“حيّ النسيم” بولاية أريانة، هذا الحيّ الذي اشتهر اعلاميًا بأنّه “من أشدّ الأحياء خطورة” بسبب تكرار ذكره في أخبار تتعلّق بـ”الارهاب”، له قصّة أخرى تستحقّ أن تُروى. هذا المقال بقلم احدى المقيمات به حديثا. وهو بمثابة شهادة عمّا رأته مؤخرا اثر انتشار وباء كورونا ببلادنا.
بقلم خلود الهداوي
—
أثّر تعوّد الناس على الوعود والتحذيرات الكاذبة التي يطلقها رجال السياسة بأن باتت تشبه في اللاوعي الجمعي والفردي حكاية الراعي والذئب : ذاك الذي كان يرعى أغنامه الى مشارف القرية وفي كل مرة يصيح لقد هاجمني الذئب فيهرع له الناس ثم يكتشفون كذبه، حتى إذا هاجمه الذئب يوماً لم يقدم أحدٌ لنجدته.
تلك هي علاقة انعدام الثقة بين عامة الناس والراعي السفيه، وهو الحكومة هنا أو من يمثلها. فعندما غرس الوباء أنيابه كانت قاسيةً ومتوحشةً خاصةً على جلود المفقرين في بلادنا. وكانت التحضيرات والدعوة إلى “التباعد الاجتماعي” تحمل في طياتها ملامح قاسية تتجاوز الجانب الصحي إلى الانغلاق والأنانية (أنجُ يا سعد لقد هلك سعيد ). مرّت الأيام الأولى كئيبةً ورتيبةً. كنت أجمع فيها أفكاري ولكن سرعان ما عاودتني وساوسي القديمة : وكيف لضعاف الحال والمُفقّرين من حولي أن يصمدوا وقد أطبق عليهم الفقر والحجر ؟
بدون تفكير خرجت أسأل تاجر المواد الغذائية عن حال الناس وحال “الكريدي” معه. وسرعان ما وجدت نفسي وسط جمعٍ كلٌ فيه يشكي حاله، إلى أن جذبني احدهم إلى منزل عجوز وبدأ يروي لي قصصا لم أكن استوعبها… شرد ذهني وغمرتني الأسئلة: كيف ؟! أنا التي قدمتُ من جهةٍ داخلية أخذت حصتها من الفقر والخصاصة وحافظت دائما على ترتيبها في أسفل جدول معدلات التنمية، حتى عندما انتقلت إلى العاصمة كان نصيبي فيها حيٌ شعبيٌ يُصنُّف بـ”الخطير” في نشرات الأنباء ويتصدر صفحة صدى المحاكم في جرائدهم !
كيف؟ لا يمكنني أن استوعب هذا الكم من البؤس والفقر. لن أصف ما رأيته في منزل العجوز المتهاوي التي لم تملك غير أن تهديني كأساً من الماء بمناسبتي زيارتي الأولى لها. لن أصفه، فلا كلمات بامكانها وصف تفاصيل الصورة المنطبعة بذهني. خرجتُ من المنزل وأنا ألعن نشرات الأنباء والصحف. عبارة واحدة قفزت الى لساني: لا ليس هو بـ “الحيّ الأكثر خطورةً”، كما يصفونه… بل هو فقط الحيّ الأكثر فقراً!
لم يتبادر بذهني المشوش سوى وجوه رفاقي. حملت هاتفي وخرجت الكلمات مشوشة غير مرتبة، كعادتي عندما انفعل : “في حيّ النسيم الناس جاعت!” ولم يكن الرفاق في حيرة من أمرهم هذه المرّة… وسرعان ما امتدّت أياديهم لتقتسم لقمة العيش وتجمّعت القطرات لتصنع سواقٍ … هذا ما علينا فعله.. عوض التبرّم واضاعة الوقت.. فلنحاول أن نكون مع شعبنا ولنزرع بعض الأمل في نفوس أرهقتها الحاجة وتعففت عن ذلّ السؤال…