ، وهو على رأسهم، بايع معهم الله، منذ اللحظة التي وطأت فيها قدمه طريق الجهاد، على التضحية انتصاراً للمظلومين وإحقاقاً للحق والدين.

وفي التاسع والعشرين من أيلول الماضي، ترجَّل سيد شهداء المقاومة، وتاج رؤوسنا، إلى الرفيق الأعلى، بعد مسيرة لا نظير لها في التاريخ الحديث كله. هذا القائد الشهيد، سمعناه يهتف ويصدَح في الطريق إلى القدس، طوال مسيرته، بقول جدّه الإمام الحسين لبني هاشم “من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلَّف لم يدرك الفتح”، ورأيناه يُفدينا بروحه وجسده ويرتقي شهيداً في ميدان معركة الإسناد، ناصراً للمستضعفين ومعيناً لهم، ومدافعاً عن الأمة العربية والإنسانية والتاريخ. وليست مأثرة السيد نصر الله أنه وطَّن نهج المقاومة بعقيدة من تاريخنا ووفَّر رأس حربتها الأيديولوجية وحسب، وإنما أيضاً، وبالأساس، لأنه أعاد إلى الإسلام المحمدي وهجه وروحه الثورية. وحده السيد نصر الله تمثَّلت فيه حركة التاريخ وقدَّم الجواب الأمثل على سؤال العصر. هو حسين العصر، أدّى دوره على أكمل وجه، وبقي علينا نحن الأحياء أن نكون زينبيون، ونكمل طريقه على خطى التاريخ ومسار حركته.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.


المراجع

علي شريعتي. (2007). الشهادة (ط 2). بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم.

نعيم قاسم. (2010). حزب الله: المنهج – التجربة – المستقبل (ط 10). بيروت: دار المحجة البيضاء.

سيف دعنا. (2014). عدالة المستضعفين: من سوسيولوجيا العنف الثوري. بيروت: جريدة الأخبار اللبنانية

Seif Da’na. (2009). Islamic Resistance in Palestine: Hamas, the Gaza War and the Future of Political Islam. Journal of Holy Land and Palestine Studies, 8 (2), 211–228.

مقالات ذات صلة

  • محور المقاومة ما بعد القائد

    تُعدّ معركة "طوفان الأقصى" علامة فارقة في مسار الصراع العربي الصهيوني، إذ تمكنت المقاومة من قلب المعادلة عبر الانتقال من…

    رأي

    blank
  • المقاومة أطلقت ورشة ترميم هيكليتها وقدراتها

    جريدة الأخبار | العدد 5318 | 2024 - 10 – 10 ابراهيم الأمين منذ عام، قبلت المقاومة وناسها التحدي الأكثر…

    بلا حياد

    Gzgzqhcwaaubkve (1)
  • نفس العدو هنا وهناك: يد تقصف وتغتال ويد توقع اتفاقيات

    “بدها طول نفس…" شيرين أبو عاقلة اغتالت الهمجية الغربية البيضاء سماحة السيد حسن نصر الله، سيّد المقاومة. اغتالوه ونحن هنا…

    بلا حياد

    blank
  • تونسيون يحتفلون بالرد الإيراني على الكيان الصهيوني

    تجمّع العشرات من المواطنين مساء اليوم الثلاثاء، أمام المسرح البلدي بالعاصمة تونس، وذلك احتفالاً «بالضربات الإيرانية على الكيان الصهيوني» ودعماً…

    الأخبار

    blank